"السيستم شوية فلو" (النظام إلى حدّ ما ضبابي)
وحاولت نفهمو (حاولت أن أفهمه)
(....)
حْطيت السلاح وغنيت هاد المورصو (وضعت السّلاح وغنيتُ هذه المقطوعة)
باش نقولو باز" (لكي أقول 'باز')
الاستماع الأول والاستماع الأخير
كانت أغنية "قولو باز" هي أول ما سمعته لفرقة "هوبا هوبا سبيريت". شعرت بضجيج مفرط، وترديد عشوائي، وولّد لدي انطباعاً أولياً أنها تساير الحالة النقدية والساخرة الناجمة عن الوضع السياسي والاجتماعي والثقافي في المغرب، وتشير معانيها إلى ما تراه نفاقاً، وفصاماً، وممارسات غير سليمة لمجتمع مركّب، يصعب فهمه على نحو جاهز.
بالنسبة لرابور (مغني الراب) فرَق مثل "البيغ"و"هوبا هوبا سبيريت"، فالحلّ يكمن في قول "باز"؛ مفردة تدل على طريقة معينة للردّ على شخص يكذب أو يخدع أو يردّد كلاماً ليس بديهياً، وهي كناية لما وصل إليه الوضع من تردٍّ.
فرقة "هوبا هوبا سبيريت" للروك المغربي أو بالأحرى لـ"الحيحة ميوزك"، كما يحبذ أعضاؤها أن يصنفوها غنائياً، تحاول عبر أغانيها أن تصنع المزيج الموسيقي (فيوجن)، أساسه الروك، و روحه ومنبعه "الحيحة"، التي تعني النشاط والحيوية والصخب.
"سبوتنيك"، هي ثاني ما سمعت للفرقة ذاتها، وهي أغنية تتعاطى مع الأوضاع على نحو ساخر و جِدِّي أسود. يتردد صوت أنثوي أشبه بصوتٍ ينبعث من قمرة الطائرة: "مرحباً بكم في المركبة الفضائية من نوع سبوتنيك، المتجهة نحو الله أعلم". تمضي الأغنية مرددة كلماتٍ بالفرنسية، عن وضع هو بالأساس بطيء، ولا يشي سوى بمراوحة مكانه على جميع الأصعدة.
ليس المهم أن تكون المقطوعة مفهومة، بقدر ما يهم الموسيقى والإحساس الذي تعطيه لك في جوانياتك. وهذا ما حصل لي فعلياً؛ منحت لي الأغنية إحساساً قوياً بمعنى الفشل!... عن أغنية "جاء الفشل"
مضيتُ في نهار عابر، أمطر على حافلة للنقل الجماعي كانت تقلّني، واستمعت للمرة الأولى إلى "واكل شارب ناعس". لم أشعر آنذاك بقوة الأغنية بقدر ما خِلتها فجةً، بنغمات موسيقى "الكمنجة" الشعبية المليئة بالضجيج. كان ذلك عام 2008، ثم أعدت الاستماع من جديد بعد مرور 11 عاماً، واكتشفت أن المقطوعة تستحق التفكيك.
وأثارت تلك الأغاني شهيتي الذهنية، وامتزجت بقراءاتي الفلسفية، كأن كلَّ جملة منها تفسر الأخرى.
تصدح الأغنية بكلمات "گرَاطِيتْ من بْلَاصْتِي، وسط الجماعة مْخَبي، مليون ج الفام اِعَاوْدُو نفس الكلام. كبار وصغار فيهوم مْفُورْمَاطِين دماغهم"، وتحيل على تراجع المتحدث (المغني بضمير أنا) إلى الخلف، ليرى الحشد/الجماعة المليونية، تعيد، و تكرر نفس الخطاب، وكأنهم تعرضوا لغسيل دماغ.
في هذه النقطة، يشدد غوستاف لوبون، في كتاب "سيكولوجية الجماهير" على أن فكرة التجمعات البشرية تمارس "تأثيراً فائقاً على الفرد إلى درجة أنه يفقد كلَّ قدرة على التحكم بذاته وبتصرفاته، كما لو كان منوّماً مغناطيسياً".
تكمل الأغنية جزءاً آخر، غاية في الأهمية، وهو "جاب الله أخويا والسيستم بْغَا (يريد) اِرْبِينَا كاملين. هاهو كْعَا (سَخُطَ) علينا. هاهو ارضا (رَضِيَ) علينا. ها هو تلف (اخْتَل) وتاه هو وهواه". هذا المقطع يلخص مقولة المفكر الفرنسي ميشيل فوكو عندما شدد على أن السلطة/النظام ليس "مجرد سؤال نظري، بل شيء ينتمي إلينا"، والسلطة أو النظام كما تصدح الأغنية يعبر عن دائرة أكبر من مجرد حاكم أو تمثل سياسي محض، بل تؤشر إلى أن هذا النسق ينتمي ليومياتنا ودوائرنا، و يظلّ مترنحاً بين فعل الرضا والسخط، وكأنه تجسيد لسلطة أبوية مزاجية.
"جاء الفشل"، هي آخر ما استمعت إليه لتلك الفرقة، فقد فَشِلْتُ في الوصول إلى تفكيك واضح لهذه المقطوعة، ولكني قرأت تعليقاً على اليوتوب يقول صاحبه، وقد بدا من لغته حانقاً غاضباً مما يعتبره أغنية "غامضة" و"سخيفة"، ليردّ عليه معلّق آخر بأن ليس المهم أن تكون المقطوعة مفهومةً، بقدر ما يهم الموسيقى والإحساس الذي تعطيه لك في جوانياتك. وهذا ما حصل لي فعلياً؛ منحت لي الأغنية إحساساً قوياً بمعنى الفشل!
يعبّرون عن جيل كامل
هل يوجد سبب واحد أو دواعٍ عديدة للاستماع إلى هذه الفرقة؟ يصعب على أشرف، الشاب الثلاثيني، العاشق لـ"هوبا هوبا سبيريت" أن يعثر على سبب واحد، يبرّر تشبثه بهذه المجموعة.
يقول أشرف لرصيف22: "دواعي استماعي للفرقة حينما كنت في سن الـ18 تختلف عن هذه الأيام. كانت لأسباب آنذاك مرتبطة بالاستماع للبلوز، والروك، وأيّ نمط موسيقي مختلف عما هو موجود في وسائل الإعلام التقليدية. أما الآن فقد فهمت وفَهِمَ العديد من أبناء جيلي أن المزيج (الفيوجن) الذي تصنعه الفرقة، هو تعبير عن التناقضات الاجتماعية، ومشاكل الإنسان المغربي، وعلاقته بالسلطة".
بالنسبة لياسين، فاكتشافه للفرقة كان في بدايات الألفية الثالثة، وتزامن هذا الأمر مع تعلّمه لآلة القيثار، وجاء ذلك بمحض الصدفة حتى أدمن على أغاني الفرقة، التي وجد فيها ضالّتَه الموسيقية.
يقول ياسين: "صرت مدمناً على أغاني (هوبا هوبا سبيريت) بحكم أني معجب بالريغي والروك والبلوز والشعبي والحيحة. وهذا ما وجدته ممتزجاً وكاملاً في أغانيهم".
أغاني رفيقة عمر
أما عني، فمازلت أستمع لأغاني"هوبا هوبا سبيريت" منذ أيام المرحلة الثانوية وحتى كتابة هذه الأسطر. إنها 16 عاماً من الاستماع، رافقتني خلالها أغاني المجموعة في أهمّ محطات حياتي. في كلّ أغنية أجد تعبيراً عن حالة فردية تخصّني، أو جماعية تختزل وضعاً ما.
لعل "حاير" هي أبرز أغنية تركت وقعاً قوياً في وجداني، إذ لامست خطوطي بشكل واضح، وملامح من حياتي الثلاثينية. فالأغنية تصدح بما يعيشه جيل بأكمله من الحيرة، والتيه، والسؤال، والبحث عن معنى لوجودهم ضمن نسق عام معقّد، وصعب.
"خفت من ولادي من التربية الوطنية، ونزيد نخاف من السْبِيطار و الفْرمْلِيَة (المستشفى والممرضين)"... من أغنية "حاير"، التي حركت شيئاً ما في وجدان مراد عندما بلغ الثلاثين من العمر
مراد (اسم مستعار)، مغرم بدوره بأغاني هذه الفرقة، وبالذات أغنية "حاير"، التي شدّد على أنها حركت شيئاً ما في وجدانه عندما بلغ سن الثلاثين.
تحدث إلي الشاب الثلاثيني، متأملاً في الفراغ، ثم ارتشف قليلاً من القهوة السوداء ليفصح عما يراه مقطعاً قوياً، وهو "خفت من ولادي من التربية الوطنية، و نزيد نخاف من السْبِيطار والفْرمْلِيَة (المستشفى والممرضين)".
يقول مراد: "هذا المقطع قد هزّ كياني، لأنه اختزل الحالةَ التي عشتها، عندما كنتُ مدرّساً، ومرتبطاً عبر الزواج بممرضة، وانتهى الأمر بالطلاق".
لسنا لوحدنا أنا ومراد، إذ يشاطرنا العديدُ من المستمعين مشاعرَهم الخاصة تجاه أغاني هذه الفرقة، فقد خلقت في دواخلهم حالة وجدانية، ولكل واحد منا قصته الخاصة.
يقول أشرف لرصيف22: "أغاني هوبا شاهدة على ذاك الطفل الذي كنته، وأنا أستعد لامتحانات الثالثة إعدادي، وظلت ترافقني وأنا طالب، وأنا مدرّس في عمر الثلاثين".
ويواصل: "الفرقة ساهمت في تكويني لأفهم الكثير عن الموسيقى عموماً، والعديد من الظواهر الاجتماعية، والتناقضات التي جسدتها العديدُ من الشخصيات الحاضرة في أغانيهم مثل: ميلودي، جمال، وغيرهم".
بالنسبة لياسين فـ"هوبا هوبا سبيريت"، تطرب أذنه لأنها تحمل رسائلَ عميقةً وراهنةً؛ يقول: "إنها تخلق حالة تجمع بين ما هو ترفيهي، وفي نفس الوقت تنتقد وتصف حالات اجتماعية وشخصية وسياسية".
شخوص هوباوية
لا تخلق فرقة "هوبا هوبا سبيريت" حالة وجدانية تخصّ مستمعيها، بل يمتدّ الأمر ليصل للإسقاط أو التماهي الذي تشخصه الشخوص التي اعتمدتْها المجموعةُ في أغانيها، من قبيل: جمال، ميلودي، مراد، نجوى، الفهاماتور، وآخرون.
"شحال من مرة (كم من مرة) كنكون ف شي وضعية، وكنفكر فيها، وكنقول عنداك تولي (إياك أن تكون مثل) جمال، أو مثل فهاماطور، أو مثل محسن لي هوما شخصيات صناعة هوباوية لتسليط الضوء على تناقضات أو سلوكيات اجتماعية"، يقول أشرف.
يرى أشرف بأن استحضار هذه الشخوص يعبر عن حالته في مواقف أو وضعيات تخصه في حياته اليومية والاجتماعية، ويصل الأمر إلى أن تختزل أفكارَه أو ظاهرةً ما ينوي الكتابة عنها أو يفككها في مقال ما. "إنها ذاك التعبير الفني على فكرتي، وتعبر عني بالموسيقى"، يكمل أشرف حديثه.
يتفق ياسين مع أشرف حول أن الفرقة تعبر عن قضايانا وهموم جيلنا، كما أنه يدافع عن أغاني هذه الفرقة التي يرى بأنها تفكر خارج الصندوق، وتتحدث عن أشياء كثيرة كما هي، وبدون مواربة.
يقول ياسين: "أنا أستمع كثيراً للمواضيع التي غنت عنها الفرقة، نأخذ مثال أغنية (أوْرِيوْرَا) التي تبدأ بلازمة (مَا رَانِيشْ بُوحْدِي: لست وحدي). إنها تجعلك ترقص وتغني وأنت تعرف بأنك لست لوحدك. إنها تُشعِرك وكأنك ضمن عائلتك وأصحابك. أما أغنية (فهاماطور) التي تعبر عن شخص يفهم في كل شيء بشكل مُدَّعٍ، فأغنيها لأي شخص تنطبق عليه هذه الحالة".
الازدواجية، من نحن وإلى أين؟
"السكيزو. شكون احنا؟ وفين غاديين؟ أشمن ساعة غانوصلو؟ ومْعا من؟" (الازدواجية. من نحن؟ وإلى أين نمضي؟ في أي ساعة سنصل؟ ومع من؟) هكذا اختصر رضا العلالي، أحد أعضاء الفرقة تيمات أغاني فرقتهم.
الازدواجية، تظل حاضرة بشكل واضح في أغانٍ من قبيل "بلاد سيكزو"، وبشكل غير كامل في أغاني "سبوتنيك" و"فين غادي بيا أخويا". هذه الأخيرة تطرح سؤالي: إلى أين؟ ومن نحن؟ جنباً إلى جنب مع أغنية "دارك بندير"، إذ تتحدث عن مغربي تائه بين هويات متعددة، إفريقية ومشرقية-عربية، وأخرى فرنسية-أوروبية.
هذا التشظي الهوياتي موجود بجرعة أقل في أغنية " 60 ف الماية"، وهو اختصار لنسبة الأمية المستشرية في العشرية السابقة من الألفية الأولى، ولو أن الرقم مبالغ فيه، إلا أن الواقع كاشف لما هو أسوأ. كما تفضح أغنية "سبوتنيك" عن مستوى معين من التيه، الذي يطبع حالَ البلد، طارحةً سؤال: إلى أين؟ وإلى أين تسير بنا المركبة الفضائية. وجوابه غامض محمّل بالتسليم للميتافيزيقيا الغيبية: "الله أعلم".
"نحن نصنع موسيقى تنبع من قلوبنا، ولا نُرضي بالضرورة الأذواق. نحن لسنا هنا إزاء مواصفات الماركتينغ"؛ يقول العلالي، ويضيف: "يصعب عليَّ أن أفسر لك الإبداع، لأنني أعتبره شيئاً غير مفهوم".
ما زالت "هوبا هوبا سبيريت"، صامدة إذاً، برغم توقفها عن إنجاب ألبوم جديد، وكان آخر إصدار لها عام 2018 تحت عنوان "كما ينبغي".
ويصف العلالي تجربة الصمود بكونهم أشخاصاً على هيئة ديناصورات، خاضوا معاركَ كثيرةً، ومن موسيقى يحبونها، مبنية على "العرق والنَفْس (الكبرياء) والنية".
في المحصلة، يمكن القول بأن أعضاء هذه الفرقة لا يولولون، لا يبكون، ولا يحتجون بشكل "احتجاجوي"، ولا يخاطبون بخطابوية، ولا يعظون، ولا يصرخون كفعل مجاني، بل يحتفون بكل هذا وذاك، ويعجنونه، ويركّبونه في موسيقى ليست بالضرورة "روكاً"، بقدر ما هي انتصار لتيمات، وإيقاعات، وأحاسيس تمسّ فسيفسائيةَ المغاربة "كما ينبغي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع