بعد أن تولى الخديوي إسماعيل حكمَ مصر عام 1867، متأثراً بالعمارة الأوروبية خاصةً في باريس، أرسل للإمبراطور نابليون الثالث طالباً المخطِّط هاوسمان الذي قام بتخطيط باريس ما بعد الثورة، ليخطط القاهرة الخديوية، مستقدماً كلَّ مَن يلزم لتنفيذ ذلك، لتصبح القاهرة من بعدها قطعة من أوروبا.
قصر الأمير محمد علي توفيق
الأمير محمد علي هو الابن الثاني للخديوي محمد توفيق والشقيق الوحيد للخديوي عباس حلمي الثاني، مما لم يجعله في طابور الحكم في مصر. كان الأمير محمد علي مولعاً بالمعمار الإسلامي المتنوع، وفي وقت زحفت فيه العمارة الأوروبية على شوارع المحروسة، وجد الأمير أن طريقته لتحية المعمار الإسلامي تكمن في بناء قصرٍ كلُّ السرايا فيه تبرز معماراً إسلامياً مختلفاً.
في وقت زحفت فيه العمارة الأوروبية على شوارع المحروسة، وجد الأمير أن طريقته لتحية المعمار الإسلامي تكمن في بناء قصرٍ كلُّ السرايا فيه تبرز معماراً إسلامياً مختلفاً
بدأ الأمير محمد علي بناءه للقصر عام 1900 وانتهى منه 1929، ولم يكن الغرض منه الإقامة، فقد بُني بشكل أوليّ كمتحف للمعمار الإسلامي. وكان القصر قبل بنائه حديقةً كبيرة للغاية، احتفظ الأمير بأشجارها الأثرية، وأضاف إليها مجموعة خاصة نادرة ومتنوعة، فيذكر أن في القصر 300 نوع مختلف من الصبار، والشجرة الأقدم في القصر لا زالت تتوسط الحديقة.
يتكون القصر من سرايا الاستقبال، والمسجد، وبرج الساعة، ومتحف الصيد، وسرايا الإقامة، وسرايا العرش، والقاعة الشتوية، والمحتف الخاص، والقاعة الذهبية، والحديقة المهولة للقصر.
يحيط القصر سور عالٍ يشبه أسوار القلاع الحربية، وعليه نحتت أسماء الله الحسني. والمسجد له مدخل خارجي لعامة الشعب للالتحاق بصلاة الجمعة به. بوابة القصر الرئيسية تنقسم إلى بوابة الجمال والفرس، للداخلين ركباً من الضيوف، وبوابة المارة. وبمجرد الدخول نجد بوابة سرايا الاستقبال على اليد اليمنى.
تفاصيل لا تدركها العين في الزيارة الأولى
أكثر ما يميز القصر أنه لا سقف يتشابه مع الآخر، فقد يصل عدد الأسقف في لقصر إلى ما يزيد عن ثلاثون سقفًا مختلفًا، ويبدأ هذا الاختلاف مباشرة بمجرد الدخول من بوابة القصر، فالردهة الأولى للقصر والتي بها حالياً جهاز التفتيش الأمني بها سقفين مختلفين، وحوائطها مبلطة بالقاشاني.
كما أن الأمير حرص على تنوع الخط العربي في القصر، فنجد الرقعة، والكوفي، والديوان، وغيرهم من الخطوط العربية التي كتبت بها آيات قرآنية، أو أبيات شعر، أو لوحة تأسيس المسجد الخاص بالقصر.
في كل غرفة من غرف القصر تفصيلة ترمز لدلالة بعينها، ففي سرايا الاستقبال، كونت من طابقين، الطابق الأول به غرفة الاستقبال حوائها مزينة باسكتشات لأحصنة الأمير التي رسمها بنفسه، وبها طبقين من الخزف لترك الرسائل للأمير ثم الانصراف، والغرفة الثانية هي غرفة كبار الزاور، وبها باب خاص للمسجد، حيث اعتاد زاوره زيارته قبل صلاة الجمعة ثم الانضمام للمسجد من هذه الغرفة.
أما الدور الثاني فهو "الحرملك" ومنقسم إلى القاعة المغربية، والقاعة الشامية وبينهما المشربية. أهم ما يميز الدور الثاني هو قصة القاعة الشامية، حيث الأمير كان له فريقاً خاصاً من البصاصين، وهم دورهم أن يطوفوا جنبات العالم الإسلامي لنقل المعمار الإسلامي للأمير، وأثناء طواف أحد البصاصين بسوريا وجد قصراً أثريًاً يهدم وهو القصر الأعظم، فأمر الأمير بجلب أخشابه وبناء القاعة الشامية بها كنوع من أنواع المحافظة على هذا الإرث.
سرايا العرش في قصر لم يعد لمالك ولا لحكم
رغم أن الأمير لم يكن قط في طابور الحكم، إلا أن وجوده في مجلس وصايا العرش ثلاث مرات لثلاث حكام مختلفين زوّد عنده الشعور باستحقاقية الحكم، ومن هنا قرر الأمير إنشاء سرايا الحكم في قصره، وهي من السرايات التي جاء بناءها متأخراً في القصر، نحت سقف السرايا على شكل قرص الشمس وهو رمز الدولة العثمانية، وعلقت لوحات لحكام مصر من الدولة العلوية بداية من محمد علي باشا، حتى عباس حلمي الثاني، وهنا توقفت لوحات الحكام كإشارة من الأمير أن لا أحد بعد أخيه عباس حلمي الثاني كان جديراً بالحكم سواه. وفي مركز القاعة وأسفل لوحة محمد علي باشا يكمن كرسي العرش.
وللسرايا بابان، باباً رئيسياً للضيوف، وباب آخر قريب من العرش ينفتح على ردهة الصعود للقاعة الشتوية، ويترأس الباب الشخصي للأمير بيت شعر قائلاً: "أنت خليلك لا من قلت خلي، ولو كثر التجمل والكلام"، كناية على أي مدى كان الأمير يشعر بالإنعزال على الأسرة الحاكمة ورواد القصر، وإلى ما وصل إليه من شعور غير مبرر تماماً بأحقية الحكم، وأن مكروه من البقية.
برج الساعة الذي بني خصيصاً لمكايدة الحاكم
في حين أن أن ساعة محطة مصر كانت أشهر أبراج الساعات في مصر وربما الوحيدة، وبعد عقود من بناءها وافتتاحها، وبعد أن استفحل الشعور باستحقاقية الحكم عند الأمير محمد علي قرر بناء برج ساعة على الطراز الأندلسي، ليكون آية في الجمال المعماري وتفوق جمالياً على برج ساعة محطة مصر، إلا أن الأمير لم يكتفي بذلك، بل قرر أن تكون عقارب الساعة على شكل أفعى نكاية في الحاكم وقتها "الملك فؤاد" ويوم افتتاحها خرج من شرفة البرج لتحية العامة الذين جائوا ليحضروا مشهد افتتاح الساعة.
القاعة الشتوية بالقصر الاستثناء الوحيد لأم الأمير
عندما قرر الأمير أن يبدأ بسكن القصر كان يلح على والدته للانضمام إليه وإلى زوجته، فبنى لها خصيصًا القاعة الشتوية، التي تتميز بالتفاصيل الأنثوية، فأخشابها من شجر الورد، وكل نقوشها من الأزهار والورود، بالإضافة إلى القيشاني ذو الألوان الساطعة، الأمير لم يكتفي بذلك بل نقل غرفة كانت والدته قد ورثتها أباً عن جد على طراز أوبيسون لويس الأربعة عشر إلى القاعة الشتوية، ليشعره بأنها في منزلها، وأحضر لها سريراً من الفضة الخالصة، ودولاباً من الذهب. ويرجع اسم القاعة الشتوية لإنها في الجناح الأكثر دفئاً من القصر، وبها فتحات تهوية على النيل مباشرة تسمح بدخول الهواء الدفيء شتاءً والرطب صيفاً.
سرايا الإقامة
بمجرد الدخول لسرايا الإقامة سنجدنا في ردهة النافورة، التي تتوسط الردهة ومن فوقها قبة، ومن حولها تناثرت الغرف، فبين قاعة المدفئة، والمكتب، وغرفة الطعام، والكشمة، والكشمة في المعمار الإسلامي هي الغرفة المغلقة والتي تبرز عن معمار البيت للخارج، فلا هي مفتوحة كالشرفة، ولا متساوية مع باقي الغرف. وقاعة المرايا، وقاعة المرايا هي قاعة جلوس وتواجد المغنين وحفلات السمر، وتحطيها المرايا كي تعكس الفرقة من كل الجوانب للنساء في الدور الأعلى دون أن تكشفهن، إلا أن القاعة لا تحيطها المرايا فقط بل تغلف حوائها لوحات السلاطين العثمانين.
في الدور الثاني من قاعة المرايا هي غرف المعيشة، والتي لا تفتح للزيارة في أغلب الأوقات لضعف السلم المؤدي لها.
القصر يتعهد لزواره بأنهم في كل مرة سيزورون فيها القصر سيفاجَأوا بتفصيلة جديدة لم يروها في المرة السابقة، حيث لا تستطيع العين البشرية أن تشمل كلّ تفاصيله في مرة واحدة
وفي الردهة الخارجية يوجد أيضاً المصعد الكهربائي الذي يصل إلى برج الشاي المخصص للأمير والذي كان يتناول فيه الشاي صباحاً مع زوجته كاشفًا منظر النيل من حول القصر. وفي غرفة مكتب الأمير يوجد مكيف هوائي في العالم أرسله العالم كاريير صاحب العلامة التجارية الشهيرة هدية للأمير محمد علي.
متحف خاص، وقاعة ذهبية
حيث كان الأمير متيّم للغاية بجمع الأنتيكات من شتى بقاع الأرض فقد أسس متحفًا خاصاً لمجموعته، إلا أن المتحف حالياً خالياً منها خوفاً على صعوبة عرضها بشكل كامل، ولكن أحياناً تتعرض به بعض الجاليريهات الخاصة التي يتعاون المحتف مع مؤسسات خارجية لعرضها، القصر أيضاً به القاعة الذهبية الشهيرة، المكسوة حوائطها بماء الذهب وهي عادة خارج مسار الزيارة ولكن يمكن تأجيرها لمناسبات خاصة.
القصر بعد التأميم
برغم أن نية الأمير من وراء بناء هذا القصر هو كونه متحفاً للعامة بعد وفاته، إلا أن التأميم جاء مجرداً للأمير من القصر في حياته، حيث توفي الأمير عام 1954، وقبل غلق المتحف لسنوات للترميمات التي استغرقت حوالى عشر سنوات من 2004 إلى 2014، كان المتحف مفتوحاً للعامة، ويذكر أنه في ثمانينيات القرن الماضي تردد الشعب على حمام السباحة الخاص بالقصر، وكانت الحديقة من ضمن مزار الزيارة بدون قيود كالتي عليها الآن.
القصر يتعهد لزواره بأنهم في كل مرة سيزورون فيها القصر سيفاجَأوا بتفصيلة جديدة لم يروها في المرة السابقة، حيث لا تستطيع العين البشرية أن تشمل كلّ تفاصيله في مرة واحدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...