شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
متعطشة للسلطة وعابرة لحدود المجتمع... عن الحاكمة الأولى والأخيرة لإيران

متعطشة للسلطة وعابرة لحدود المجتمع... عن الحاكمة الأولى والأخيرة لإيران

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 28 يناير 202207:18 م

خلال الفترة الملكية القاجارية في إيران (1789- 1925)، كانت النساء ناشطات في مختلف المجالات في المجتمع، ولعبن دوراً مهماً في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. هذا رغم التقاليد الموروثة في إيران والتي طالما كانت تحدّ من حضور المرأة في المجتمع. أدوار النساء البارزة ظهرت خلال هذه الفترة لاسيما بعد أن سافر الملك القاجاري الأهم، ناصر الدين شاه، إلى أوروبا، وتأثر بمظاهر الحداثة هناك.

واحدة من أقوى النساء خلال هذه الفترة كانت ملِك جهان، الملقبة بـ"مهْد عُليا" و"نواب عِلیّة". ولدت عام 1805، وهي ابنة محمد قاسم خان، ابن سليمان خان اعتضاد الدوله القاجاري، وحفيدة ثاني ملوك القاجار، ووالدة أشهرهم، ناصر الدين شاه.

ليست جميلة لكنها قويّة وذكيّة

ملك جهان التي تعتبر  إحدى  أشهر النساء في تاريخ إيران المعاصر، كان لها قوة وتأثير كبيران في زمنها، رغم عدم تمتعها بالجمال (كما يُقال) الذي كان مهماً جداً في المجتمع الإيراني آنذاك. 

كانت ملك جَهان مختلفة عن غيرها من النساء منذ شبابها. تعلمت القراءة والكتابة بشكل جيّد، وكانت ذكية جداً، تجيد الأدب الفارسي واللغة العربية، وعلى معرفة بالموسيقى وقراءة القرآن بصوت جميل، كما كانت مهتمة جداً بقراءة كتب الشّعر والتاريخ، وتكونت مكتبتها الخاصة من هذه الكتب. أما أكثر ما كان يميّزها من نساء عصرها فهي طموحاتها.

تقول عنها، مونِس الدولة، وهي من أشهر خادمات العائلة القاجارية: "كانت امرأة لديها قدرات وميزات كثيرة، وكانت صاحبة ذوق رفيع. كان لديها خط جيّد في الكتابة، كما أنها كانت تتقن التطريز والرسم. وكانت تتحدث لغات أجنبية بطلاقة، منها الفرنسية؛ وهي مواصفات كانت تتمتع بها قلة من النساء في ذلك الوقت".

"سألتني أسئلة عديدة حول الملكة فيكتوريا؛ عن ملابسها، وعدد أولادها، وقالت إنها تعتقد أن الملكة أسعد امرأة في العالم لأنها تتمتع بزوج صالح وعائلة حميمة، ولديها الكثير من القوة"

ويقال بأنها تعلمت اللغة الفرنسية من سيدة فرنسية هاجرت إلى إيران برفقة زوجها لتعليم التطريز وصناعة الأزهار الاصطناعية للنساء الإيرانيات، وقد تكونت صداقة حميمة بينها وملك جهان منذ شبابها إلى أن توفيت.

تقول  مري شل، زوجة السفير البريطاني لدى طهران في السنوات الأخيرة من حكم محمدشاه زوج مَهد عُليا وأيضاً في عهد ابنها ناصر الدين شاه، في  ذكرياتها عن لقائها بملك جهان: "ترتدي ملابس فاخرة ولديها الكثير من المجوهرات. إنها امرأة ذكية للغاية وتشارك في معظم شؤون البلاد. سألتني أسئلة عديدة حول الملكة فيكتوريا؛ عن ملابسها، وعدد أولادها، وقالت إنها تعتقد أن الملكة  أسعد امرأة في العالم لأنها تتمتع بزوج صالح وعائلة حميمة، ولديها الكثير من القوة".

من الزواج إلى حكم البلاد

عندما كانت في السادسة عشرة من عمرها، تم عقد قرانها مع ابن خالها محمد ميرزا الذي كان ولي العهد آنذاك. وبعد الزواج انتقلت برفقة زوجها إلى مدينة تبريز. زواج تمّ بإرادة العائلتين غير عارفين بما يعترضه من مطبّات وعُقد.

أنجبت ملك جهان من محمد شاه 3 أطفال، سلطان ملك ميرزا، وسلطان محمود ميرزا ، وكِشْوَر خانُم، إلا أنهم لم تُكتب لهم الحياة. عندما بلغت ملك جهان 25 عاماً أنجبت ناصر الدين، وبعد 5 سنوات من ذلك، أنجبت ابنتها عزّت الدوله.

لم تربط ملك جهان وزوجها محمد شاه علاقة جيدة طيلة حياتهما. وبحسب ما جاء في التاريخ، تزوج محمد شاه من نساء أخريات غير ملك جهان، وكانت ملك جهان غير راضية تماماُ عن هذا الأمر، وغاضبة منه، خاصة زواج الملك من خديجة خانم، التي كان والدها من الأكراد النقشبنديين القريبين من محمد شاه. وكان محمد شاه يولي اهتماماً خاصاً بخديجة خانم وابنه منها عباس ميرزا الذي سمّاه "نائب السلطنة".

وعلى الرغم من أن محمد شاه كان قد قدم ناصر الدين خلفاً له وولياً للعهد بعده منذ أن كان ناصر الدين في الخامسة من عمره، إلا أنه حاول لاحقاً أن يجعل ابنه الآخر عباس ميرزا وريثاً للمُلك، الأمر الذي زرع غضباً شديداً في قلب ملك جهان.

وفاة محمد شاه فتحت الطريق أمام ملك جهان لتعزيز قدرتها وإزالة خديجة خانم وابنها عباس ميرزا عن طريقها هي وابنها ناصر الدين

كانت ملك جهان خلال فترة حكم زوجها امرأة قوية، لم تكتف بأن تكون زوجة الشاه المخبّأة في البلاط الملكي، بعيدة عن الأمور السياسية وإدارة البلاد، بل كانت تلعب دوراً في القرارات السياسية وتعيين وعزل المسؤولين، وكانت لها علاقات واسعة مع المسؤولين الأجانب لدى طهران وزوجاتهم.

كانت تتهّم أيضاَ زوجها بعدم الجدية في إدارة البلاد، والقيام بمهامه. وتدهورت علاقتهما لدرجة أن محمد شاه أراد أن يطلق ملك جهان، ولكن تم تأجيل ذلك بسب بمرضه، وثم وفاته (1848) بسبب الإصابة بأمراض عديدة منها النقرس.

وفاة محمد شاه فتحت الطريق أمام ملك جهان لتعزيز قدرتها وإزالة خديجة خانم وابنها عباس ميرزا عن طريقها هي وابنها ناصر الدين.

بعد لحظات من وفاة محمد شاه، استدعت ملك جهان ابنها ناصر الدين شاه الذي كان آنذاك في مدينة تبريز، ليأتي ويجلس على العرش خلفاً لوالده. وبمساعدة أنصارها والسفارة البريطانية، وحتى وصول ابنها من تبريز إلى طهران، الذي أخذ وقتاً ما بين 40 إلى 45 يوماً، تولت شؤون البلاد، رغم معارضة بعض الشخصيات السياسية في البلاد، التي كانت ترغب في حكم عباس ميرزا، الابن الآخر لمحمد شاه.

وقامت ملك جهان بتشكيل مجلس الحكم، وأقالت ميرزا آغاسي وزير محمد شاه الذي كان من أنصار عباس ميرزا. لجأ عباس ميرزا ووالدته خديجة، اللذان شعرا بالتهديد من قبل ملك جهان، إلى السفارة البريطانية بمساعدة بعض أقارب محمد شاه واستقرا هناك، وليست هناك تفاصيل أخرى عن حياتهما في ما بعد.

بقيت ملك جهان خلال فترة حكم ابنها ناصر الدين الذي أصبح ملكَ البلاد خلفاً لوالده، ذات نفوذ وتأثير كبيرين جداً، وكانت تتخذ قرارات سياسية وحكومية، أبرزها كانت قضية رئيس الوزراء أمير كبير.

أمير كبير، صِهرها وعدوّها

ميرزا محمد تقي خان فَراهاني، رئيس وزراء إيران في بداية عهد ناصر الدين شاه القاجاري، والذي يعرف بلقب "الأمير الكبير" (بالفارسية: أمير كبير) كان من الشخصيات ذات النفوذ الكبير والقدرة في ذلك العهد، ويعتبر المصلِح الإيراني الأول. وبسبب محاولاته لإصلاح البلاد في مجال الثقافة والاجتماع، كان له أعداء ومعارضون كثر، رغم محبة واحترام ناصر الدين شاه له. وأبرز أعداء أمير كبير كانت ملك جهان، والدة الملك.

يعتبر الخلاف والعداوة بين ملک جهان وأمير كبير أهم جزء من حياة ملك جهان، وربما أسوأها، وقد تسبب في الكثير من الاتهامات والانتقادات ضدها. جذور هذا العداء تعود إلى الخلافات بينهما حول إدارة البلاد، ويعود جزء آخر يعود إلى غضب ملك جهان الدائم والشديد من زواج ابنتها عزّت الدوله منه؛ الزواج الذي تم بأمر من ناصر الدين شاه.

حاولت ملك جهان بطرق مختلفة تقليص نفوذ وقوة أمير كبير، فذات مرة، وبعد محاولاتها الكثيرة، ذهبت نحو ناصر الدين شاه برفقة بعض المسؤولين وأخبرته أن أمير كبير يريد خلعه من العرش واستبداله بشقيقه عباس ميرزا.

أثرت تلك التصريحات التي كانت مجرد إشاعات على الملك الشاب وتضاءل اهتمامه بأمير كبير، فقام  بإقالته من رئاسة الوزراء ومناصب حكومية وعسكرية أخرى، ثم أمره بالذهاب إلى مدينة كاشان، التي أصبحت منفاه حتى وفاته.

سيرة حياتها تظهر أن ملك جهان كانت امرأة مختلفة. امرأة متعطشة للسلطة ومتهوّرة، عبرت الحدود المغلقة في المجتمع وفي العائلات الملكية. إمرأة لم تدخر أي جهدٍ لتحقيق هدفها

ولم تكتف ملك جهان بذلك، حيث خططت بمساعدة آخرين لاغتيال أمير كبير. ولتنفيذ هذه الخطة، أخذت بورقة أمرٍ وقّعها الملك وهو في حالة سكرٍ ذات مساء. ثم أرسلت فوراً أشخاصاً لتنفيذ العملية، بينما كان أمير كبير في "حمّام فين" في كاشان. اغتيال أمير كبير (1852) أثار جدلاً كبيراً في البلاد، وأصبح من أهم الاغتيالات السياسية في إيران، ومحل اغتياله بات اليوم مكاناً تاريخياً مهمّاً يزوره السيّاح.

يُقال إن ناصر الدين شاه عند صحوِه من حالة السكر علم بتوقيعه أمر اغتيال أمير كبير، لكن الوقت كان قد تأخر كي يتراجع عن الحكم، فبقي الملك نادماً وحزيناً على ذلك حتى نهاية حكمه الذي ختمه اغتياله هو الآخر.

منذ تدخلها في اغتيال أمير كبير، وحتى وفاتها، لم تدخل ملك جهان ساحة السياسة كما في السنوات السابقة، وأخذت برعاية أحفادها من ابنتها عزت الدوله وأمير كبير، وأخذت تشجع ابنتها على الزواج من أشخاصٍ لأهداف ومصالح سياسية، لعدة مرات.

بعد وفاة أمير كبير، تم تعيين ميرزا آقا خان نوري اعتماد الدولة، رئيساً للوزراء، الذي يقال إن ملك جهان كانت على علاقة به.

قامت ملك جهان ببناء وإعادة إعمار عدة أماكن وأبنية خلال حياتها، شملت مدارس، ومساجد، ومراقد دينية. وبقيت منها أختام تحمل عناوين كـ"ملكة نساء العالم" و"عصمة العالم والدين".

حیاة ملك جهان المليئة بالأحداث وبالتطورات، ورغم إطلاق صفات الفتنة والمؤامرة والحقد والفساد ضدّها، وتسميتها بالـ"مومس" من قبل أشخاصٍ منهم صِهرها أمير كبير، إلا أن سيرة حياتها تظهر أن ملك جهان كانت امرأة مختلفة؛ امرأة متعطشة للسلطة ومتهوّرة، عبرت الحدود المغلقة في المجتمع وفي العائلات الملكية؛ امرأة لم تبخل في بذل أي جهدٍ لتحقيق هدفها المتمثل في استمرار السلالة القاجارية والبقاء في السلطة من خلال ابنها. ورغم حكمها القصير على البلاد، والذي لا يتجاوز 45 يوماً، إلا أن اسمها لم يُسجل ضمن أسماء ملوك القاجار،  ويبدو أن السبب يعود إلى كونها امرأة.

توفيت ملك جهان في طهران عن عمر يناهز 70 عاماً (1873) بسبب كبرها في السن، عندما كان ابنها ناصر الدين شاه في رحلة إلى أوروبا. وبعد عودة ابنها الملك نُقل جثمانها إلى مدينة قُم في جنازة كبيرة، ودُفنت في مرقد السيدة معصومة بجانب زوجها محمد شاه، الذي لم تكن لها علاقة جيدة معه خلال حياتها.  

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard