شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"كانت الكلمةُ كزوجةٍ وفيّة"... في أغوار شعر سركون بولص

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 25 أكتوبر 202205:53 م

الشاعر العراقي سركون بولص (1944-2007) الذي تمرّ بضعة أيام على ذكرى رحيله (22 تشرين الأول/أكتوبر) كان ذا تجربة ثرية مع الشعر بدأها منذ حداثته العمرية أوائل الستينيات من القرن العشرين، حيث يعود تاريخ أقدم نصٍّ مثبت له إلى عام 1962. بدأ سركون رحلته مع الشعر في شعر التفعيلة الموزون، ثم ما لبث أن انتقل إلى قصيدة النثر، ما يؤكِّد أن اختيار سركون بولص في ما بعد لنوع قصيدة النثر كان اختياراً حراً يلبي احتياجاً تعبيريّاً لديه.

تعددت التيمات الحاضرة والهموم الملحة في خطاب سركون بولص الشعري، لكن أحد أبرز وأهم موضوعاته، هو الشعر نفسه، رؤيته للشعر وعلاقته به، ودور الشعر في الحياة وصورة الشعر بين ما هو كائن، وما ينبغي أن يكونه في تَمثُّل ميتاشعري لما ينشده الشاعر للشعر الذي هو همه وشاغله ووسيلته الخاصة في التعبير عن ذاته وتَمثُّله للوجود؛ فالشعر عند سركون كان يتجاوز مجرد التعبير عن الذات عن نفسها وتصويرها للعالم.

يخرج الشعر عند سركون بولص من رحم المعاناة الوجودية التي تعيشها الذات الإنسانية ويتقلَّب فيها الشاعر، كما في قصيدة "ميراث سحري":

وكتبتُ مرتجفاً قصائدَ  عن شقائي

وعرفتُ أنَّ الباب مفتوحٌ! هنا حيث البيوتُ

تطوف حنجرةٌ على أبوابها

ملأى بأعشاب البكاءِ

مسحورةً بالبحر- أقرب منه نامتْ ثورتي

فوق الحصاةِ، ونمتُ في الأفعال فاعترفت دمائي

لغة تخطت بابَ وجهي حيث لا أبوابَ لي

ويَدٌ من الأسماءِ حرَّكها عدوٌ في شراييني، وأورثها سمائي

يبدو الشعر وليداً للشقاء الإنساني وابناً لمأساة وجودية كبرى تعتري الذوات الإنسانية، لذا بدا شعر سركون في بداياته التي ينتمي إليها هذا النصُّ أميل إلى التجريد والتمثيل الرؤيوي تعبيراً عن فلسفة وجودية معقَّدة تكافئ عالماً مركّباً وحافلاً بالآلام.

تعددت التيمات الحاضرة والهموم الملحة في خطاب سركون بولص الشعري، لكن أحد أبرز وأهم موضوعاته، هو الشعر نفسه، رؤيته للشعر وعلاقته به، ودور الشعر في الحياة وصورة الشعر بين ما هو كائن، وما ينبغي أن يكونه

وفي لغة سركون التصويرية يتبدى أنَّ ثمة تأسيساً لصور مركَّبة تجسِّد وعيّاً مأزوماً بعالم تتراكم أوجاعه وتتراكب همومه، وتحضر استعارة "الباب" بشكل لافت في بنية استعارات عنقودية، فباب أو أبواب البيوت مسكنُ الذوات في هذا العالم أو داخلهم الخاص ينفتح لحنجرة تثمر فيها أعشاب البكاء. لكنَّ  ثمة تطلعاً إلى البحر الذي يرمز إلى الفساحة اللامتناهية والاتساع الوجودي والأفق غير المحدود، وقرباً من البحر تنام ثورة الذات الشاعرة تأهباً أو استراحة قبل انتفاضة منتظرة.

أما علاقة الذات باللغة فتصوِّرها حلقة من الاستعارات المتتابعة، حيث "لغة تخطت باب وجهي"، في شعور بعرامة الاجتياح الحادث من قِبل لغة الشعر للذات الشاعرة، و"الباب" هو وسيط بين الداخل والخارج، كما تبين استعارة "حيث لا أبوابَ  لي" عن انفتاح الذات على الخارج/العالم واستعدادها لاستيعاب متغيراته والسكنى بحركاته وثوراته، أما الموجِّه للغة التي هي وسيلة الشاعر ومادته تشكيله لشعره فهو "يَدٌ  من الأسماءِ حرَّكها عدوٌ  في شراييني"، فمن هذا العدو الذي يحرِّك يد الأسماء في شرايين الذات الشاعرة حتى ترث سماءه التي تعني ذروه أفق الشاعر ومدى وعيه؟ هل هو الذات المضادة، التي تحمل روح الثورة وترفع رايات التمرُّد الوجودي؟

يقترن ضيق الذات لدى سركون بالعالم برفضها في الآن نفسه للشعر في تعبيره عن هذا العالم، كما في قصيدة بعنوان "أتهيّأ....":

أتهيأُ. أحشدُ فضةَ خوفي

بينَ بياضاتِ الحكمةْ

أرفض أن أبقى كالظلِّ  غريبا

كالظلِّ، شريد الأسنان يشدُّ الريحَ

ويبقى في بُعْدٍ عن شمسهْ

ومن الموت قريبا

ها هو ذا الشِّعرُ العفنُ

مهنةُ حمقى، يتلوّى كالموجةِ أو يحتقنُ

في يقطينات الليلِ، وسوف يكاشفني الكهنةْ

وسأكشف مفصلتي، ولعلي أقترنُ

بالسرِّ وأنسجنُ

الشعر في وعي الشاعر به هو حالة تهيؤ، يتلوها موقفَ رفض؛ رفض لوجود هامشي، وحضور باهت، كـ"الظلّ" التي يكررها الشاعر مرتين تجسيداً لوقعها المؤلِّم والمتردد بداخله والمُحفِّز في الآنِ للانتفاض والثورة. فالذات ترفض أن تبقى بعيداً عن شمسها/طاقة التنوير، وتأبى أن تظل قرباً من الموت الذي يعني جموداً وجوديّاً وانعدام فاعلية، فتعلو نبرة هجائية لما تسميه الذات الشاعرة "الشعر العفن" الذي يمتهنه الحمقى، الشعر الذي يتوارى في الظلام هرباً  من مسؤولياته وتخليّاً عن النهوض بفعل تنويري، لذا يبدو الشعر في تصوُّر الذات الشاعرة هو فعل مكاشفة أشبه بلحظة الكشف الصوفي انفتاحاً على سرّ الوجود والسجن فيه. فالشعر إذاً هو تجلٍّ  إشراقي وحدس روحاني.

يتبدى أنَّ ثمة هوية معقَّدة للذات في شعر سركون ما يجعلها ذاتاً إشكالية وأكبر من وجودها الفردي، كما في قصيدة "عاصمة آدم":

آدمَ، أنت أنا

ودمائي تجري في رسغيكَ

وفي أعشابك أطلقُ أفعى ألفاظي

لأحرِّرَ أو أخنقَ

عصفورَ النار النائم فوقَ قصيدة

يغلي فيها العالم والماضي.

تتمدَّد الذات رأسيّاً، تاريخيّاً، عند سركون لتتوحد بآباء الإنسانية الأوَل، نوح، آدم، في شعور بتوحُّد الذات الإنسانية ومواجهتها تشابهاً مصيريّاً ونفس التحديات الوجودية مهما تبدلت الأزمان، ثمة شعور بتداخل الذات في كينونة آدم في غير استعارة مثل: "دمائي تجري في رسغيكَ"، فكأنَّ الذات تحيا في آدم لتعيش أو لتستعيد تحدياته الوجودية الأولى، "وفي أعشابك أطلقُ أفعى ألفاظي" التي تستعيد رمزية الأفعى في المثيولوجيا وأسطورة الخلق، فالذات الشاعرة تطلق ألفاظها/كلمات الشعر كأفعى بما ترمز إليه الأفعى من التحريض على المعرفة التي لها ثمن باهظ، في أعشاب آدم/الإنسان الأول، في تأكيد على التحريض المتمرِّد على المعرفة، فيبدو الشعر محرِّضاً وجوديّاً للإنسان.

الشعر عند سركون كان يتجاوز مجرد التعبير عن الذات عن نفسها وتصويرها للعالم

ثمة رغبة في تحرير الوجود من السكون وتخليص العالم من شعور اللامبالاة إزاء ما يمور به العالم والتاريخ (الماضي) من غليان عبر الشّعر كما في استعارة "لأحرِّرَ أو أخنقَ/عصفورَ النار النائم فوقَ قصيدة/يغلي فيها العالم والماضي" التي تكشف عن رغبة الذات الشاعرة في استنهاض الكائنات الساكنة كعصفور النار إزاء الخطاب المضطرم غضبًا لأحوال العالم وأحداث الماضي (التاريخ) في القصيدة. إنَّه شعور بتناسخ الذات الإنسانية وتكرار مآسيها الوجودية منذ آدم حتى الزمن الراهن.

ثمة إيمان سركوني بضرورة أن تكون الكلمة ثورية وأن يمسي الشعر فعلاً تحريضيّاً، كما في قصيدة بعنوان "ديون":

الكلمة هي الحانة الوحيدة في البلد

حيثُ يشربُ الشعراءُ بالدّيْن

فودكا مع الليمون، وشيءٍ من المرارة.

لكنَّ كلماتي اليومَ تهاجمُني كأنَّها معادنُ زرقاءُ وبليدةٌ

والغبيُّ لا يفهمُ أنَّها العاصِفة

يخرجُ واثقًا ويفكُّ مرساةَ يَقيني

يستعمل الصياغة الشعرية استعارة الكلمة التي هي وحدة اللغة والشعر بوصفها حانة للشعراء، والحانة هي مكان الشرب والتنادم، فتنطوي استعارة (الكلمة-الحانة) عن تمثيل لها كملاذ للشعراء يغيبون فيه عن الوعي بالواقع الأليم أو ينفثون فيه غضبهم من واقع كريه، ويتجرَّعون شعوراً بالمرارة، لكن الشاعر يشعر باختلاف كلماته، في آنه/اليومَ، حيث تهاجمه كالعاصفة مهما بدت كمعادن زرقاء وبليدة، ثمة شعور ملازم للذات في الخطاب السركون بأنَّ الكلمة/لغة الشعر تقتحم ذاته، لغة يفرضها عليه عالم ديستوبي، ووجود شائه لا ترتضيه الذات وتسعى إلى تغييره والثورة عليه.

تتمدَّد الذات رأسياً، تاريخياً، عند سركون لتتوحد بآباء الإنسانية الأوَل، نوح، آدم، في شعور بتوحُّد الذات الإنسانية ومواجهتها تشابهاً مصيرياً ونفس التحديات الوجودية مهما تبدلت الأزمان

يبدو الشعر في نظر سركون هو الرفيق الذين يعين الشاعر على احتمال الوجود المضطرب، كما في قصيدة "اختفى دون أن ينطق بكلمة":

اختفى دونَ أن ينطق بكلمةٍ

ومَضى

دون أنْ يعرف لماذا.

اتّهم الشجرَ

والبرقَ

بالخيانةِ

وصاحَ بالفرات:

أيّها الكلبُ كفاكَ تتبعني!

رفسَ الحجر،

ثمَّ عانقَهُ وبكى

وَحينَ غادَرَ الحانةَ

حيثُ يبتسمُ الأمواتُ

بعيون ذئبيّة،

كانت الكلمةُ كزوجة وفيّة

تنتظر في البردِ

لتأخذه إلى البيت.

تستعمل الصياغة الشعرية ضمير "الغائب"، في حديث الصوت الشعري عن الذات كغائب، وكأنَّ الذات تعاين نفسها كآخر، تعاين نفسها في ضيقها بعالمها وثورتها على الوجود وانسحابها من عالم لا تجد نفسها فيه.

ثمة فقدان ثقة في العالم كما في استعارة "اتّهم الشجرَ/والبرقَ/ بالخيانةِ" وغضب هادر تجاه عناصر هذا العالم كما في استعارة "وصاحَ بالفرات:/أيّها الكلبُ كفاكَ تتبعني!/رفسَ الحجر،/ثمَّ عانقَهُ وبكى"، كما تكشف أفعال "رفسَ- عانقَهُ، وبكى" عن اضطراب نفسي عارم يجتاح الذات، وأنَّ ما تبديه من غضب عنيف إزاء العالم وأشيائه ما هو إلا بأثر المرارة من تشوه هذا العالم الذي كنت تريده أفضل، حيث ترى الذات الآخر في هذا العالم كـ"أموت تبتسم بعيون ذئبية" في إحساس أسيف بفقدان الإنسان إنسانيته ومواته الوجودي، حينئذٍ تبدو الكلمة منقذاً للشاعر من برودة هذا العالم وتأخذه إلى البيت أي إلى المأوى والسكن، استعادة لاستقرار الذات بعد اضطرابها في عالم تتفاقم اغتراباتها فيه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard