شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الفلفل الأحمر الأغلى في العالم... وحرقة الاستعمار في مذاقه المسروق

الفلفل الأحمر الأغلى في العالم... وحرقة الاستعمار في مذاقه المسروق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

الأربعاء 26 أكتوبر 202202:16 م

كان يمكن لـ"إسبليت" القرية الفرنسية التي تبعد عن الحدود الإسبانية عدة كيلومترات، وعن ساحل الأطلسي نفس المسافة تقريباً، أن تكون قرية وادعة من قرى إقليم الباسك التي تستعمرها فرنسا منذ قرون عديدة، على غرار استعمار إسبانيا الجزء الأكبر من الإقليم ومدنه الكبيرة. 

كان يمكن أن تكون القرية الغافية على هضبة من الهضاب التي تساقطت من جبال البيرينيه المنطقة التي كان يسرح ويمرح فيها الصديقان "بيل وسيباستيان" في طفولتنا البعيدة، أو أن تكون قرية عادية فيها كنيسة من القرون الوسطى وخوري عجوز يركض الأطفال خلفه كل يوم أحد.  

إقليم الباسك وعناد مع التاريخ

والحق أن الباسك الذين يسكنون المنطقة الممتدة، هنا، من أعالي الجبال ويعملون رعاةً وفلاحين، ليسوا سوى امتداد لشعب الباسك الذي يسكن شمال إسبانيا والذي تعرض من قبل  حكومة فرانكو في الحرب الأهلية الإسبانية للعزل والقتل والتشريد. يذكر الكولونيل الألماني فون ريختهوفن الذي أغار على المدينة، أنها كانت مدمرة وأن سكانها كانوا يتجمعون في مركزها وجميعهم من النساء والأطفال حين قام بإلقاء قنابله وغادر. 

لا يذكر التاريخ دولة أو حتى إمارة للباسك، ويُعتقد أنهم شعوب متوسطية، نزحت الى جوار المحيط قبل أكثر من ألفي سنة واستقرت هناك. لكن الباسك ينكرون ذلك، ويقولون في أدبياتهم إنهم من هذه الجبال والسواحل القاسية للمحيط الأطلسي. 

قُصفت "غارنيكا" في 1937 بعد أن كانت قوات فرانكو قد دمرتها وهي تمثل معقل الباسك وعاصمتهم الثقافية والنبع الذي خرجت منه كل الحركات الباسكية التي دعت للانفكاك عن إسبانيا وفرنسا مطالبة بالإستقلال. 

القصف خلده بيكاسو في لوحته الشهيرة "الغارنيكا" بتحريض من الشاعر الإسباني "خوان لارريا" الذي شرح له بالتفصيل ما حصل، وقد تم عرض اللوحة في نفس العام في باريس إذ تعد واحدة من أشهر لوحات بيكاسو، وتزين اليوم جدران متحف رينا صوفيا في مدريد.

لا يذكر التاريخ دولة أو حتى إمارة للباسك، ويُعتقد أنهم شعوب متوسطية، نزحت الى جوار المحيط قبل أكثر من ألفي سنة واستقرت هناك. لكن الباسك ينكرون ذلك، ويقولون في أدبياتهم إنهم من هذه الجبال والسواحل القاسية للمحيط الأطلسي. 

طوال تاريخهم، حافظ الباسك على ثقافتهم ولغتهم المميزة، وهي تعد من أصعب اللغات في العالم، كما حافظوا على تقاليدهم وقوميتهم برفضهم للاختلاط خوفاً من الذوبان، وحافظوا على رياضاتهم التي تعتبر من الأقدم عالمياً. ولم تتوقف مطالباتهم بالانفصال والاستقلال طوال تاريخهم، لكنهم، لم يحصلوا عليه إذ يعتبر الإقليم لليوم في عداد المناطق المحتلة الباقية من الاستعمار القديم.

رغم أن حركة "إيتا" الانفصالية التي بدأت نضالها منذ أواخر الخمسينيات كانت قد أعلنت قبل عدة سنوات فقط إلقاءها للسلاح، فالتخلي كلياً عن العنف. ثم بعد ذلك مباشرة قدمت اعتذارها للشعب الإسباني على أعمال العنف التي نفذتها طوال عقود تبنيها للعنف الثوري؛ إلا أن الباسك لا يتوانون للحظة عن التذكير بحقهم في دولة مستقلة. 

 ليس من المبالغة القول إن الباسك ينعمون باستقرار وتنمية لم يكن من الممكن أن يحصلوا عليهما لو كانوا يعيشون وحدهم بين فكي الكماشتين الإسبانية من جهة والفرنسية من الجهة الأخرى. فالاستعمار لا يعتبر أراضيهم مستعمرة بقدر ما يعتبرها أراضيه التي يعيش فيها شعب آخر. وأنهم، أي الباسك، ليسوا سوى المثال الحقيقي الذي يجسد أوروبا القديمة. فالفرنسي لا يتوقف عن الترداد أن منتجات الباسك هي منتجات فرنسية يفتخر بها. فيما الباسكي لا يتوقف عن ترداد أن كل ما ينتج في أراضيه هو باسكي وليس فرنسياً، في حرب ثقافية لم تتوقف منذ مئات السنين.  

تاريخ الفلفل الأحمر

إن قوة الاستعمار القديم الذي تذوق الشرق حصته منه، والذي طاف بسفنه العالم، لا تكمن فقط في ما أخذه وسطا عليه في غزواته، إنما في نسب ما أخذه بالقوة والقتل والحرق والسرقة له هو وليس لأصحابه الأصليين. وما يتم ذكره، حالياً، من أن هذا يعود لذلك الشعب ولتلك الدولة، ليس إلا محاولات لتجميل صورته. 

إن قوة الاستعمار القديم الذي تذوق الشرق حصته منه، والذي طاف بسفنه العالم، لا تكمن فقط في ما أخذه وسطا عليه في غزواته، إنما في نسب ما أخذه بالقوة والقتل والحرق والسرقة له هو وليس لأصحابه الأصليين

قد يبدو الأمر عادياً؛ قرية يزرع أهلها الفلفل الأحمر، ثم ينشفونه بتعليقه على واجهات بيوتهم المبنية على الطراز الباسكي والملونة بالألوان الرسمية للباسك الأبيض مع الأحمر الغامق أو الأبيض مع الأخضر الغامق، ثم يطحنونه ويبيعونه. 

أما القصة التي ترويها القرية والقرى المحيطة، فهي عن نقل البحار "غونزالو دي بيركارتيغي" -وهو من الذين سافروا الى أمريكا مع كريستوف كولمبوس- وتقول إن البذور القديمة التي قيل إنه وجدها في المكسيك إلى فرنسا، وبذر بعضها في محيط قرية "إسبليت" لتبدأ بتطوير هذه الزراعة، حتى صار هذا الفلفل يعتبر أفضل وأغلى نوع في العالم في العام 1650.  

لا يعرف على وجه التقريب أصل ونسب "بيركارتيغي" رغم أن الإسم يشي أنه إسباني. وتفيد المصادر التي ذكرته أنه من إقليم "غيبوثكوا" الذي يقع ضمن إقليم الباسك شمال إسبانيا، وأكبر مدنه سان سيباستيان التي ينسب لها نوع من الحلويات التي تحمل اسمها. 

لكن التاريخ أخبر أن الذين ركبوا البحر مع كولمبوس كانوا بحارة من مختلف الجنسيات. ومنهم بحارة عرب كانوا من سكان الأندلس. التأثير العربي والإسلامي كان واضحاً فيما تركه البحارة على الشواطئ التي وصلوا إليها. 

قصة أخرى تقول إن أحد البحارة العرب الذين كانوا على السفينة نفسها قد تقاسم بعض البذور مع غونزالو، وحين وصلا الى الساحل الإسباني، عاد البحار الى مكان قريب من "مالقا" حيث كان يسكن وقام بزارعتها هناك، لكنها لم تعط النتيجة نفسها، بل أعطت ثماراً صغيرة حادة جداً من الصعب تناولها. والمعروف أنها لا تزال تزرع حتى اليوم، ومشهورة في أنحاء إسبانيا. ويستخدم فلفل مالقا في المطبخ المحلي وفي بعض الأدوية لخصائصه الكثيرة والمميزة.

لكن ما حصل عليه بحارة كولمبوس من العالم الجديد وجاؤوا به إلى بلدانهم، لم يؤخذ بالحوار والقول الحسن، إنما بالسيف وقطع الرقاب وتعليق المشانق، لا على غرار الرواية الرسمية عن قصة الفلفل الشهير الذي وصل الى "إسبليت" والتي تظهر "بيركارتيغي" على أنه كان فلاحاً يهتم بالفلاحة وعوالمها، وتسقط من متن التاريخ ما حصل بالفعل، وتكتفي بمناورة روائية تقول إنه "جلبها من هناك" كما لو أنه ذهب الى المكسيك سائحاً أو مبشراً.

تقول الرواية إن فلفل إسبليت يعود في أصوله الى المكسيك. لكن لا يذكر في أي مكان في المكسيك عثر على تلك البذور القديمة. 

أحد البحارة العرب الذين كانوا على السفينة نفسها قد تقاسم بعض البذور مع غونزالو، وحين وصلا الى الساحل الإسباني، عاد البحار الى مكان قريب من "مالقا" حيث كان يسكن وقام بزارعتها هناك، لكنها لم تعط النتيجة نفسها، بل أعطت ثماراً صغيرة حادة جداً 

كان السكان يعرفون قيمة بذورهم وإلا فلماذا حفظوها ولماذا كانوا يخبئونها ويحرصون على استمراريتها؟ "بيركارتيغي" عرف هذه القيمة بدوره، فلم يعط البذور لأحد، لا للحكومة المركزية في إسبانيا ولا لتجار البذور، إنما اختار منطقة تشبه في قربها من المحيط وعلوها عن سطح البحر المنطقة التي جاء بالبذور منها وهي منطقة باسكية تقع في الجزء الفرنسي حيث بقيت البذور تزرع في إسبليت وتقطف حوالي مائة عام قبل أن يبدأ الاهتمام التجاري بالمحصول، فقد ساهمت مثابرة أهالي القرية، على مدار خمسة قرون كاملة في نشر هذا النوع من الفلفل وتسويقه ورفعه ليصبح الأغلى ثمناً. 

سعر غير مسبوق ومذاق غير مألوف

يبلغ ثمن الربع كيلوغرام خارج فرنسا حوالي ثلاثة مائة دولار بسبب ندرته وحاجة الذواقة إليه. وهو يباع بثمن مرتفع في فرنسا نفسها، ويتناقل كهدايا بين الناس بسبب غلائه الشديد وندرته. 

ينتمي هذا النوع من الفلفل إلى فئة لم تعد موجودة حالياً إلا في إسبليت، حتى البذور المكسيكية لا تضاهي تلك الموجودة في فرنسا بسبب العمل على تطويرها طوال عدة قرون، وهو يختلف بنكهته بين موسم وآخر إذ تلعب الطبيعة دوراً كبيراً في تعدد نكهاته. كما أن حجمه لا يتشابه مع أي نوع آخر في العالم. 

يبلغ ثمن الربع كيلوغرام خارج فرنسا حوالي ثلاثة مائة دولار بسبب ندرته وحاجة الذواقة إليه. وهو يباع بثمن مرتفع في فرنسا نفسها، ويتناقل كهدايا بين الناس بسبب غلائه الشديد وندرته

تراوح نكهة هذا النوع من الفلفل عبر الفم بالمذاق الحلو مع بعض المرار الذي لا يزعج المتذوق ويمنح إحساساً بالحرارة يستمر لفترة طويلة دون إحداث أية مضاعفات أخرى بينما تسري نكهته عبر الأنف، وتراوح -بحسب الموسم- بين رائحة البندورة الخضراء والفلفل الأحمر الحلو، أما في المواسم التي تكون فيها الشمس طاغية فقد يصل إلى طعم الخبز المحروق. وغني عن القول إن هذا النوع من الفلفل يستخدم من قبل كبار الطهاة حول العالم.  

في عام 2000 دخل هذا الفلفل ضمن الأنواع المفروض حمايتها واعترف لـ"إسبليت" بأنها أرض هذا النوع دون غيرها في العالم. وقد وضعت دراسات تتناول التفاصيل المتعلقة به وطرق حمايته وزراعته وأسماء الفلاحين المعتمدين لزراعته ومساحة أراضيهم.

كما تم إلغاء الطريقة القديمة في تنشيفه قبل طحنه والتي كانت تعتمد واجهات المنازل، حيث يترك في الهواء الطلق خمسة عشر يوماً قبل طحنه. 

 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard