لم يدر في خلد أهالي حي الربض في قرطبة، وهم يثورون على الخليفة الأموي الحكم بن هشام بن عبد الرحمن، أن تداعيات ما يقومون به ستتجاوز حدود بلادهم وستصل إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، وستقودهم السبل إلى استيطان جزيرة إقريطش (كريت الآن) وسيحكمونها لمدة 150 عاماً.
انتفض المولدون من أهل قرطبة ضد الخليفة الأموي الحكم بن هشام (796 – 822م) في ثورة عُرفت بـ"الربض"، نسبة إلى الحي الذي اندلعت فيه شرارتها، رفضاً لسياساته في الحكم، واحتجاجاً على أوضاعهم المعيشية، ولرغبتهم في الاستقلال عن الدولة الأموية، غير أن ابن هشام قضى على الثورة وبطش ونكل بالثوار، يروي الدكتور أحمد مختار العبادي في كتابه "في تاريخ المغرب والأندلس".
الاتجاه إلى الإسكندرية
واضطر عدد من الربضيين إلى مغادرة الأندلس عام 816 بعد فشل ثورتهم، فعبر بعضهم إلى المغرب واستقروا بين قبائل البربر في جبال الريف في الشمال، أما الفريق الآخر، وكان يضم 15 ألف شخص، فواصل السير في البحر شرقاً حتى بلغ شواطئ الإسكندرية، فنزل في ضواحيها.
ويروي العبادي أن الأحوال في مصر كانت مضطربة حينذاك، إذ انتقلت إليها عدوى الخلافات التي نشبت بين الخليفتين العباسيين الأمين والمأمون، فانتهز الأندلسيون المهاجرون الفرصة واستولوا على مدينة الإسكندرية بمعاونة أعراب البحيرة، وأسسوا فيها إمارة أندلسية مستقلة عن الخلافة العباسية دامت أكثر من عشر سنوات.
وعندما استتب الأمر للخليفة المأمون، أرسل قائده عبد الله بن طاهر بن الحسين إلى مصر لإعادة الأمور إلى نصابها، فبعث إلى هؤلاء الأندلسيين يهددهم بالحرب إنْ لم يدخلوا في طاعته، فأجابوه إلى طلبه حقناً للدماء، واتفقوا معه على مغادرة الديار المصرية وعدم النزول في أي أرض تابعة للعباسيين، ثم اتجهوا في مراكبهم إلى جزيرة كريت وكانت تابعة للدولة البيزنطية، فاستولوا عليها بقيادة زعيمهم أبي حفص عمر البلوطي سنة 825، وكان ذلك في عهد الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثاني (820- 829).
أسطورة حرق المراكب
يذكر تحسين علي الكريدلي، في كتابه "جزيرة كريت في التاريخ العربي والإسلامي"، أن أبي حفص اختار جزيرة كريت لأنها كانت أخصب أراضي البيزنطيين، فنزل ساحلها بسفنه الأربعين، وتمركز مع رجاله على تل مرتفع اسمه باليونانية "خاراكس"، ومعناه "الجدار"، ثم انتقلوا إلى مكان أكثر أمناً وأحاطوه بسور ضخم، وأقاموا حوله خندقاً عميقاً كحصن منيع يحميهم من هجمات الأعداء، ويضمن لهم تواجداً آمناً في المكان.
وتذكر الدكتورة إسمت غنيم، في كتابها "الإمبراطورية البيزنطية وكريت الإسلامية"، أن المصادر البيزنطية روت أن الأندلسيون ما كادوا يبتعدون قليلاً عن الشاطئ حتى أمر أبو حفص بإحراق السفن التي نقلتهم إلى كريت، وقد غضب الأندلسيون لذلك أشد الغضب، وتملكهم الخوف على نسائهم وأطفالهم، فهدّأهم أبو حفص وامتدح لهم غنى الجزيرة وجمال الكريتيات اللواتي يمكن اتخاذهن زوجات.
يُفهم من هذه الرواية حرص هذا القائد على إجبار أتباعه على الاستقرار في الجزيرة والاستماتة في فتحها والدفاع عنها، لكن غنيم ترى أنه من الصعب التسليم بها، خاصة أن عدداً غير قليل من هؤلاء الفاتحين كانوا من الغزاة البحريين، ولا يستطيعون بحال من الأحوال الاستغناء عن مراكبهم، كما أنه كانت أمامهم مهمة عسيرة تتعلق بمواصلة فتح باقي الجزيرة، وكذلك غزو الجزر المجاورة لضمان أمنهم في مقرهم الجديد.
ويبدو أن الخيال لعب دوراً كبيراً في هذه الرواية، والأرجح هو ما ذكره المؤرخ الإيطالي ميكائيل أماري، في كتابه "تاريخ مسلمي صقلية"، من أن ما أمر القائد المسلم بإحراقه كان السفن غير الصالحة للاستعمال فقط، وليس جميع السفن، ومن هنا التبس الأمر على المؤرخين البيزنطيين، حسبما ذكرت غنيم.
عدم مقاومة سكان الجزيرة للأندلسيين
افتتح المسلمون حصناً واحداً في بادئ الأمر، تروي غنيم، وذلك لأنهم كانوا يخشون قيام أهالي الجزيرة بمحاربتهم، وأقاموا فيه تحصينات منيعة، وحفروا له خندقاً عظيماً، ومن هنا اتّخذ هذا الحصن اسم "الخندق".
وعلى عكس ما توقعوا، لم يلق الأندلسيون مقاومة تذكر، لا من جانب السلطات البيزنطية في الجزيرة، ولا من جانب الأهالي، وذلك بسبب عاملين: الأول هو بغض الأهالي للحكم البيزنطي نتيجة سوء معاملة السلطات لهم وتدخلهم في شؤونهم الدينية؛ والثاني هو ثورة توماس الصقلبي ورغبته في انتزاع الحكم من الإمبراطور البيزنطي، وما أدت إليه هذه الثورة من خراب الولايات التابعة للإمبراطورية، وتدهور تام في البحرية البيزنطية أعجزها عن مواجهة الفتح الإسلامي للجزيرة.
على عكس ما توقعوا، لم يلق الأندلسيون مقاومة تذكر من جانب أهالي إقريطش (كريت)، وأحد أسباب ذلك بغض الأهالي للحكم البيزنطي نتيجة سوء معاملة السلطات لهم وتدخلهم في شؤونهم الدينية
وحين اطمئن المسلمون إلى عدم وجود مقاومة من جانب سكان الجزيرة غزوا باقي أجزائها، واستولوا على 29 مدينة فيها، حتى لم يبقَ فيها من البيزنطيين أحد. والراجح أن المسلمين أتموا فتح الجزيرة كلها في عام 845.
ولاء للخلافة العباسية وحكم وراثي
وجد الأندلسيون ضرورة التماس الأمان في الانتماء إلى الخلافة العباسية التي كانت تسيطر على الشرق الأدنى كله، تروي غنيم، فدانوا لها بالولاء السياسي واعتنقوا المذهب السنّي، على أنهم كانوا يتمتعون باستقلال داخلي، ولم يكن للخليفة العباسي الحق في تعيين الولاة على الجزيرة، وإنما كان الحكم فيها وراثياً، وكانت في التقسيم الإداري تتبع إقليم مصر.
وبحسب الكريدلي، تعاقب على حكم الجزيرة من الأمراء العرب الأندلسيين عشرة أمراء، أولهم عمر بن حفص بن شعيب بن عيسى البلوطي (825 – 855)، وآخرهم عبد العزيز بن شعيب بن أحمد (949 – 961).
ونظراً لمحدودية عددهم وانقطاعهم عن أي قاعدة من ورائهم، صاهر الأندلسيون أهل الجزيرة، ونشأ جيل من المولدين، آباؤهم مسلمون، وأمهاتهم كريتيات.
ويروي الكريدلي أن المسلمين استغلّوا الموارد الطبيعية للجزيرة من الأخشاب لدعم أسطولهم، واتّخذوها قاعدة لهم، وغزوا منها ما حولها من جزر تابعة للقسطنطينية، وهكذا استطاعوا أن يبنوا إمارة ذات اقتصاد قوي مزدهر، بدليل ما سكّوه من عملات تحمل اسم الإمارة.
معاملة المسيحيين في إقريطش
اختلفت المصادر في كيفية معاملة الأندلسيين للمسيحيين في جزيرة إقريطش، لا سيما في ظل عدم ملاقاة الفاتحين أي مقاومة تذكر. تروي غنيم أن مؤرخين بيزنطيين ذكروا أن الفاتحين المسلمين خصصوا مدينة واحدة من الجزيرة للمسيحيين لكي يمارسوا فيها شعائرهم الدينية، ولم يسمحوا لهم بالاختلاط بهم، ما يُفهم منه أن المسيحيين عاشوا منبوذين في ظل الحكم الإسلامي لهذه الجزيرة.
غير أن غنيم تستبعد ذلك، ويتفق معها الكريدلي، مستنداً في رأيه على رواية يونانية مذكورة في كتاب "تاريخ كريت" للمؤرخ اليوناني ثيوكاريس ديتوراكيس، يرجّح فيها عدم مساس العرب بالكنائس والأديرة والرهبان، فأهم كنيسة على أرض الجزيرة عند استيطان الأندلسيين واسمها "سانت تيتوس"، وتقع في مدينة "كورتن"، لم تصب بأي سوء أو أذى.
إقريطش مقصد فقهاء وطلاب علم
يذكر يسري أحمد زيدان، في دراسته "الدور الأندلسي والمصري في إقريطش (825 – 961)"، أن مشاركين كُثر من غير الأندلسيين ساهموا في فتح إقريطش. ولأن الفتح انطلق من مصر، فقد يكون هؤلاء منها. ويستند في ذلك إلى عبارة محمد بن جرير الطبري الواردة في كتابه "تاريخ الرسل والملوك"، والخاصة بانضواء جماعات إلى الأندلسيين البحارة في الإسكندرية، فيذكر أنها تخص المصريين كما تخص الربضيين.
ومن المرجح أيضاً أن عدداً آخر من المصريين توجّه بعد ذلك إلى الجزيرة، وذلك للعلاقة القوية التي نشأت بين إقريطش ومصر في ما بعد.
اختلفت المصادر في كيفية معاملة الأندلسيين للمسيحيين في جزيرة إقريطش، لا سيما في ظل عدم ملاقاة الفاتحين أي مقاومة تُذكر...
ورغم حداثة عهدها وبعدها النسبي عن الأندلس ومصر، كانت إقريطش مقصداً لكثير من الفقهاء الأندلسيين والمصريين الذين نشروا العلوم الدينية هناك، وكذلك لطلاب العلم الذين شدوا رحالهم إلى الجزيرة للتتلمذ على أيدي هؤلاء الفقهاء. ويروي زيدان أن الأندلسيين، وهم في الإسكندرية، انضم إليهم فقهاء من الأندلس وغيرها، جاءوا للحج عن طريق مصر، فخرج بعضهم مع الأندلسيين إلى إقريطش، ما يبيّن أن غزو الجزيرة لم يقتصر على غزاة البحر المتوسط من الربضيين فقط.
ومن الذين حجوا وانضموا إلى الأندلسيين المتوجهين لفتح إقريطش الفقيه محمد بن عيسى بن دينار الغافقي القرطبي، ووُصف بأنه كان زاهداً عالماً، وأنه حج وحضر فتح إقريطش فاستوطنها.
ومنهم أيضاً الفقيه مروان بن عبد الملك الذي انتقل من الأندلس إلى إقريطش، وكان مسؤولاً عن إصدار الفتاوى بها، يحل إليه الفقهاء للأخذ عنه والتلمذة على يديه، ما جعل كثيرين من فقهاء الأندلسيين يرحلون إلى إقريطش لدراسة وتعلم الفقه على يديه، روى زيدان.
وهناك أيضاً أحمد بن خالد بن يزيد الجباب (ت. 933) الذي ذهب من الأندلس إلى إقريطش وأدخل إليها علماً كثيراً، وكان حافظاً لفقه الإمام مالك، وراوية حديث، ووُصف بأنه إمام وقته في الفقه والحديث.
ومن الأندلسيين الذين نشروا العلم الديني في إقريطش العالم يحيى بن عثمان الأندلسي الذي انتقل إلى الجزيرة وسكنها، وارتحل إليه بعض الأندلسيين لتلقي العلم على يديه.
ويُعَدّ الفقيه الأندلسي أحمد بن خلف بن أبي حجبرة القرطبي (ت. 966) أحد الفقهاء الأندلسيين الذين تركوا إرثاً علمياً كبيراً في إقرطيش، وساهم مساهمة واضحة في تدريس الأندلسيين الذين رحلوا إلى الجزيرة طلباً لتلقي العلم من علمائها.
وكان الدور المصري في هذا الأمر قريباً من الدور الأندلسي، فتوجه إلى إقريطش شيخ المالكيين في مصر، الفقيه علي بن جعفر المعروف بـ"أبي الحسن"، بعد أن كتب أهل إقريطش إلى مصر يسألون أن يوجه إليهم من يفقههم، فأقام بها حتى استردها البيزنطيون.
وبحسب زيدان، من الواضح أن المذهب الفقهي الذي كان سائداً في إقريطش هو المذهب المالكي، مذهب أهل الأندلس، لذا فإن معظم الفقهاء فيها كانوا يدرّسون هذا المذهب.
مصر وتسليح إقريطش
على الصعيد العسكري، كانت إقريطش مشهورة بأخشابها التي مكّنت المسلمين من إنشاء أساطيل، ولكنها كانت تفتقر إلى المعدات الحربية والأسلحة التي تمكنها من مهاجمة القواعد والجزر البيزنطية في البحر المتوسط، ووقع عبء إمداد الجزيرة بالأسلحة والعدد العسكرية على مصر، والتي تعرضت لهذا السبب لحملات بيزنطية.
وينقل زيدان عن الطبري، في أحداث سنة 852، أن البيزنطيين هاجموا ثغر دمياط المصري بثلاثمئة سفينة نهبت المدينة وأحرقت مساكنها وجوامعها، وقتلت وسبت نحو ستمئة من النساء المسلمات والقبطيات، كما استولت على أسلحة كانت ستُرسَل إلى أمير إقرطيش أبي حفص.
ولعل هذا الدور العسكري يظهر بقوة عندما طلب أهل إقريطش العون والنصرة من مصر إبان آخر هجوم للروم عليهم، أثناء تبعيتها لحكم الإخشيديين الذين لم يقدموا شيئاً ذا بال للجزيرة، فأنكر عامة مصر تخاذل الإخشيديين وتقاعسهم، فأظهر علي بن الإخشيد نصرة الإقريطشيين، وحرك بعض السفن في البحر، ليسكّن بهذا الفعل غضب المصريين.
وأشار النعمان بن محمد في كتابه "المجالس والمسايرات" إلى الصلات القوية التي كانت قائمة بين إقريطش ومصر قبيل زوال الحكم الإسلامي عن الجزيرة، وذلك من خلال رسالة أرسلها الخليفة المعز لدين الله الفاطمي إلى والي مصر علي بن الإخشيد، عندما استغاث أهل إقريطش بالمعز، فكتب لابن الإخشيد: "وأنت لعمري بذلك أجدر لقربهم منك، واتصالهم بك، وميرهم بلدك، وكونهم وإياك في دعوة واحدة". وورد فيها أيضاً: "ومراكبهم بخيرات بلدهم وأطعمتها تمير إلى مصر، وهداياهم تصل إلى عمالها"، حسبما نقل زيدان.
وإذا كانت مصر لم تنجد إقريطش، فإن الفاطميين في المغرب لم يقدموا سوى الكلام والوعود الكاذبة لأهاليها الذين أرسلوا وفداً في إحدى السفن إلى بلاد المغرب يسألون المعز النصرة، فلم يجدوا عنده سوى الوعود الواهية، رغم أن الوفد الإقريطشي عدّد للخليفة الفاطمي مزايا الجزيرة، ومناه بحكمها حال نصرتهم، ذكر زيدان.
استعادة البيزنطيين للجزيرة
يذكر علي إبراهيم بكراكي، في كتابه "تاريخ جزيرة كريت والمهاجرين"، أن البيزنطيين حاولوا استعادة سيطرتهم على الجزيرة عبر محاولات عديدة باءت كلها بالفشل، إلى أن استطاع القائد البيزنطي نيقفوروس فوكاس هزيمة الأندلسيين هناك بعد حصار دام ثمانية أشهر.
ويذكر بكراكي أن مصادر عربية، ومنها "نهاية الأرب في فنون الأدب" للمؤرخ العربي شهاب الدين أحمد النويري، ذكرت أن مئتي ألف شخص قُتلوا في هذه المعركة، ودُمّرت المساجد، لكن المؤرخين الأوروبيين يشككون في صحة هذا الرقم ويعتبرونه مبالغاً فيه.
ومهما يكن، فإن الإرساليات اليونانية والأرمينية والبعثات التبشيرية ما لبثت أن تدفقت على كريت لإعادتها إلى ما كانت عليه قبل الفتح الإسلامي وتنصير مَن اعتنقوا الإسلام من أهاليها، حسبما ذكر بكراكي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه