شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
تبدو والدتي كساحرة كما كانت جدتي... وأنا  لم أسلم من الأوهام يوماً

تبدو والدتي كساحرة كما كانت جدتي... وأنا لم أسلم من الأوهام يوماً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأربعاء 2 نوفمبر 202210:02 ص

نسمع حفيفه، فيجمنا الهلع، نغطي وجوهنا على الفور، ونسكت حيث لا صوت غير صوت قلوبنا المرتجفة، ثم ننام.

أتجرأ مرة فأختلس نظرة من تحت الغطاء. هو - كما تصفه جدتي- قصير، وبرأس دائري يشبه غطاء الحلة فعلاً. غير أن ملاءة تغطي جسده.

أبو غطا حلة، ذلك المخلوق الذي عاش معنا طفولتنا، يحضر فقط في أوقات الشقاوة وعند السهر. هو من يجبرنا على النوم والتزام الصمت.

لم أكن أعرف أنه شخصية ابتكرتها جدتي، وحولتها من حدوته إلى واقع مرعب يعمل على تأديب الأطفال.

اكتشفت خدعتها بالصدفة، حين عثرت على الملاءة نفسها التي تلثم أبو غطا حلة. واكتشفت معها أنني كنت أعيش في الوهم، وأن الوهم يمكن صناعته ودعمه لدرجة الإيمان والخوف.

ولكن، تلك القاعدة لم توفر لي الحماية اللازمة من الوهم، خاصة الخبيث منها.

في طفولتي، مثلاً، تحولت مدينة إمبابة المصرية إلى مدينة إسلامية تحت حكم الجماعة الإسلامية، وكنتُ أصغر عضو بها.

وقتذاك، كان لدي اعتقاد راسخ بأننا على حق، وأن غيرنا على باطل، ولا يجوز مجادلة المختلف، إما أن يكون معنا أو يُقتل.

في طفولتي، مثلاً، تحولت مدينة إمبابة المصرية إلى مدينة إسلامية تحت حكم الجماعة الإسلامية، وكنتُ أصغر عضو بها.


ذلك التأثير القوي والفعال يُعرف لدى الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون بـ "أوهام القبيلة". ذلك الوهم الذي يسيطر على المجتمع نتيجة ثقافة ما. 

ولكن، ما لا يعرفه فرانسيس بيكون هو أنني تخلصت من هذا الوهم بسبب العادة السرية أو العشاري كما نقول.

فالطفل الذي كبر في أحضان الجماعة حتى صار مراهقاً، والذي كان همزة الوصل بين الأخوة والأخوات في المناسبات، وهو الأمير عمروش مع الرجال، والمدلل لدى النساء، بات مشتعلاً بالجنس ممتلئاً بالمشاهد. ولا شيء يحويه غير العادة التي اكتشفها صدفة.

ولكن، تلك الصدفة تكررت مرة وأخرى حتى أصبحت عادة. يخبرني أحد الشيوخ أن فاعلها باليد اليمين كمن زنى مع أمه، وباليسار سيحاسب في يوم القيامة على فعلته.

وفي أوقات العادة أفعلها باليسار، وأندم، وأبكي، وأدخل في نوبات اكتئاب، وأظن أن كل خطوة أخطوها يمسح مني حسنة ويضيف لي سيئة. ورأيت بعيني إمبراطورية كاملة أسستها على الطاعة والنوافل تأكلها كائناتي المنوية حتى تنهار.

ولكن، ما لا يعرفه فرانسيس بيكون هو أنني تخلصت من هذا الوهم بسبب العادة السرية أو العشاري كما نقول

وانهرت أنا، وبحثت عن عقاب ممارس العادة في كتب أكثر نضجاً من كتب الجماعة، فاكتشفت أنني كنتُ أعيش الوهم. نفس الوهم الذي عشته مع أبو غطا الحلة.

فإذا كانت جدتي ترغب في تأديبي من خلال شخصيتها المبتكرة، فالشيخ أيضاً يرغب بفعل ذلك من خلال أحاديثه الدينية المرعبة كما يرغب في ضمان ولائي.

ربما لذلك تركت الأسرة وخرافتها والجماعة ومعتقداتها وبدأت الاهتمام بالسياسة.

جامعة القاهرة، كلية الآداب، تحت تمثال ثورة الطلبة حيث يتناوب أعضاء التيارات اليسارية على اللقاءات، وتجنيد الطلبة المستجدين أمثالي.

مناقشات حول الفيلسوفين ماركس وهيغل، وشعارات ضخمة عن عدل ومساومة ومواطنة، وعن الفقراء أيضاً.

تذكرت مقولة لصديقي الشيوعي حين زار بيتي لأول مرة: "الفقراء اللي بندافع عنهم أغنى منك بكتير".

لعل هذا السبب هو ما جعلني انفصل عن قضيتهم، فهم أبناء الطبقة الأعلى، أبناء الدكتور والمهندس والمحاسب. يدافع عني ابن العامل. تلك كانت عبثية القدر، وذلك كان وهمهم أيضاً.

 فإذا كانت جدتي ترغب في تأديبي من خلال شخصيتها المبتكرة، فالشيخ أيضاً يرغب بفعل ذلك من خلال أحاديثه الدينية المرعبة كما يرغب في ضمان ولائي

يقول صديقي الشيوعي: "حين سُئل ماركس: كيف تدافع عن الطبقة العاملة وأنت تعاشر خدامتك؟"

كان رده: "ماركس ليس ماركسياً في بيته". إذاً، لا قضية ولا حقيقة. إذا كان هو نفسه لا يؤمن بماركسيته، فـكيف بالله عليكم تؤمنون به؟".

لذلك، فضلت أن أكون غير منتمٍ. ربما كي أتخلص من الأوهام جميعها. أن أتحرر من وهم الأسرة والدين والسياسة، وألا أنخدع بألفاظ السوق، أو أصدق أوهام المسرح فأنا واحد من صناعهم.

ومع ذلك، لم أسلم من الأوهام يوماً. فـهناك وهم الكهف وخيالاته. ذلك الوهم الداخلي الذي يجعل الأشياء أو الأشخاص على غير طبيعتها، كـالوهم العاطفي. وأعتقد أنه أكثر الأوهام انتشاراً. ولا أعني هنا العشق الوهمي أو الحب من طرف واحد، بل هو الصداقة المتينة أو الحب العظيم، كما اختبرها الجميع، أو كما تقول أم كلثوم: "هات لي قلب لا داب ولا حب ولا اشتكي ولا شاف حرمان". 

أجل، كل القلوب تعرضت لتلك المشاعر، وتعرضت للخيانة أيضاً. وهي اليقظة من الوهم الجميل، أن تكتشف أن هذا الصديق/ القريب/ الحبيب ليس كما توهمت.

ولليقظة صدمة يتفاوت تحملها من شخص لآخر.

هذا الوهم مبني على الخديعة، خادع ومخدوع كعادة الأوهام. ليس دائماً في الحقيقة. هناك نوع آخر من الوهم، وهو الأغرب على الإطلاق من وجهة نظري.

وهو الوهم الذي تدرك جيداً أنه وهم ومع ذلك تصر عليه. وهو مختلف من شخص لآخر، كأن تكون علاقة عاطفية أو عملاً أو ارتباطاً بعادة سيئة.

لعل أبرز مثال ما يحدث الآن، تحديداً مع كتابة هذه السطور، وبين أصابعي السيجارة. لا أتوقف عن السعال، ويكاد أن يتمزق صدري، أدخن نفساً آخر، وأنظر إلى العلبة وصورتها الشهيرة: الرئة المتهالكة بسبب السجائر. والجملة المكتوبة بأسفلها: احترس التدخين يدمر الصحة ويسبب الوفاة. أهز رأسي وأضحك، فالوهم مبني في الأصل على الخداع والتحايل وزيف الحقيقة. وإتقان تلك الأدوات يضمن سقوط الضحية. أما مع التدخين – كنموذج- فالأمر مختلف، أنا أضرك ولا أقدم لك شيئاً، وأنا أريدك بشراهة رغم أنني أعرف ذلك.

آخذ نفساً آخر، وأسمع صوت أختي القادم من الصالة وهي تحذر ابنها: "يا واد أخرج من الأوضة أحسن العو ياكلك"

أشعر بأن ما يدور بالخارج سيخدم مقالتي.

تقول أمي: "أوعي تخوفيه أحسن يلبسه جن". لا بد أنها بصقت في عبها، أتخيلهما وأسمعهما. تقول أختي: "أنا حاسة والله يا أماه أنه محسود"

أعرف ما ستقوم به أمي. ستقص عروساً من ورق و"تشكشكها" بالإبرة وتردد: "ومن عين كل اللي شافوك والا صلوش على النبي".

ستحرق الورقة، وسيصبح ابن أختي – حتماً- بخير. وستؤكد أختي: "تصدقي الواد وشه راق".

تقول أختي: "أنا حاسة والله يا أماه أنه محسود". أعرف ما ستقوم به أمي. ستقص عروساً من ورق و"تشكشكها" بالإبرة وتردد: "ومن عين كل اللي شافوك والا صلوش على النبي"

وستصدق أمي، كما سيصدق ابن أختي في "العو" الذي يلاحقه، وقدرات جدته الخارقة في قهر الجن من خلال العروس، والورق، والنار، والطلاسم. تبدو والدتي كساحرة كما كانت جدتي أبو غطا حلة.

يبدو أن الفيلسوف جورج بيركلي كان على حق حين اعتبر أن العالم وهم. ولكن، أعتقد أن وصف الممثل والمخرج المصري يوسف وهبي أدق: "ما العالم سوى مسرح كبير".

أما المطرب محمد عبد الوهاب فقد كان أكثر ذاتية ووضوحاً: "أنا من ضيع في الأوهام عمره".

ولكن، ماذا لو اكتشفنا أوهامنا؟

هذه السؤال يستوجب علبة سجائر أخرى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image