قبل أن أبدأ بطرح سؤال من أنا، قُلعت من أرضي، لأن صوت الرصاص والصرخات التي ملأت شوارع دمشق أخافت والديّ، فقررا أنه من الأفضل لنا أن نذهب للعيش في بلد مجاور، وقالا لي إنّ الأمر لن يختلف كثيراً، فهناك سنشترك مع أهل البلد الجديد في سماع فيروز ودراسة قصائد نزار قباني.
ومن دون أن يُتاح لنا الوقت الكافي للتفكير المعمّق الطويل، حزمنا أغراضنا، وركبنا السيارة منطلقين نحو حياة جديدة. وقبل أن أنهي تناول كل البسكويت الذي اشتريته للرحلة، وصلنا إلى لبنان. غريب! قلت لنفسي. أرض متصلة ببعضها، وحتماً هذا ليس سفراً. ليتني لم أشترِ كل هذا الطعام للطريق. توقعت حينها أني لن أعاني. والداي على حق، ففي هذه المسافة القصيرة لن يكون هناك اختلاف كبير، إلا الجنسية المختلفة التي أحملها. هكذا ذهبت إلى المدرسة الثانوية، ثم إلى الجامعة، بجنسيتي المختلفة عن معظم جنسيات زملاء صفّي.
من دون أن يُتاح لنا الوقت الكافي للتفكير المعمّق الطويل، حزمنا أغراضنا، وركبنا السيارة منطلقين نحو حياة جديدة. وقبل أن أنهي تناول كل البسكويت الذي اشتريته للرحلة، وصلنا إلى لبنان
طوال هذه السنوات، شعرت بأني جزء منهم، جزء يتجانس معهم من دون أن يبدو نافراً، فلم ينادِني أحدهم يوماً بـ"سورية"، ولم أعامَل معاملةً تقصيني عنهم. بيد أن ذلك الاختلاف ظل قابعاً في السرّ. فحين يتحدثون عن سياسة بلدهم أو مشاركتهم في الانتخابات، أظلّ صامتةً، لأني بالرغم من اندماجي وتقبلهم إياي، غريبة. نعرف جميعنا أنه لا يحق لغريبة أن تبدي رأياً في شأنٍ داخلي. ولماذا يهمهم رأيها أصلاً؟ عليها ألّا تنسى، حتى وإن أحبها الجميع، أنها في أرض ليست أرضها.
لماذا يهمهم رأيها أصلاً؟ عليها ألّا تنسى، حتى وإن أحبها الجميع، أنها في أرض ليست أرضها.
تعودت على الأمر، وعشت سنوات دراستي سعيدةً في بيئة أستطيع فيها أن أناقش القضايا الاجتماعية التي أريد، وأنا أتناول المناقيش صباحاً، وألقي التحية على زملائي قائلةً: "هاي كيفكن؟ سا فا؟"، من دون أن أشعر بغرابة خلط ثلاث لغات ببعضها في جملة واحدة. ومع ذلك، بقيت سوريةً، أقول "مو"، للنفي، وأتناول الفلافل على الفطور، وليس على الغداء، وأطبخ المجدرة بالبرغل بدلاً من الأرز.
لكني لم أعلم أين تبدأ وتتوقف حدود هويتي السورية مع زملائي وأساتذتي، فأحياناً أرغب فقط في التعبير معهم عن حبي للبنان، حين نخوض نقاشاً عن البلد وأحواله. لكن شبح جيش صفع آباءهم باسم هويتي، يقبع بيننا، ويدفعني لأبقى صامتةً كي لا أخيفهم، وأبدو كمحتل راقت له أرضهم وأرادها لغاياته. لذا أحببت لبنان صامتةً، وتشرّبته، حتى صارت طيبته تلوح في وجهي.
ثم كان للشجرة قدر العودة إلى تربتها الأولى. إذ بعد أربع سنوات، عُدت إلى دمشق للزيارة. وعلى الرغم من سعادتي في لبنان، كنت سعيدةً بالعودة لأني عَلِمت أني سأزور مدينتي، ولن أشعر باختلافي وأنا أجلس مع الناس وأمشي بينهم. بيد أني هناك لم أكن سوريةً فقط، بل كنت السورية القادمة من لبنان. ما يعني أني مختلفة عنهم أيضاً. أحياناً يرغمني هذا الاختلاف على أن أدفع أسعاراً أغلى في كل مرة أسأل فيها عن سعر شيء يُفترض بالسوري أن يعرفه، خصوصاً أني أضمّ بداية الكلمات، وأَلِفي في بعضها تصير ياءً. كما أني لم أعش معهم ما عاشوه من انقطاع الكهرباء وتدهور العملة والدراسة والمعيشة. وللحقيقة، أنا لا أفهم تماماً ما الذي يتحدثون عنه، وما إذا كانت معاناتهم صارت شرطاً للهوية، فهي ليست من ضمن تأسيس هويتي، أنا التي عشت هانئةً مقارنةً بهم. وبذلك صرت سوريةً ناقصةً، و"فتاةً مُلبننةً" كما يقولون. شعرت باختلاف أشدّ قسوةً، ولم أرغب إلا في العودة إلى البيت، إلى لبنان.
أنا لا أفهم تماماً ما الذي يتحدثون عنه، وما إذا كانت معاناتهم صارت شرطاً للهوية، فهي ليست من ضمن تأسيس هويتي، أنا التي عشت هانئةً مقارنةً بهم. وبذلك صرت سوريةً ناقصةً، و"فتاةً مُلبننةً" كما يقولون
غير أني عُدت تائهةً كيتيمة. هنا أنا السورية، سواء قالوها مباشرةً أم لا، وهناك أنا الفتاة القادمة من لبنان. لا أحد من الاثنتين أستطيع أن أكونها تماماً وأنتمي إليها، بالرغم من أني أغنّي بكل فخر "حماة الديار عليكم سلام"، و"كلنا للوطن للعلى للعلم". إلا أني أشعر بعدم امتلاكي النشيدين، ففي كلا البلدين أنا ناقصة الهوية، وفي كل محادثة أخوضها مع سوري أو مع لبناني، أنا ناقصة الهوية. أزعجتني هذه الأنا الناقصة، ولم أعرف كيف أحددها أو أعرّفها لتصير كاملةً. وفي حقيقة الأمر، يبدو أن تلك المسافة التي قطعتها بالسيارة وأنا صغيرة كانت حقاً سفراً.
عليّ أن أتذكر دوماً أني زائرة. إذا اعتقدتَ أني من هنا، فأنت مخطئ. أنا من هناك، لكنهم هناك لا يعتقدون أني منهم أيضاً.
مرةً أخرى، كان للشجرة قدر مغادرة الأرض التي أحبّت حالمةً بتربة تحوي جذورها لتنمو بأمان، فحملت جواز سفر كحلي يثبت للجميع أني سورية، ووضعت في حقيبتي مكدوساً لبنانياً وزعتراً حلبياً وقلباً مقسوم الهوى والهوية، وغادرت لأتابع دراستي في قطر، مواجهةً سؤالاً بديهياً: من أين أنت؟ وأذناً تنصت جيداً إلى لهجتي في محاولة للتخمين. ولم تكن الإجابة بديهيةً بالنسبة لي، وغالباً ما أسمع: "بس هيئتك لبنانية"، بعد أن أقول إني سورية. تعمّق في داخلي إحساسي بالغربة عمّن أكون، خصوصاً أني لم أجد أي جماعة أنتمي إليها. حاولت أن أُناسب القوالب المتاحة للهويتين، كي يصنّفني الناس وأروق لهم. وفي نهاية المطاف، فشلت، وصرت شكلاً غريباً على القوالب.
وفي أول إجازة عُدت فيها من الدوحة إلى لبنان، بدا الانشراح والشوق على قسماتي، وأنا أنظر من نافذة الطائرة التي تقترب من الأرض التي كبرت فيها وتغلغلت فيّ. التفت إلى فرحتي الشخص الجالس بجانبي، قائلاً لي بودٍّ: Home. Isn’t it؟
ارتبكت حينها، ولم أردّ. كنت أريد أن أُجلسه لأشرح له: اسمع عزيزي، أنا أشعر بأن هذا موطني، لكنه ليس موطني فعلياً، ولا يحق لي أن أشعر بأنه موطني. عليّ أن أتذكر دوماً أني زائرة. إذا اعتقدتَ أني من هنا، فأنت مخطئ. أنا من هناك، لكنهم هناك لا يعتقدون أني منهم أيضاً. وإذا أردت أن تسألني ما هويتي التي استنبطتها من بقعة جغرافية: فلست أعرف.
في محاولة عثوري على اسمٍ أو لقبٍ يلمّان هويتي بين دولة وُلدت فيها، وأخرى عشت فيها سنوات وعيي، نسيت أن الهوية تجربةٌ أعيشها، تضمّ إليها كلّ ما أتفاعل معه ويحتويني، وليست مصطلحاً أُعرّفه وأَحشر فيه نفسي إلى الأبد
لم أخبره بهذا طبعاً. ابتسمت حائرةً فقط. لا أتوقع أنه سيفهمني. فهو إذا كان من فلوريدا، وعاش غالبية حياته في نيويورك، فلن يواجه صعوبةً في قول: أنا من نيويورك. لكني انتبهت بعدها، إلى أني أبحث عن هويتي واستحقاقي لشعوري في ما أعتقد أن الآخرين يسمحون لي بأن أشعر به، من دون أن أبدو متطفلةً على هوية أو خائنةً لأخرى. كُنت أريد أن أُمنح هويتي، بالرغم من أني أشعر بها ومتأكدة منها، وأصنعها كلّ يوم بالاحتماء بواقعي الكبير من التسميات.
ففي محاولة عثوري على اسمٍ أو لقبٍ يلمّان هويتي بين دولة وُلدت فيها، وأخرى عشت فيها سنوات وعيي، نسيت أن الهوية تجربةٌ أعيشها، تضمّ إليها كلّ ما أتفاعل معه ويحتويني، وليست مصطلحاً أُعرّفه وأَحشر فيه نفسي إلى الأبد.
والآن أقول: أنا ابنة المكانين اللذين أحبهما، ويؤلمني ألمهما، وأحمل قصصهما معي. وما دمت شجرةً غير مزروعة، فسأكون ابنة أمكنة أخرى أيضاً، وسأحبها وسيؤلمني ألمها وسأحمل قصصها معي، لأصير أكبر هويةٍ يمكن لي أن أكونها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون