كنت أتحدّث يوماً ما مع صديقةٍ مستقلّة عن أهلها للعمل في محافظة القاهرة، فقالت لي إن أسوء ما تتعرّض له في حياتها المستقلّة هو أن الناس تظنّها، على حدِّ قولها، "هربانة من بيت أهلي"، فيوصموها بالعاهرة، ويتمُّ التعامل معها على هذا الأساس، في حين أنها على علاقةٍ طيّبةٍ بعائلتها.
وظلَّ حديثها معلّقاً بذاكرتي وبداخلي سؤال واحد "وماذا لو كانت بالفعل هاربة من بيت أهلها؟".
ظلَّ حديثها معلّقاً بذاكرتي وبداخلي سؤال واحد "وماذا لو كانت بالفعل هاربة من بيت أهلها؟".
بالطبع لن أغدق على هؤلاء الناس بحديثٍ يحوي شعاراتٍ تتحدّث عن حريّة الفرد وحريّة المرأة لأنهم لن يفهموها، بل يمقتون أيَّ شكلٍ من أشكال التحرّر، ويرونه تقليداً للغرب وحياتهم المليئة بالمعاصي، فهم يقدّسون التحكّمات وإصدار الأحكام والهيمنة وفرض السيطرة، ولكن على الأقلّ، أريد أن أعرف لماذا لا يسألون أنفسهم، ولوّ للحظة، ما الذي دفع هذه البنت، وأحياناً في سنٍّ صغير، لاتخاذ مثل هذا القرار وترك البيت، الذي هو من المفترض أن يكون مصدراً للأمان؟
تثير اهتمامي قضايا المرأة، في مجتمعاتنا التي لا شاغل لها سوى المرأة ولباسها وأفعالها وجسدها، فقرّرت النبش وراء هذه القضية وتوصّلت إلى صديقةٍ تركت منزل أهلها منذ سبع سنوات، وما لفت نظري في حديثها أنها أخبرتني أن أخيها ترك البيت ذات مرّة على إثر خلافٍ نشب بالبيت، وحينها أغدقته والدتها بالتوسّلات والدموع وأغدقه والدها بالمال فقط ليعود، أما هي عندما تركت البيت... فهدّدوها بالقتل!
دوماً يكون اعتراض المجتمع على أن من قامت بترك المنزل هي المرأة، وليس اعتراضاً على فكرة ترك المنزل نفسها، لأن المرأة في مجتمعاتنا تعني المنزل، فمهما تلقت من تعليمٍ عالٍ أو وظيفةٍ جيّدة فمرجوعها للمنزل وللمطبخ وللواجبات المنزليّة.
جرّب قبل أن تحكم أن تسأل على الأقل، أريدك أن تسأل أيَّ فتاةٍ تركت البيت عن السبب الذي دفعها لذلك، وأنا واثقة أنك ستسمع ما يُدمي قلبك، ورغم كلِّ الانتهاكات الجسديّة أو الجنسيّة التي يتعرّضن لها الفتيات في بيوتهن، فعندما تقرّر ترك البيت يتناسون تماماً كلّ شيء فعلوه بها ودفعها لاتخاذ مثل ذلك القرار، ويقرّرون أنها هربت مع شاب ما، أو أنها على علاقةٍ غير شرعيّة، أو أيّ تفسير يمسُّ الشرف والأخلاق، وهنا تجلب البنت في نظرهم "العار" للأهل والعائلة، وخاّصة فتيات العائلة اللواتي يرفض العرسان التقدّم لخطبتهن، خوفاً من أن يكن على شاكلة "العاهرة" التي تركت المنزل –دوماً المرأة من تدفع الثمن- على الرغم من أن هناك الكثير جدّاً من الفتيات اللواتي على علاقة، سواء عاطفيّة أو جنسيّة، ويعشن في كنف أهلهن.
جرّب قبل أن تحكم أن تسأل على الأقل، أريدك أن تسأل أيَّ فتاةٍ تركت البيت عن السبب الذي دفعها لذلك...
دوماً يكون اعتراض المجتمع على أن من قامت بترك المنزل هي المرأة، وليس اعتراضاً على فكرة ترك المنزل نفسها، لأن المرأة في مجتمعاتنا تعني المنزل، فمهما تلقت من تعليمٍ عالٍ أو وظيفةٍ جيّدة فمرجوعها للمنزل وللمطبخ وللواجبات المنزليّة.
وفي اعتقادهم أن المرأة التي تقرّر تَرْك المنزل تكون غنيمةً سهلة، لذلك تتعرّض المرأة لأنواعٍ عدّة من الابتزاز والاستغلال العاطفي والجنسي والمادي، قالت لي صديقة مرّة إنها لم تكن تخبر أحداً عن مكان سكنها، أو أنها تعيش وحدها، حتى لا يظنّون أن شقتها غرزة أو شقة دعارة!!
ورغم كلّ المساوئ التي تتعرّض لها العديد من الفتيات بعد ترك المنزل، من محاولات تحرّشٍ واغتصابٍ واستغلالٍ جنسي وعاطفي، مثل الصديقة تلك التي تعرّضت لمحاولة اغتصاب من رجلٍ في سنِّ أبيها أو أكبر، ورغم ذلك لم تفكّر ولو مرّة في الرجوع إلى المنزل، أو حتى مجرّد اللجوء لهم.
لا يجوز للبنت في مجتمعاتنا أن تستقلَّ بحياتها بأيّ شكل غير الزواج، تظلّ في بيت أبيها تتحّمل كلَّ أنواع العنف، حتى يأتي العريس الذي يكون من اختيار الأهل غالباً، وغالباً يكون على شاكلتهم، لتنتقل إلى بيته، ذلك هو الخيار الوحيد. وحتى بعد زواجها لا يحقُّ لها أن تتحدّث مع زوجها عن أيِّ شيء كان يحدث في بيت أهلها، حتى لا يقوم بمعايرتها به، فمن المفروض أن تلتزم الصمت وفقط.
ناهيك عن أن البنت المستقلّة تتولّى جميع أمورها بنفسها، من مأكلٍ ومشربٍ ودفع فواتير وعملٍ وأحياناً دراسة، في أيّ بلدٍ محترم، من الطبيعي أن يستقلَّ الفرد بحياته، سواء رجل أو امرأة، ويتحمّل مسؤولية نفسه، ولكن في مجتمعاتنا تظلّ المرأة رهناً للأهل ورهناً للزوج ورهناً للمنزل حتى مماتها.
أثارني فضولي لأعرف ما رأي الدين في هذا الموضوع، ولم يكن رأي الدين صادماً بالنسبة لي بصراحة، وبالتأكيد أيّ شخصٍ عاقلٍ سيتوقّع أن جمهور الفقهاء اجتمعوا على وجوب أن تخرج المرأة من بيت أبيها لبيت زوجها فقط، وغير ذلك فهو عقوق!
يقولون لنا الدين كرّم المرأة، وهل هذه حياة كريمة التي تتعرّض فيها المرأة للتعدّي والضرب باسم الدين؟
يقولون لنا الدين كرّم المرأة، وهل هذه حياة كريمة التي تتعرّض فيها المرأة للتعدّي والضرب باسم الدين؟
إذا كان هذا هو الدين الذي يصدّره لنا الفقهاء، فهو بذلك يسلب المرأة حقَّها في الحياة، ماذا عن أبٍ يعتدي على ابنته بالضرب؟ أو أخٍ يعتدي على أخته جنسيّاً؟ أو إجبار على الزواج أو غيره؟ وبعد ذلك إذا قرّرت الفتاة أن تنجو بنفسها تعتبر عاقّة، وبالطبع ناقصة عقل ودين.
أما بالنسبة للقانون المصري فيكون في صفِّ البنات اللواتي تخطيْن الواحد وعشرين عاماً، أما من هن تحت السنِّ فهن قاصرات، بإمكان الأهل تحرير مَحْضَر تغيّب، وفي حال العثور على البنت يتمّ إرجاعها لأهلها، هكذا بكلِّ سهولة، دون السؤال فيما إذا كان هذا يشكّل خطراً على حياة البنت أم لا؟ خاصّة أن أغلب العائلات في مجتمعنا تؤمن بأن هذا الفعل يجلب "العار" للبنت ولأهلها ولعائلتها، فيقومون في بعض الأحيان بغسل هذا العار وقتل البنت، وهذا حدث ومازال يحدث في مجتمعاتنا، ولكن لن تجد إحصائيّة أو حتى خبراً عن ذلك، لأن أغلب قضايا المرأة تندرج تحت قضايا" الرقم الأسود"، وكأن القانون يسلمهن لحتفهن، وهناك من هم أكثر رحمة فيبرحونها ضرباً ويمنعون عنها الهواء.
أما أنا فأريد أن أعتذر لكلِّ بنتٍ أو امرأةٍ تعرّضت للذي يضطرّها لاتخاذ قرار بهذه الصعوبة، أن تكون هي المسؤولة عن نفسها وحياتها وتصرفاتها في وسط مجتمع ينظر للمرأة على أنها ناقصة الأهلية، ويجب أن يكون لها ولي أمر، حتى لو تخطى عمرها الأربعين، فكيف يصلح المجتمع ونصفه لا يتمتع بحقوقه في الاختيار أو الحياة أو حتى الاعتراض!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...