إذا لم يكن هناك أي فارق بين المزاج وقلة المزاج يفقد "الكيف" أهميته ويصبح جرعة لا تطاق. فالصنف الرديء حجابٌ يخفي الموت.
ذهبتُ لصالون الحلاقة، لأهذبَ ما طال من شعري، وبينما كنتُ منتظراً تصفحتُ بعض الأخبار، فوقعتُ على تقرير لافت لرويترز عن الإستروكس "الخطر الذي يهدد الشباب في مصر"، وما إن انتهيتُ من قراءته حتى سألت الحلاق: "ماذا تعرف عن الإستروكس؟!"، فأجابني: "ياااااا ديني، دي دماغ العيال التلفانه يا باشا، إوعى تجربه!".
سألته ما إذا كان خاض تجربة الإستروكس أم لا، أجاب حامداً الله أنه لا يتعاطى إلا الحشيش، وأنه توقف عن تدخين التبغ منذ عدة شهور بإيعاز من الطبيب، بسبب عدم الإنجاب!
لم أعرف السبب الطبي الذي دفع بالطبيب أن ينصحه بالتوقف عن التدخين والاكتفاء بتعاطي مخدر الحشيش، ولذا من الضروري عدم الاعتماد على هذه القصة كمعلومةً طبية.
وليس خافياً أن مصر هي البلد الأول عربياً وأفريقياً في استهلاك مخدر الحشيش، وأنها من الأسواق الأساسية للحشيش.
لكنّ الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي ضربت البلاد وقهرت العباد في الآونة الأخيرة، دفعت بمدمني الحشيش للتفكير في بديل، إذ أصبح سعره غالياً، فباتَ عبئاً على المتعاطين، وهو الأمر الذي سمح بطبيعة الحال للمهربين بالتفكير في طرحٍ رخيص ليحلّ بديلاً عن الحشيش، إلا وهو الإستروكس، مخدر بيطري يستخدم في تخدير الحيوانات ابتداءً من القطط والخيول مروراً بالثيران انتهاءً بالأسود، تضاف إليه أعشاب رخيصة تسمى البردقوش ومبيدات حشرية ويسبب فقدانا في الوعي، وهلاوس سمعية وبصرية ومن ثم الموت.
حتى مطلع العام الجاري، لم يكن الإستروكس ضمن جدول المخدرات في مصر وظل كذلك حتى أيلول/ سبتمبر الماضي، عندما أدرجتهُ الحكومة المصرية على جدول المخدرات.
تكمن المصيبة في الانتشار الهائل لهذا المخدر، فالتقديرات الحكومية تشير إلى زيادة في إقبال المتعاطين على الإستروكس بنسبة 40% بينما كانت 9% مطلع العام الجاري.
ولا نحتاج كثيراً إلى مراكز دراسات -رغم أهميتها- لتبرير حالة الانتشار غير العادية لمخدر الاستروكس. فربما جلسة واحدة في أي مقهى في ضواحي القاهرة قد تعطيكَ جواباً كافياً، يقولُ صابر 27 سنة: "أنا بشتغل في القهوة 12 ساعة بـ 100 جنيه، كنتُ اشتري حتة الحشيش بـ 50 جنيه، دلوقتي بقت بـ 150 وبتعمل 4 سجائر، ونفس حجم القطعة من الاستروكس بجيبها بـ 50 جنيه وبتعمل 4 سجائر".
هنا لا أحاول من قريب أو من بعيد تبرير تناول الحشيش أو غيرهِ، ولا أطلبُ أن نتعاطف مع الذين لجأوا لمخدرٍ رخيصٍ يقتلهم لغلاء الآخر، فثمةَ متخصصون أمنيًا وطبيًا ونفسيًا لهذه الأمور.
سألتُ صابر، هل تنتشي بالاستروكس مثلما كان الحشيش يفعل، يُجيبُ في أسى أنه لا يدري بأي شيء عندما يتناول الاستروكس، ويصابُ أحياناً بتشنجات، وفي أحسنِ الأحوال يغطُ في نومٍ عميق يأمل في إحدى المرات ألا يفيق منه -حسب وصفه-.
ولم يعد غريبًا في ظل التشوش الذهني الذي يعصف بنا من كل اتجاه، أن تصبح حكاية صابر مع اختلاف بعض تفاصيلها هي نسخة مماثلة لآلاف الحكايات في مصر.
فعندما تكونُ حكومتك كل همها أن تسيطر على عقلك لِتحكم قبضتها الأمنية على البلاد، فبديهي أن يكون من بيننا 6 ملايين متعاطٍ للمخدرات، وعندما تكون أجندة الأولويات في الدولة هي بناء العاصمة الإدارية وشراء المزيد من الميسترال وطائرات الرافال بقروضٍ تُكبل اقتصاد الدولة وتحاصر المواطن بمزيدٍ من الضرائب، وتثقل عليهِ برفع الدعم، فمن الطبيعي أن يكونَ للاستروكس كل هذه المساحة للانتشار.
عندما تقول وزارة الداخلية إن سبب ارتفاع أسعار الحشيش هو اليقظة الأمنية، فأنت هنا أمام مؤسسات دولة ليست مهتمة بالبحث في أسباب انتشار الإستروكس، مثلما تهتم بادعاء فرض الأمن وإحكام السيطرة، ناهيكَ بالتناقض في الحديثِ ذاته، الذي بدا جلياً في لفظة اليقظة الأمنية! فأين كانت اليقظة هذه، عندما أخذ الاستروكس مجراه في عروق الشباب المصري.
عندما تكون أولويات الدولة هي منع وعرقلة وقمع نشاط منظمات المجتمع المدني، ومن بينها جمعية كانت تعمل على مساعدة أطفال الشوارع وإنقاذ المجتمع من مشروع مجرم، فطبيعي أن يحتل الاستروكس مكانةً بين العقولِ التي أُتلفت بشكلٍ ممنهج، لتترك نفسها تغيبُ مع مخدرٍ يذهب بمتعاطيه إلى ارتكاب جريمة أو اقترافِ ذنبٍ يروحُ ضحيتهُ فرد آخر من المجتمع، فبحسب وزارة التضامن ساهم الإستروكس في رفع معدلات الجريمة، وأدى إلى مقتل العشرات من متعاطيه.
وليس خافياً أن مصر هي البلد الأول عربياً وأفريقياً في استهلاك مخدر الحشيش، وأنها من الأسواق الأساسية للحشيش.
الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد في الآونة الأخيرة، دفعت بمدمني الحشيش للتفكير في بديل، إذ أصبح سعره غالياً، فباتَ عبئاً على المتعاطين، وهو الأمر الذي سمح بطبيعة الحال للمهربين بالتفكير في طرحٍ رخيص ليحلّ بديلاً عن الحشيش، إلا وهو الإستروكس.
تكمن المصيبة في الانتشار الهائل لهذا المخدر، فالتقديرات الحكومية تشير إلى زيادة في إقبال المتعاطين على الاستروكس بنسبة 40% بينما كانت 9% مطلع العام الجاري.
عندما تجمع عشرات الشباب الذين تختارهم الأجهزة الأمنية لتعقد منتدى شباب العالم، ثم تقود مارثون دراجات غالية الثمن في شرم الشيخ، فأنت ترسم صورةٌ زائفة لحقيقة المجتمع الذي تعيش فيه، وتخاصم بذلك وجدان الشارع وضمير الناس.
عندما تفتكُ بالأمل وتقمع حرية الفرد وتحاصرهُ بأعباء المعيشة التي هي من المفترض حقٌ من حقوقه طبقاً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فلا مناص من أن يكون انتشار الاستروكس سهلاً .
هناك أيضاً بُقعة ظلام أخرى، فبحسب مدير قسم المعامل والعلوم بمكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة في مصر، أن معظم متعاطي الإستروكس ليست لديهم فكرة عما يتعاطونه لأن وسائل الإعلام المرئية أو المقروءة أو المسموعة، ربما لم تعطِ للكارثة الزخم المناسب لحجمها في المناقشة والتدقيق والتوعية، رغم أنه ليسَ خافياً أن الدولة المصرية هي من تقود المشهد الإعلامي، فهل انتشار الاستروكس لا يمثلُ لكم كارثةً تستحق النقاش!؟
هذا المقال لا يؤيد تعاطي المخدرات حتى ولو قلّ ضررها، كل ما هنالك أننا أُفقرنا إلى الحد الذي دفع بنا إلى عدم التمييز بين ما يُميت وما يُخدر، فإذا كانت الخياراتُ كلها سيئة فاختر ألا تختار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...