شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"هل ستكتب شيرين أغنية تثور بها أخيراً؟"… عن الأغنيات الحزينة وأشباح الغسيل التي تطاردني

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الخميس 17 نوفمبر 202204:03 م

لن أنسى ذلك اليوم الذي ذرفت فيه دموعي سيولاً لأشطف بها أرض منزلي، كنت أريد أن أنظف كل شيء، وأن أمسح كل شيء. 

لم تكن دموعاً شفافة بل كانت تشعل في داخلي غضباً متراكماً. 

بكيت كثيراً، ومن ثم قمت بنشر الغسيل، وترتيب الملابس النظيفة.

عدت للبكاء أمام طاولة الكي، كنت أريد أن أمسد كل العثرات، والعقبات، وأن أحرق تلك الزوائد. 

كان علي أن أغير كل شيء، كي لا أملأ دلاء البيت بدموعي، وأكرر مسح الأرض مرة بعد مرة.

 وكنت أثناء ذلك أستمع لقائمة متسلسلة من أغنيات شيرين "الحزينة" المفضلة لدي.

وبينما يأخذ فعل التنظيف العميق والمتكرر شكل التطهير، ويشير إلى نهايات حتمية لا بد أن تأتي في سبيل الخلاص من واقع مر، يستغرق التنظيف الحقيقي لحياتنا وقتاً أطول وجهداً نفسياً هائلاً يجب التعامل معه بحذر بالغ تماماً كما نتعامل مع مادة "الكلور" أثناء التنظيف، فيمكن لزيادتها أن تقودنا إلى المستشفى في واقع الحال. 

بينما يأخذ فعل التنظيف المتكرر شكل التطهير، ويشير إلى نهايات حتمية لا بد أن تأتي في سبيل الخلاص من واقع مر، يستغرق التنظيف الحقيقي لحياتنا وقتاً أطول وجهداً نفسياً هائلاً

غيرت كل شيء بالفعل، لكن أشباح الغسيل ظلت تطاردني، فكلما هممت لنشر الغسيل أسمع موسيقى لأغنية لشيرين في رأسي: "مش فاضل لي مني غير حتّة جروح". 

وكلما حاولت طرد الأغنية لاحقتني واحدة أخرى: "ببعد ساعتها عن كل حد أنا بعرفه… ". 

أحاول أن أوقف سيل أغنيات شيرين، بعد أن قرأت في مكان ما أننا يجب أن نسمع أغنيات مفرحة وسعيدة، كي يسمعها عقلنا الباطن ويصدقها. 

ألغي أغنيات شيرين من قائمة أغنياتي المفضلة، يستغرق الأمر وقتاً طويلاً. فشيرين ترافقني منذ أن غنت "آه يا ليل". 

أما بعد شيرين، فماذا أسمع؟ 

أبعد عني أشباح الغسيل وأفتح الباب لأغنيات جديدة ولحياة جديدة. 

وأحاول بقرار واعٍ أن لا أنجرف إلى حقل ألغام أغنيات الشقاء والتعاسة، والقلوب المتكسرة والجروح المتفتحة، كما أحاول أن أنشر الغسيل على إيقاع أغنيات تبعث على التفاؤل، وتتجاهل مصائب الحياة. 

لكنني أقرأ أن شيرين تدخل المصح، وأن شقيقها يعنفها، وأن زوجها يعنفها، وأنها قد حاولت أن تعلن طلاقها منه، ومن ثم عادت إليه، ويبدو أن كل ما يحصل لشيرين حزين ومتشابه مع قصص الكثيرات من النساء حولي، ممن لم يغنين أغنياتها البائسة من قبل.

أقرأ أن شيرين تدخل المصح، وأن شقيقها يعنفها، وأن زوجها يعنفها، وأنها قد حاولت أن تعلن طلاقها منه، ومن ثم عادت إليه، ويبدو أن كل ما يحصل لشيرين حزين ومتشابه مع قصص الكثيرات من النساء حولي.

وأحاول أن أفهم تفاصيل القصة، لكنها ليست بحاجة لشرح وتفصيل، من الواضح أن شيرين تتعرض لضغط هائل، ويقابل نجاحها المهني حياة شخصية لا يمكن وصفها بالسعيدة أو الهادئة بأي حال من الأحوال، بل يبدو أنها مكسورة كقلبها في أغنية: 

"طريقي ولازم أمشي فيه، مكتوب عليا ومكتوبة عليه

لا أنا قادرة إني منه أرجع 

ولا عارفة حتى نهايته إيه".

أزداد وعياً بأن علي أن أخفف من جرعة شيرين العاطفية في حياتي.  

وكم تمنيتُ لو أبعدت شيرين عن نفسها أيضاً أشباح الغسيل، وأثقال الأغنيات الحزينة، ولو تمكنت صديقاتي جميعاً من إزاحة آلامهن العاطفية والعائلية، لكن الأمر ليس سهلاً، فالتمرد له أثمان باهظة، وله عقبات لا يمكن للجميع التعامل معها أو حتى تحملها. 

فإذا كانت شخصيات نسائية عامة تحظى بدعم وجمهور عريضين، غير قادرة على الخروج من الأعراف الأبوية والسلطات المجتمعية الذكورية، فكيف تنجو من لا يسمع صوتها أحد؟ 

احتضان الألم

أحب ألمي وحزني وأحتضنهما في أمسياتي الهادئة أثناء الكتابة، وأرفع عني أوزار السعادة الملحة وطرق البحث عنها، ومقولات الطاقة الإيجابية، فأنا أعتقد أن أسوأ ما أعطتنا إياه علوم الذكاء العاطفي هو فكرة الطاقة الإيجابية، التي تحول آلام الآخرين إلى طاقة سلبية علينا الابتعاد عن التفكير بها. 

هل أغلق عيني وأذني إذاً عن كل القصص التي أسمعها يومياً؟ 

إذا كانت شخصيات نسائية عامة تحظى بدعم وجمهور عريضين، غير قادرة على الخروج من الأعراف الأبوية والسلطات المجتمعية الذكورية، فكيف تنجو من لا يسمع صوتها أحد؟

لم يكن ذلك أمراً يمكنني التعامل معه، أنا التي تركت خلفها بلداً أحمر لا يزال ينفث دخان الحرب، ويشبع الأخبار العالمية بحكايات الانتهاكات الإنسانية التي يمكن وصفها  "بالخلاقة"، والتي تحاكي جميع غرائز الموت والقتل والشهوانية، وتصنع من الأخبار اليومية شيئاً يشبه الناقوس الذي يدق إلى درجة تتجاوز عتبة الإنصات فلا يمكن أن نسمعها، فهي أخبار سيئة حد العمى، وهو ما يبرر حاجتنا الملحة إلى تجاهلها، على حساب الطاقة الإيجابية التي نسعى إلى تخزينها بحثاً عن "السر" الذي سيجذب إلينا كل مكنونات الكون الصديقة لنا!

لم تكن تعنيني الطاقة الإيجابية منذ أن فهمت معناها، لكنني أيضاً لم أرد أن أكون تعيسة، خاصة أن شيرين عززت في رأسي ألمها الخاص، ورسمت لحياتي أطراً غنائية، ومحطات وقرارات مفصلية، جعلتني ألمس شيئاً كانت تريد أن تقوله هي أيضاً، هو ليس صوت عقلي الباطن، بل هو يشبه أصواتاً كثيرة ممن عرفت من النساء في حياتي. 

فسحة للأمل

"لسة في الأيام أمل مستنينه"... تغني إذاً للأمل، يمكنني ربما أن أشطب الأغنيات الحزينة وأن أحافظ على الأمل. 

لكن أشباح الغسيل ودموع التنظيف، وطاولات الكي لا تزال محاصرة بأغنيات شيرين التي تذكرني بانكسارات قلبي البعيدة والقريبة، وبالمكان البارد الذي أعيش فيه، وبعائلتي التي ابتعدت عنها آلاف الأميال، وببيتي الأول وبالحب بكل ما يحمل من معان، ابتداء بحب الحياة نفسها وانتهاء بقبلة على وجنة طفلتي الغضة. 

 يجب أن أكون سعيدة هنا، وأن أطرد أغنيات شيرين الحزينة من رأسي، وأن أتجرع السعادة مع قهوتي الصباحية، تحت الغيوم الأوروبية الرمادية، قطرة قطرة كي أعوض ما ذرفته من دموع لتنظيف الأرضيات. 

ولكن هل ستنتهي قصص شيرين في واقع الأمر بطريقة "إيجابية"؟ وهل ينتصر الأمل في قصتها مع التعنيف والأبوية والضغط المجتمعي؟ أم أنها ستبقى حبيسة أشباح الغسيل ودموع المسح والتعزيل، والكثير من القصص الحزينة التي لم تغنها بعد. 

لا أعتقد أننا سنسمع عنها أكثر مما سمعنا حتى الآن، بل أعتقد أنها ستختفي شيئاً فشيئاً تحت الضغوط التي تمارس عليها بشكل علني، وتحت أضواء التلفزيونات العربية، وبين مطرقة رضوى الشربيني وسندان حسام حبيب. 

أسأل نفسي هل كانت الأغنيات حقاً تكتب قصص حياتنا؟ وإذا كان لحياة كل منا أغنية خاصة، فماذا ستكون؟

وأما نحن الذين نملك من "المشاعر" ما يكفي لنحب شيرين بحزنها وضعفها، ننتظر أن نسمع منها أغنية تغير ما مضى، وترمي خلفها بعض الأغنيات أيضاً كتلك التي تقول مثلاً: 

" عايزني أحبه وامشي في سكة مغمضة وياه

وأصبح ألاقي نفسي ضحية جديدة من ضحاياه 

وآخد سنين دموع وعذاب وندم وأنا بنساه"

أسأل نفسي هل كانت الأغنيات حقاً تكتب قصص حياتنا؟ وإذا كان لحياة كل منا أغنية خاصة، فماذا ستكون؟ 

وهل ستكتب شيرين أغنية تثور بها أخيراً من أجلها، ومن أجل النساء المنتظرات للأمل الذي ألقت به كوعد لنا في إحدى الأغنيات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard