لا يعرف القيود، ولا يؤمن بالقواعد، كل شيء لديه قابل للتجريب، فالكلمة قد تتحول لعصفور طائر، والكرسي يصبح بطةً في غمضة عين، والمشبك الخشبي الصغير يمكن أن ينبت له رأس وذيل. فنظرته للأشياء العادية، نظرة ليست عادية، وليد طاهر، الفنان التشكيلي، الذي يجيد توظيف اللون والخط والفراغ ليبدع لوحاتٍ لا تشبه غيرها.
الإنسان الصالح
بدأ وليد طاهر مسيرته الفنية بين أروقة الصحافة، تلميذاً لـ"عتاولة". رسم الكاركاتير في مجلة "صباح الخير" في عام 1992 بعد تخرجه مباشرة من كلية الفنون الجميلة.
وهي المسيرة المهنية التي امتدت حتى عام 2016، حينما قرر وليد بكامل اختياره الابتعاد عن الوظيفة بكل قيودها والتزاماتها، ومنح مساحةٍ حرة للفنان التشكيلي الذي تمنى أن يكونه لسنوات.
هل أثر العمل في الصحافة على روح المبدع أم ساهم في تطوير أدواته؟
سؤال وجهناه لوليد، فأكد لنا أن الصحافة كانت محفزاً للأفكار العامة، وتدريب على طرق التواصل والتعبير الصحافي، وأضاف: "من المؤكد أنني قد استفدت جداً من سنوات عملي الصحافي، ولكن كان من أهم سلبياته هو عدم التعبير الشخصي والخاص، فخلال السنوات التي قضيتها رساماً للكاريكاتير في إصدارات صحفية مختلفة كنت أعبر عما يشغل الآخرين. لكن عندما تفرغت للفن التشكيلي صرت أعبر عما يشغلني أنا".
من أهم سلبيات عمله في الصحافة، كرسام كاريكاتير، هو "عدم التعبير الشخصي والخاص، فخلال السنوات التي قضيتها... كنت أعبّر عما يشغل الآخرين، لكن عندما تفرغت للفن التشكيلي صرت أعبر عما يشغلني أنا"
يدين وليد طاهر بالفضل لأساتذة رسم الكاريكاتير في "صباح الخير"، فهم من علّموه الحفاظ على شخصيته. وخلق صوت خاص به يميزه وسط الزحام، وهذا ما نجح فيه بالفعل. فبنظرة واحدة لرسم كاريكاتير أو لوحة من إبداعه، ندرك أنها له قبل أن تقرأ توقيعه.
يقول طاهر: "لأنهم كانوا عتاولة (جهابذة) كما وصفتِهم؛ كانوا مدرّسين مخلصين للفن، يؤمنون بفكرة الرعاية الفنية وأحياناً الشخصية، للموهوبين، منهم أستاذي الأكبر إيهاب شاكر، وكذلك ناجي شاكي، ومحي الدين اللباد الذي حثني على خلق صوت خاص بي، وبلورة شخصية فنية لوليد طاهر لا تشبه غيرها".
كان أكبر درس تعلمه طاهر من أساتذته في عالم الكاريكاتير أنّ ما يجب أن يطرح للنقاش والمشاكسة هي الأفكار وليست الأشخاص، لذلك ارتبط به جمهوره ارتباطاً فكرياً وذهنياً. يقول: "فنان الكاريكاتير إنسان صالح، والصالحون لا يسخرون من أحد، لكنهم يثيرون موضوعاتٍ شائكةً من خلال مناقشتها بنوع من (الهزار الذكي)، وملاطفة القراء بلا إساءة أو إيذاء لأحد. فالكاريكاتير أقوى وأهم من كونه (إيفيه حلو) أو سخرية من شخص ما".
متعة
على الرغم من طول سنوات عمله بالصحافة، إلا أن وليد لم يبتعد عن عالم الفن التشكيلي، فقد حرص على تمرير هذا النوع من الفن للقراء من حين لآخر في أعماله، لذلك حينما قرر التفرغ له تماماً، وجد لديه حصيلةَ تجاربٍ من عالم التشكيل بدأ منها. فلم تواجهه أزمةُ الإبداع بل كانت أزمته الكبرى تقبّلَ الناس لكونه فناناً تشكيلياً بعيداً عن متلازمة الأدب والصحافة.
في متابعة مسيرة وليد طاهر الصحافية أو التشكيلية ندرك أنه يلعب بأدواته الفنية طوال الوقت، يجرّب، ويبتكر. لا يلزم نفسه بقواعد مدرسة فنية محددة، ولا يشغل باله بأن يفهمه الجمهور المتلقي، فمتعته الكبرى هي اللعب والتجريب باستخدام الخط، والألوان، والمساحات، والفراغ، والتيمات المختلفة. يقول وليد: "الرسم أو أي فن بشكل عام هو معمل مفتوح 24 ساعة للتجريب والتجويد، ومتعة الوصول لنتائج فنية مقبولة، وحتى عدم الوصول هو حافز مستمر. فالعثور من بين التجارب العديدة على فكرة تليق بالعرض على الجمهور لعلها تنال القبول أو تصادف إعجاباً أو مشاركة وجدانية أو حتى نقاشاً عقلياً هو أمر أحبه كثيراً".
أقصى ما ينشده الفنّان
إن كانت الصحافة قد شكلت جزءاً خاصاً من مسيرة وليد طاهر الفنية، فحتماً قد ساهم أدبُ الطفل في الجزء الأكبر من تلك المسيرة، فالكتابة والرسم للأطفال كان القرار الوحيد الواعي بنسبة 100% الذي اتخذه وليد، والذي يصفه قائلاً: "الرسم للطفل هو مجال الرسم المفتوح في الاتجاهات الأربعة، وإلى آخر مدى للأفكار والأسلوب وحرية المتلقين، وقبول الخيال الجامح بلا أي عائق. حتى التحفظات التي تواجهني أحياناً من دور النشر العربية على مستوى الموضوعات، هي في النهاية مطروحة للنقاش في ثقافات أخرى، مثل فرنسا التي عملتُ مع إحدى دور النشر بها، لكن على مستوى الرسم، فرسام الأطفال بداخلي يعمل دوماً بكامل طاقته، ومستغلاً كلَّ أدواته الفنية بلا أي حدود أو عوائق أو حتى ضوابط. وهذا أقصى ما ينشده الفنان .. هاحتاج إيه تاني؟".
"فنان الكاريكاتير إنسان صالح، والصالحون لا يسخرون من أحد، لكنهم يثيرون موضوعات شائكة من خلال مناقشتها بنوع من (الهزار الذكي) وملاطفة القراء بلا إساءة أو إيذاء لأحد. فالكاريكاتير أقوى وأهم من كونه (إيفيه حلو) أو سخرية من شخص ما"
وليد ليس رساماً متميزاً فقط لكتب الأطفال، لكنه مؤلف متفرد أيضاً، حصدت مؤلفاته العديد من الجوائز، وعلى الرغم من كونه يرسم أعمالاً من تأليف غيره في كثير من الأحيان إلا أنه يرفض بشكل قاطع أن يترك إبداعه الأدبي لرسام غيره، فوحده القادر على ترجمة أفكاره المكتوبة إلى لوحات مرسومة.
كان وليد طاهر سعيد الحظ بتعاونه مع دار نشر فرنسية شهيرة، منحتْه الفرصةَ لرسم عدة مشروعات مختلفة، تم نشرها باللغتين العربية والفرنسية، وهي التجربة التي وصفها وليد بأنها كانت مفيدة جداً؛ يقول: "أهم ما ميز تلك التجربة هو التجريب واسع المدى... فدار النشر كانت دوماً تطرح سؤالاً (ما الجديد؟)، وهذا السؤال له مفعول السحر على أي فنان؛ فهو يدفعه للبحث عن الجديد دوماً، ويحفز قدراته الإبداعية، ويحوله لطفل صغير يبحث عن الدهشة طوال الوقت".
هل مخاطبة طفل غير عربي صاحب ثقافة وتاريخ وبيئة مختلفة كان أمراً صعباً بالنسبة لك؟
يجيب وليد: "أنا ضد أن يكون لبطاقة الفنان دخلٌ بمسيرته الفنية؛ فالفن الحقيقي لا يُلقي بالاً بالجنسية، وإن شغلت عقلي بكوني عربياً أخاطب متلقياً غربياً سوف أخلع عن الفن قدسيته، وأحوله إلى أمر سياسي أو ديني، وهذا ما أرفضه بشدة؛ فلا يجب أن تدخل ملفات السياسة والاجتماع والدين في معمل الفن الخالص، والإنسانية الواسعة".
"نظام فاشل"
على الرغم من تميز إصدارته في أدب الطفل، يصف وليد طاهر إنتاج كتب الأطفال بمصر بأنه "نظام فاشل"، موضحاً: "منظومة إنتاج كتب الأطفال في مصر فاشلة، لارتباطها بالمواعظ، ومناهج المدرسة، والعلوم المتأخرة، وتخضع لذائقة وزارة التربية التعليم. وهو الذوق الرسمي الأخلاقي الديني التاريخي المباشر الممل النمطي الواعظ. وهذا للأسف هو الخط العام. وإن وُجدت محاولاتٌ للفكاك من هذا الوحل، فهي للأسف محاولات لا تحقق مكاسبَ ماديةً لأنها تتم في دائرة صغيرة جداً بالنسبة للتعداد، وهذا ما يجعل دور النشر تبتعد عنها خشية الخسارة، لذلك وحرصاً على تحقيق المكاسب يبتعد الجميع عن الأفكار الجديدة، والاكتفاء بالمكسب المضمون. وهذا ما يجعلنا نقف (محلك سر) منذ سنوات طويلة".
يستخدم وليد طاهر الخطَّ كواحد من أدواته الفنية المميزة لأعماله، ويؤمن أن الخط "ممثل يؤدي دوره في اللوحة الفنية بما يتناسب مع مضمون شخصيته الدرامية، فأحياناً يظهر خافتاً وضعيفاً، وأحياناً أخرى عالياً، وصارخاً، وغليظاً".
"الخط"، يستأنف وليد، "أحد وسائل التواصل المهمة للفنان، واعتقد أن المتلقي يدرك جيداً دوره في اللوحة من خلال الفكرة، والطاقة المطلوب توصيلها".
يصطاد وليد طاهر أفكاره الفنية من أي شيء، يحول الأمر العادي ببراعة لأمر مميز، ومختلف، ومدهش، لا تملك سوى الدهشة وأنت تعيد اكتشاف تشكيله مرة أخرى، فوليد يستخلص أفكار لوحاته من أغنية عابرة أو رسالة قديمة أو قصيدة شعر شهيرة، من شماعة بالية أو كرسي مهترئ، أو فنجان وحيد على طاولة في مقهى.
عندما سألت وليد عن أفكاره واختلافها، أجابني بلسان الطفل الكامن بداخله، فقال: "الأفكار تشبه هرمَ الرّمل الذي كنا نصنعه ونحن صغار،خبرة على خبرة، وفكرة على فكرة، وملاحظة بجوار أخرى، يكبر الهرم. نبتعد عنه قليلاً، ونقف فخورين به، ولا ندرك كيف صنعناه أو متى. ولكلّ مبدع هرمه الخاص، كلُّ ما عليه فقط هو الحفاظ عليه، وتكبيره قدر المستطاع".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه