خمس دقائق أو أقل، كانت فاصلةً بين أن يتحول اسمي من سائحة إلى ضحية نسفتها قنبلة موقوتة مع بقية الضحايا الذين كانوا هدفاً للتفجير الإرهابي الذي استهدف شارع "تقسيم" في إسطنبول، قبل أيام، من قبل فتاة تجاهلت كل مظاهر الحياة من أنفاس، وضحكات، وموسيقى، وأرواح كان يعجّ بها ذلك الشارع لحظة وقوع الانفجار.
لم تمضِ 12 ساعةً على وصولي إلى إسطنبول قبل حدوث الانفجار، وكنت نزيلةً في واحد من فنادق تقسيم، تستطيع أن تحفظ المنطقة عن ظهر قلب في أقل من ساعة. كنت في الشارع قبيل وقوع الانفجار، ولأنني اعتدت أن ألحق الإشارات الربانية، وأدرك قوتها في تسيير منحى حياتي، فأنا أستطيع أن أؤكد على الصفة التي أطلقها عليّ أحبائي بعد حدوث الانفجار، بأنني لست سائحةً والحمد لله لست ضحيةً، لكنني "ناجية"، حتى أنني مازحت صديقتي قائلةً لها: "أنا ناجية، يعني يجب أن أجري مقابلةً صحافيةً مع نفسي"، كما اعتدت أن أقوم مع الناجين من الكوارث وفق عملي كصحافية.
خمس دقائق أو أقل، كانت فاصلةً بين أن يتحول اسمي من سائحة إلى ضحية نسفتها قنبلة موقوتة مع بقية الضحايا الذين كانوا هدفاً للتفجير الإرهابي الذي استهدف شارع "تقسيم" في إسطنبول
لست قادرةً على وصف حالتي النفسية، لأنني ما زلت تحت وقع الصدمة، أحاول أن أحزر المكان الذي كنت سأحتمي به في "تقسيم"، في حال كنت قد حسمت قراري بأن أبقى في الشارع بدلاً من العودة إلى الفندق مشياً حتى أرتاح قليلاً قبل موعدي عند الساعة السابعة مساءً في اليوم نفسه. هل كنت سأركض في حال لحقت وقوع الانفجار؟ أم كنت سأتقوقع على جسمي وأحتمي بالأرض؟ هل كنت سأبحث عن أطفال أو عن كبار السن لأحاول حمايتهم؟ أم أنني سأغمض عيني وأدعو من قلبي ألا يموت أحد؟ من الذي سيكون أول من سيخطر على بالي في تلك اللحظة؟ أكيد شقيقتي الكبرى حنان! لم يحدث كل ذلك والحمد لله، لكنني من خلال هذا المقال سأحاول أن أسرد جزءاً من تجربتي أيضاً كجزء من عملي الصحافي.
لست قادرةً على وصف حالتي النفسية، لأنني ما زلت تحت وقع الصدمة.
كثيرة هي الأشياء التي تلفت انتباهك في شارع "تقسيم"؛ اللهجات واللغات المختلفة، والثقافات والأيديولوجيات المتنوعة التي تلاحظها من خلال "ستايلات" المتواجدين. فأنا، كأي أردنية، أمارس التحديق في الوجوه الغريبة عني. رأيت المنقّبة، والمثلي، وصاحبة الضفائر الفوشيا، والكثير من ذوي الإعاقة، حتى أذكر أن هذه الجزئية لفتت انتباهي جداً واحترمت الشارع الذي هو صديق لهذه الفئة الأكثر قرباً إلى قلبي. سمعت اللغة التركية، والروسية، والكثير من العربية، وحاولت تجاهل الأردنية حتى لا أضعف أمام عاطفتي وأجد نفسي "أتحركش" بالأردنيين، فمن قواعد رحلتي التي لم تكتمل أن أتعرف إلى أناس جدد. سمعت موسيقى الناي في الشارع، ومواويل تركيةً يغنّيها شبان على قارعة الطريق، وسمعت صوت أذان العصر وعلّقت على صوت المؤذن قائلةً: "الله الله على هذا الصوت!".
كنت في جولة صباحية عند البحر، صباح ذلك اليوم، لكنني عدت إلى تقسيم لكي أستجيب لنصيحة صديقي بأن أجرّب مطعم كباب هناك، وبالفعل هذا ما قمت به؛ تناولت الغداء وتصورت في ميدان "تقسيم"، ونشرت الصورة على إنستغرام وكتبت أسفلها: "هوا، وسما، وروح"، وعند حلول الساعة الرابعة والعشر دقائق عصراً، كنت ترددت بين أن أبقى قليلاً أو أعود إلى الفندق حتى أشحن طاقتي لموعدي عند الساعة السابعة، والحمد لله أنني اخترت الخيار الثاني.
سرت باتجاه الفندق، وسمعت صوتاً عالياً، لكنني لم أعطِ اهتماماً للأمر، واعتقدت أنه مثل ما يحدث كثيراً في الأردن؛ وقوع شيء ثقيل في عمليات البناء! دخلت الفندق وهاتفت شقيقتي حنان، وبقيت أتحدث معها وأنا أفتح باب غرفتي. بدأت تنهال عليّ اتصالات من أصدقاء لي في تركيا، لكن لم أكترث وبقيت أتحدث مع حنان. فتحت التلفاز وأنا أخلع حذائي بينما أنا أسمع أصوات سيارات إسعاف، وحتى اللحظة بالنسبة لي، "كان كل شيء أقلّ من عادي". شاهدت عبر التلفاز صوراً للشارع الذي كنت فيه وسيارات الشرطة التي يعجّ بها المكان. سكتت للحظة ثم قلت: "حنان يبدو أن شيئاً ما حدث، سأعود إليك بعد قليل"، وبعد أن عدت إليها بعد دقائق سمعتها وهي تشهق: "لاااااا".
من الأشياء التي فكّرت فيها وأنا أعوم في بحر حب الناس لي، ضحايا انفجار تقسيم الذين قُتلوا، والذين بالتأكيد لهم/ ن أحبّة وأهل وأصدقاء، ولدغت قلبي قرصة حزن وقهر عليهم/ ن
ذكرت في بداية المقال أنني غير قادرة على وصف حالتي النفسية كفتاة كادت، لولا رحمة الله، أن تكون ميتةً أو جريحةً، وذلك لأنني ما زلت تحت وقع الصدمة، لكن السبب الآخر أكبر بكثير، صدمتي من اكتشافي للكمّ الهائل من محبة الناس لي، وهنا سأعترف بشيء هو أن من أسباب زيارتي إلى إسطنبول، أنني في حاجة إلى تحسين نفسيتي لأنني في الآونة الأخيرة "زعلانة من الأردن". لكن بعد ما حدث معي تبيّن لي أن الأردن لا تحتمل زعلي منها!
محبة الناس رزقة، وهذه واحدة من الإشارات الربانية التي وصلتني من تجربتي، إلى درجة أنني شعرت بأنني مسؤولة أمام الله وأمام الناس في الحفاظ على سلامتي وعلى حياتي، ليس لأجلي، بل كما قالت صديقتي منى: "الله نجّاك من الموت لأن الذين يحبونك لا يستطيعون العيش من دونك". ربما هذا هو دوري في هذه الحياة التي عادت ومنحتني فرصةً جديدةً لأدرك قيمتها، وربما دوري كما يصفني زملائي في العمل: "فراشة تبهج المكان الذي هي فيه"، وأدعو الله أن أكون مستحقةً لهذا الوصف.
"حرفياً هاتفي تعطل قليلاً عن الخدمة"، نعم، فبسبب الكم الأكثر من هائل من الاتصالات التي استقبلتها للاطمئنان، هاتفي تعطل قليلاً واضطررت إلى فصله مراراً حتى يصلح. كل تلك الاتصالات كانت تحمل نفساً واحداً، لا محبة الناس لي فقط، بل أيضاً الشغف في محيتي، فهناك حب وهناك شغف في الحب، وهو الذي لا ينضب، وأعود وأدعو وأتمنى أن أكون مستحقةً لهذا كله، حتى أنني ولأول مرة خرجت "لايف" على "إنستغرام"، حتى أحاول أن أوحّد روايتي لكل من سأل عني وأطمئنهم/ ن على سلامتي، وبالطبع من أجل أن أشكرهم/ ن على محبتهم/ ن التي ضاعفت رصيدي في رزقة محبة الناس، تلك التي كان يعدّها والدي رحمه الله، انعكاساً لمحبة الله لي.
من الأشياء التي فكّرت فيها وأنا أعوم في بحر حب الناس لي، ضحايا انفجار تقسيم الذين قُتلوا، والذين بالتأكيد لهم/ ن أحبّة وأهل وأصدقاء، ولدغت قلبي قرصة حزن وقهر عليهم/ ن. آخ كم من ظالمين موجودين في هذا العالم. يا حسرةً على أناس خرجوا لقضاء يوم بهيج، ولم يضبطوا ساعاتهم/ ن على موعد مع الموت. يا حسرةً عليهم... يا حسرة.
أكره كلمة "لو"، ولم أقل ماذا لو بقيت في الشارع بدلاً من العودة إلى الفندق في تقسيم. أحب كلمة "آية" التي جاءت في طلب سيدنا زكريا عندما بشّره الله بأنه سيرزقه بولد إذ خاطب الله قائلاً: "ربي اجعل لي آيةً"، أي إشارةً
أكره كلمة "لو"، ولم أقل ماذا لو بقيت في الشارع بدلاً من العودة إلى الفندق في تقسيم. أحب كلمة "آية" التي جاءت في طلب سيدنا زكريا عندما بشّره الله بأنه سيرزقه بولد إذ خاطب الله قائلاً: "ربي اجعل لي آيةً"، أي إشارةً، وكثيرة هي الآيات التي نثرها الله لي في تجربتي الأخيرة، وأهمها "العزوة". تبين أن لي في الأردن "الزعلانة منها" عزوةً، حتى أنني مازحت صديقي قائلةً: الأردن مثل زوجي "الجلف"، لا تظهر طيبته إلا في المواقف الصعبة، التي يظهر فيها أنه يحبني أكثر مما أنا أحبه.
أكتب هذا المقال وأنا جالسة في مقهى في العاصمة عمّان التي عدت إليها سالمةً غانمةً بفضل الله ودعاء أحبّتي. استقبلني النادل ضاحكاً وقال: "غادة يليق بك اسم نور أكثر من اسم غادة". لماذا؟ سألت النادل، فأجابني: "لأن وجهك يشعّ بالطيبة". شكرته وكررت في داخلي دعاء يا رب حبذا لو أكون مستحقةً لتلك المحبة. وقبل أن أذهب إلى طاولتي وجدت صديقةً بالصدفة كانت معي في المدرسة، ولا أبالغ إذا قلت: "تقريباً حملتني"، وهي تعبّر عن امتنانها بعودتي إلى عمّان سالمةً. هذه الصديقة التي آخر مرة رأيتها فيها ربما كانت قبل أكثر من 15 عاماً، لكنها تتابعني على إنستغرام، عندما عرّفتني على صديقتها قالت: "كل الناس في مدرستنا كانت تحب غادة"...
يا رب حبذا لو أكون مستحقّةً لهذه المحبة!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...