جاءت حركة التّبغ والتنباك (عام 1890) مع توقيع عقد بين إيران وشركة بريطانية يمنح بموجبه تجارتهما لهذه الشركة، وأدى هذا الاتفاق إلى ثورة الشعب وعلماء الدين في إيران، وتبعها تحريم المراجع الدينيين لاستعمالهما، ما نتج عنه إلغاء العقد. قام الناس آنذاك، وإثر الفتوى بتحريمه، بكسر نرجيلاتهم، وتجنُّب استخدامِه نصرةً لدعوة شعبية من قبل رجال الدين الوطنيين وعلى رأسهم ميرزا الشيرازي. ولكن ثمة امرأة مكفوفة كانت تعيش في حرم ناصر الدين شاه (رابع ملوك السلالة القاجارية التي حكمت إيران بين 1848 حتى 1896 وأهمهم) ظلت تدخن النرجلية غير مكترثة بما يقال ويصدر، وذلك بسبب ما كانت تحظى بها من مكانة في البلاط؛ هي السيدة أمينة أقدس إحدى محظيات الشاه، التي كان قد التقاها في رحلة له إلى المناطق الغربية من البلاد، فأحضرها معه إلى طهران.
يكتب ميرزا علي خان أمين الدولة (من رجال الفترة القاجارية والصدر الأعظم لناصر الدين شاه) في مذكراته: "حين عبر الموكب الملكي من گَروس (من مدن كُردستان الإيرانية) وقعتْ فتاةٌ قبيحة ويتيمة، وجزء من جسدها كان قد احترق في طفولتها ولم يلتئم، اسمها زبيدة... كانت العادة أن يشتريها الملك بثمن بخس ودراهم معدودات، ورحمة بها يضعها ضمن خدمِه".
عملت زبيدة بدايةً في مقهى الحرم، ولكنها استطاعت لفت انتباه الملك إلى أن باتت من المحظيات التي يحبها الملك حبّاً جماً، وتقدمت حتى أصبحت الحافظة لمجوهرات المملكة، ومن ثمّ لُقبت بـ"أمينة أقدَس". وإضافة إلى ذلك كانت السيدة زبيدة المسؤولةَ عن "بِبْري خان" قِطّ الملك المحبب.
كانت المسؤولة عن "ببْري خان" قطّ الملك الحبّب، وتقدّمت حتى أصبحت الحافظة لمجوهرات المملكة، ومن ثمّ لُقبت بأمينة أقدس... السيدة زبيدة أحد محظيات ناصر الدين شاه
نراها في إحدى الصور تحدّق في نقطة خارج الإطار وعلى خلاف بقية السراري ليس لديها شاربان، حتى أنّ حاجبيها غير كثيفين؛ ترتدي قميصاً مشجراً واضعة يديها على رجليها، وكأنّ هذه الجلسة تدلّ على مكانتها في الحرم وثقتِها بنفسها.
فقدت إحدى عينيها في حادث، وبعد سنوات فقدت بصرها في العين الثانية. يكتب الطبيب الفرنسي الخاص لناصر الدين شاه فِفْريه عن أمينة أقدس: "فقدت قبل سبع سنوات عينها اليمنى، وخفّ بصر العين اليسرى بينما كان الأطباء الإيرانيون يعالجونها معالجاتٍ سريعة وبأدوية أثرها الوحيد هو تسريع المرض في حال أنه لو تمّ معالجتها في أسرع وقت لعاد البصر لها".
فقدان البصر
بعد أن انتبه الملك إلى وخامة الوضع طلب ففريه فوراً فيكتب الطبيب: "أذهب يومياً لمعالجة أمينة أقدس. تحسنت حالتها وانقطع الألم، لكن المرض يتقدم كلّ يوم خطوتين، لأنها لا تقبل بالأمر الوحيد الذي يمكن أن يحسّن حالتها، أي العملية الجراحية. ما أن تحسنت حالتها غمرتْني بالشُّكر وقدّمت لي الشاي والحلويات، وأظهرت المسكينة أنّ علاجها بيدي، ولو أظهرت لي المزيد من المحبة سأعالجها دون ريب أسرع، ولأنها تؤمن بهذه الفكرة لم أظهر تضايقي. قالت لي في نفس اليوم إنها قد عرضت على الملك أنّ الأرض التي منحها لأمين السلطان أرى أنه من اللازم أن تُعطى لي، ووافق الملك على أن أتعهد ببنائها، وقد فرحتُ جداً بجواب الملك، وهذا ما كشفته لي هي".
عبر سفر السيدة زبيدة إلى جنيف أصبحت أول امرأة من البلاط تسافر إلى أوروبا الوسطى حتى وإن لم تر أي شيء بسبب العمى
رغم محاولات ففريه في إقناع أمينة أقدس بالعملية، لكنه لم ينجح في ذلك. ورويداً رويداً فقدت أمينة أقدس البصرَ كلياً. فقدان بصر المحظية المقربة من الملك أحزنه وحاول بكلّ الطرق أن يعيد البصر لزبيدة. بعد مشاورات كثيرة ورغم معارضة علماء الدين والأجواء الحاكمة على المجتمع، قرر ناصر الدين شاه إرسال أمينة أقدس مع ممرضات وآغا بهرام (أحد الخواجات النافذين في البلاط) بمعية سعد السلطنة (حاكم قَزوين) وميرزا أحمد خان كمترجم إلى فيينا لمعالجة عينيها.
يكتب اعتماد السلطنة (صحافي ومترجم ناصر الدين شاه) في مذكراته: "قبل ذهاب أمينة أقدس إلى أوروبا حدث خلاف في بلاط ناصر الدين شاه حول هذه القضية، وكانت مجموعة وعلى رأسها ميرزا علي أصغر خان أتابَك (من رجال القاجار وكان في فترة الصدرَ الأعظم في إيران) بدعم السيدة الگروسية ترى أنّ علاجها الوحيد في سفرها إلى أوروبا، بيد أنّ ميرزا علي خان أمين الدولة (الصدر الأعظم حينها) كان على رأس الجناح المعارض، وقال للملك: لقد رأيتَ أوروبا وتعرف جيداً الوضع فيها. إنّ ارسال نساء منقبات إيرانيات وامرأة عمياء تنتسب إلى الحرم الملكي يعتبرونه عملاً شنيعاً، وفي حال أنّ الشفاء عبر هذه الطريقة محلّ شكّ، فمن الأفضل ذهاب أمينة أقدس إلى الحجّ عن طريق إسطنبول، لأنها مدينة الإسلام وعبور النساء الإيرانيات ليس مستغرباً، وثمة تجار إيرانيون معهم عائلاتهم يعرفون لغة بعضهم بعضاً، ويمكنهم تقديم المساعدة. يحدَّد منزل مناسب لأمينة أقدس يمكنها الإقامة فيه والعلاج. يستطيع أول طبيب من الحضور من باريس وفيينا خلال يومين، وإذا كان العلاج متاحاً فهي في مكان قريب. لم يقبل الملك رأي أمين الدولة فأرسل أمينة أقدس مباشرةً إلى فيينا".
وصل الموكب إلى فيينا وبعد جدل طويل بين بعض الأطباء رأى أنّ العملية الجراحية لا طائل منها، ومع تدخل السفير الإيراني في النمسا، قام الأطباء بالعملية الجراحية.
فشل العملية
لم تنجح العملية الجراحية، وعادت أمينة أقدس كما كانت قبل سفرها. بعد وصولها إلى طهران ذهبت إلى مدينة مشهد، ومن ثمّ عادت إلى حديقتها في تَجْريش (الحديقة التي باتت معروفة بـ(الأقدسية) لأنها تملكها وهي اليوم منطقة في شمال طهران). حاولت زبيدة بعد عودتها إخفاء فقدانها البصرَ. ولفرطِ حبّ ناصر الدين شاه لها كان يعاملها كأنّ العملية الجراحية قد نجحت، وعلى هذا لم يودعها مجوهرات البلاد فحسب، بل كانت تشارك في كلّ مراسم الملك في البلاط.
لم تكن زبيدة ترى شيئاً، ولكنّ هذا لم يمنعها عن ركب المنافسة قي البلاط، في حال أنها كانت تحمل حسرة الرؤية والبصر مجدداً. يكتب ففريه عن آخر لقاء جمعه بها: "طلبني آغا بهرام خواجه باشي. ما أن دخلتُ، رأيت العجوز العمياء حزينة ومكسورة. سألتني عن حالي بحفاوة، كما هي عادة الإيرانيين، وكانت تمتدحني بجمل فصيحة وبليغة، وحاولت أن تسألني إن كانت ثمة وسيلة لمعاجلة عينيها مثل عيني السيدة عائشة (إحدى نساء ناصر الدين شاه) أم لا؟".
أُصيبت أمينة أقدس في النهاية بسكتة دماغية أدت إلى وفاتها.
استطاعت هذه الفتاة الگَروسية اليتيمة إكمال طريق ضرتها أي أنيس الدولة (من نساء ناصر الدين شاه التي رافقته في سفره الأول إلى أوروبا كملكة، ولكن لظهور مشاكل في طريق السفر لم يكتمل سفرها وعادت من روسيا إلى إيران). وعبر سفرها إلى جنيف أصبحت أول امرأة من البلاط تسافر إلى أوروبا الوسطى حتى وإن لم تر أي شيء بسبب العمى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه