شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"فراقكو" لأمل كعوش... حين تدقّ أغنية باب القلب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 7 أكتوبر 202202:11 م

قبل أقل من أسبوع، أصدرت الفنانة الفلسطينية أمل كعوش، أغنيتها الجديدة "فراقكو". ومع انتهائي من الاستماع إليها للمرة الأولى، وجدت نفسي أعيدها مرةً ثانيةً وثالثةً، واستمررت هكذا حتى أيقنت أن هنا، في تلك الأغنية التي لا تتخطى الخمس دقائق، سراً جميلاً. سرٌّ يؤكد أن للموسيقى أثراً يصعب وصفه، لكنه يضرب القلب ويبهجه ويحزنه. تلك المشاعر المتباينة هي أجمل ما في الموسيقى، وأثرها، لذلك كان عليّ التوقف أمام تلك الأغنية، والبحث أكثر عن: لماذا كان لهذه الأغنية كل هذا التأثير؟

في البداية، الأغنية مهداة من أمل إلى خالها المخرج الفلسطيني، نصري حجاج، الذي رحل عن عالمنا عام 2021، بعد صراع مع مرض السرطان

في البداية، الأغنية مهداة من أمل إلى خالها المخرج الفلسطيني، نصري حجاج، الذي رحل عن عالمنا عام 2021، بعد صراع مع مرض السرطان. إذاً، علينا التعرف بشكل سريع على نصري حجاج وما قدّمه. لم أكن أعرفه من قبل، لكن عندما بدأت بالبحث، تذكرت أنني شاهدت فيلمه الوثائقي عن محمود درويش "كما قال الشاعر" (2010). وكنت قد أحببت الفيلم، الذي لا يحكي كثيراً عن حياة درويش بالشكل المتعارف في الوثائقيات، لكن حجاج يبحث عن درويش في أصوات الآخرين والأماكن التي تواجد فيها درويش خلال رحلته الطويلة وكأنه يحاول استحضار درويش مرةً أخرى للحياة، أو تأكيد على أنه سيظل بيننا حتى بعد رحيله. إنها لعبة الموت والزمن، اللعبة التي كان يجيدها حجاج، أو بمعنى أدق يجيد البحث فيها وطرح الأسئلة. إنه ابن مخيم "عين الحلوة"، يبحث دائماً عن أسئلة الموت التي دائماً ما تكون الإجابة عنها من وهج الحياة وعجائبها، خاصةً للفلسطيني المشتت بين المقاومة بكل أشكالها، وبين الحياة كغريب في أرض الله، حتى إن كُتب في دعوة الفيلم "الفيلم رحلة بصرية في حياة وشعر الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، ومحاولة للاقتراب من عوالم محمود حيث تأخذنا الكاميرا إلى مدن ومنازل ومسارح وشخصيات عرفوا الشاعر وأحبّوا شعره".

وجدت فيلماً آخر لحجاج، "ظل الغياب" (2007)، يؤكد فكرة البحث عن الحياة داخل لحظات الموت والرحيل، وليست أي حياة أو موت، إنها رحلة حياة الفلسطيني وموته، وسط الشتات ومحاولات الرجوع ولو في تابوت أو رماداً محروقاً يُنثر على تلك الأرض. اسم الفيلم يذكّرني بكتاب درويش "في حضرة الغياب". بعد مشاهدة الفيلم تفهمت وصيته التي كتبتها زوجته الكاتبة عبير حيدر عبر حسابها في موقع فيبوك: "أنعى إليكم رحيل زوجي ووالد طفلتنا الحبيبة شام، المخرج والكاتب الفلسطيني نصري حجاج، هذا الصباح في منزله في فيينا، بعد صراع طويل مع المرض. ونزولاً عند رغبته، سوف يتم حرق جثمانه ونثر جزء من رماده لاحقاً في مخيم "عين الحلوة"، وعند قبر والدته فاطمة في صيدا، وجزء آخر في قريته الناعمة شمال فلسطين المحتلة، وجزء في سوريا التي تضامن مع شعبها المظلوم حتى آخر نفس، وجزء فوق تراب تونس حيث عاش سنوات طويلةً من عمره فيها. رحل بهدوء وسلام وطمأنينة مع كل الحب من قلبي وشام وابنه نهاوند ومن استطاع القدوم من عائلته. تُقبل التعازي عبر وسائل التواصل الاجتماعي والاتصال الهاتفي... مع الشكر والامتنان للجميع".

"حمامتين نزلوا على وادي العتيق ركاض/ يا محنّيات الكعب يا رافعات الراس/ يا روحي قلبي بلاد الغرب ما تنداس/ روّح على بلادك وسلم على جميع الناس"

The Shadow Of Absence from KURT MAYER FILM e.U. on Vimeo.


من تلك العلاقة بين حجاج والموت والمرض والحياة، يمكننا فهم اختيار أمل، تلك الكلمات لتكون إهداءً إلى خالها، بدايةً من اختيار كلمات من التراث الفلسطيني، لا كلمات كُتبت خصيصاً لكنها كلمات كُتبت وغُنّيت قبل حتى ولادة حجاج نفسه، وقبل وجود عين الحلوة وكل تلك التضحيات، وهو تأكيد على فكرة أن الأمر كله ما هو إلا لعبة دائرية بين الحياة والموت والزمن، واختارت أمل كلمات غير متداولة كثيراً. كانت تلك المرة الأولى التي أستمع إليها فيها، وذلك أضاف كثيراً من الخصوصية إلى العمل عموماً، وأيضاً يفتح لنا باباً مهماً لتقديم التراث والعمل على البحث عن كلمات غير مستهلكة. قلة من المطربين وصنّاع الأغنية من يبحثون عن كلمات جديدة من التراث. في الأغلب الكل يعيد تقديم أغنيات قُدّمت وغُنّيت كثيراً، مما يجعلنا نعتقد أنه لا يوجد غير تلك الأغنيات في تراثنا، فلسطينياً كان أو مصرياً، أو شامياً، والمشكلة نفسها تواجهنا في التعامل مع التراث في أغلب الدول العربية.

تلك المشاعر المتباينة هي أجمل ما في الموسيقى، وأثرها، لذلك كان عليّ التوقف أمام تلك الأغنية، والبحث أكثر عن: لماذا كان لهذه الأغنية كل هذا التأثير؟

والأمر الأخير في اختيار الكلمات، أنها جاءت من كتاب "الأغاني الفلكلورية النسائية لمناسبة الخطبة والزواج"، للباحثة القديرة نائلة عزّام لبّس. إنها أغنية من ضمن أغاني الفرح. التشابك بين الفرح والحزن يتضح لنا في كلمات الأغنية وفي أفلام حجاج. وبالرغم من أن الأغنية تم تسجيلها في عام 2016، أي قبل رحيل حجاج، إلا أنها تليق جداً كرثاء جميل من بنت الأخت إلى خالها الحبيب، وتلك لعبة أخرى من ألعاب الزمن. تقول أمل عن تلك الكلمات التي وجدتها مصادفةً: "كان لتلك الكلمات أثر ساحر في قلبي وشرعت أغنّيها كمن عثر على لحن قديم".

الأغنية مثل أغلب أغاني التراث، على شكل الطقطوقة، وهي من مقطعين فقط، تشعر وكأنها حوار بين عالمين مختلفين، بين الموت والحياة، من رحل ومن ذاق طعم الرحيل وألم الفراق؛ في المقطع الأول والرئيسي، وكأنه على لسان من رحل، أي نصري حجاج، يواسيها بهدوء وجمال: "لا تحسبوني غلقت الباب ونسيت أنا غلقته وعقلي عندكه خليت وحياة مين خلا الزيتون يعصر زيت أصعب من فراقكو أنا ما لقيت"، ليرد الصوت الآخر، صوت من على الأرض، صوت من أنهكه الحزن والألم، أي ابنة أخته، أمل كعوش": "حمامتين نزلوا على وادي العتيق ركاض/ يا محنيّات الكعب يا رافعات الراس/ يا روحي قلبي بلاد الغرب ما تنداس/ روّح على بلادك وسلم على جميع الناس". صنعت كعوش لحناً بسيطاً وجميلاً يليق بقدسية الحزن وهيبة الموت. حتى التوزيع الموسيقي كان دقات كدقات القلب بواسطة آلة الكونترباص (مكرم أبو الحسن) فقط التي تصاحب صوت أمل المليء بالشجن الجميل.

الأغنية مثل أغلب أغاني التراث، على شكل الطقطوقة، وهي من مقطعين فقط، تشعر وكأنها حوار بين عالمين مختلفين، بين الموت والحياة، من رحل ومن ذاق طعم الرحيل وألم الفراق


في النهاية، لم أكن أعلم بكل ما سبق عندما أعدت الاستماع إلى الأغنية مرات عدة، لكنه الصدق، الصدق في كل شيء؛ في صناعة تلك الأغنية، بدايةً من اختيار الكلمات واللحن والتوزيع، وصولاً إلى الإهداء الذي زرع في عقلي فضول البحث عن حالة الصدق التي غمرتني هنا، وصوت أمل، وجملة مثل "وحياة مين خلا الزيتون يعصر زيت"، تلك الجملة الغارقة في الحزن والحياة الفلسطينية والوعد والقسم الأجمل. خلقت الأغنية حالةً من الشجن الجميل دفعتني لكتابة كل ما سبق، وما زلت اعيد الاستماع إليها طوال مدة الكتابة، وما زلت أتذكر كل من رحلوا في حياتي الشخصية، بالموت أو بالحياة وتقلباتها، واستشعر في كل مرة حلاوة القسم بالزيتون وزيته.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard