يتتبع كتاب "إضلال الأمة بفقه الأئمة" للمستشار المصري أحمد ماهر، عورات المذهبية الدينية في الإسلام، عبر ثلاثمئة صفحةَّ وزعها على ثلاثة فصول رئيسية، عرض في أوّلها ما يسمى بالاجتهادات الفقهية للمذاهب الإسلامية الكبرى على النص القرآني، محاولاً رصد الفجوة بين الفقه والكتاب المقدّس للمسلمين، واتساع هذه الفجوة بمرور الزمن وازدياد تشعبات كل مذهب مع بداية تدوين السنة النبوية، الذي برّر وجود المذاهب الإسلامية ومنحها أرضية قويّة.
ساهمت هذه المذاهب وأرضيتها في ما عرضه ماهر في الفصل الثاني من الكتاب، من مظلومية للنص القرآني الذي لم يعد بحسب الكاتب المصدر الأول للدين الإسلامي كما تدّعيه هذه المذاهب، بسبب سوء فهم وتفسير نصوصه، وهو ما حاول شرحه في الفصل الثالث من كتابه.
ردّة الفكر ونكوص المجتهدين
لا يجد أحمد عبده ماهر حرجاً في اتهام المؤسسة الدينية (المتمثلة في الأزهر) بالإساءة للإسلام بسبب تقاعسها عن فلترة ما تقوم بتدريسه لطلابها، وتضمينها في مناهجها آراءً فقهية شاذة تناقض العقل والنص القرآني معاً، بل إن بعضها يتنافى مع الأخلاق والإنسانية، وهو ما اعتبره ردّةً فكرية واضحة، وغلقاً صريحاً لأبواب الاجتهاد، أحال الإنسان المسلم لكائن متّبع لا غير، في دين جاء لبعث الإنسان من جديد عبر مجموعة من القيم التي وإن وصفت بالدينية، إلا أن وصفها الحقيقي أنها قيم إنسانية.
كتاب المستشار أحمد عبده ماهر "إضلال الأمة بفقه الأئمة" عمل بحثي، جمع بين التوثيق والفكر، حاول من خلاله المساهمة في خلخلة اليقينيات التي كرّستها المذاهب الكبرى عبر مدارسها الفقهية، بحثاً عن إسلام سماوي لم تدنسه يد بشرية
هنا، تظهر بوضوح منهجية الكاتب في نقد المذهبية التي يرى أنها لن تصمد لحظة واحدة إذا سمح للمفكرين وللمجتهدين بعرضها على النص القرآني، فالهشاشة الفكرية التي بنيت عليها، بحسب الكاتب، كفيلة بردمها وإلى الأبد. بل يكتب أيضاً: "وجدتُ الأزهريين جميعاً نكصوا جيلاً بعد جيل، وعلى الرغم من أن أحدهم أكثر عقلاً وعلماً من الأئمة الأربعة مجتمعين، إلا أنهم جميعهم انضووا وانزووا خلف ستار حديدي من أفكار هذا أو ذاك من رجال الفقه القديم، وحتى من جاهد منهم فقد جاء جهاده في نفسه وبكتبه، ولم تسع تلك الحفنة القليلة منهم التي ترنو إلى التجديد أن تجاهد لتغيير ذلك الصرح العملاق، أو لعلها حاولت أو فشلت، فما يتم تدريسه اليوم هو ذاته ما درسه طالب الأزهر منذ ألف سنة".
تواضع إدراك وقلّة فهم
ويبرر أحمد عبده ماهر اشتغاله على نقد المذهبية، وما انبثق منها من فقه متناقض مع الرسالة الأولى للإسلام، بالانحراف الذي ميّز العقل الديني المتمذهب، الذي من أجل تكريس نظرية "الناسخ والمنسوخ" المضطربة بحسب ما قدم من أمثلة وحجج، قام بالعبث بالنص القرآني، وازداد انحرافاً بإخضاعه لمعاني ودلالات القرآن لتفسير مبني على فهمهم للسنة النبوية. بالإضافة إلى قيام رجال الفقه القديم بتفسير القرآن بالقطعة، وإن أدى ذلك إلى تضارب التفاسير وتناقض الأحكام المستنبطة منها. ولعلّ أخطر ما استنبط منها القاعدةُ التي تعتبر السنة القولية صالحةً لكل زمان ومكان، بالرغم من الطبيعة البشرية لقائلها الخاضعة بالضرورة للمكان والزمان.
من أحد الكتب المقرّرة في الأزهر للشيخ السيّد فائق الموسوم "فقه السنّة"، يخرج لنا ماهر رأياً بتكفير المتقاعس عن الصلاة وضرورة قتله مباشرة عند البعض، أو بالقول بنفسه واستتابته ثلاثاً قبل قتله عند المذاهب الأربعة
وتزداد درجة الانحراف بالنسبة للكاتب، حين عمد مريدو المذاهب الإسلامية إلى تسبيق السنة النبوية على النص القرآني في حال وجود حكم أغلظ أو وجود آية قرآنية تخالف السنة التي اعتمدوها مصدراً ثانياً للتشريع، على الرغم من مظنونيتها سنداً ومتناً، متوهمين أنها هي الأخرى وحي نزل من السماء كالقرآن تماماً. وهو ما مهّد بلا شك لابتداعهم في فترة لاحقة لأحكام جديدة لا سند لها في القرآن ولا في سنة.
كتيبة لإعدام المتنورين وصلب الرأي الآخر
هل كان صاحب "إضلال الأمة بفقه الأئمة" مدركاً أن كتابه هذا سيسبب له ما لا يحتمل من متابعات ومحاكمات أدت إلى إدانته بتهمة ازدراء الأديان والحكم عليه بالسجن، لولا أن الرئيس المصري امتنع عن توقيع الحكم والمصادقة عليه، لتتم محاكمته من جديد وتبرئته من التهمة الغريبة تلك؟ فعبده ماهر لم يزدر الإسلام في شيء؛ كلُّ ما فعله هو نقلُ ما بالكتب الدينية من آراء فقهية تدرّس على أنها هي الإسلام، بل إن بعضها هو ما منع فئةً كبيرة من رجال الدين من تجريم جرائم داعش التي مع كل مذبحة ومحرقة واغتصاب وسبي، تنشر نصاً فقهياً وفتوى مبنية على نص ديني يبرر فعلها، وهي ذات النصوص والفتاوى الموجودة في كتبٍ تنشر وتتصدر المناهج التعليمية في المؤسسات الدينية وغيرها.
كتاب "الفقه على المذاهب الأربعة" ضم فتوى غريبة تدرّس لطلبة الدين في الأزهر وهي أن الزوج غير ملزم بدفع أجرة الطبيب عن زوجته إذا مرضت، وليس عليه أن يدفع شيئاً من قيمة الدواء، كما لا يلزم بشراء كفن لها إذا وافتها المنية، لأنه لم يتزوجها إلا للتلذذ بها
وصف أحمد عبده ماهر الرأيَ الآخر المنتقد للرأي المذهبي بالعدوِّ اللدود لدى المؤسسة الدينية؛ عدوّ لا بد من محاربته وسجنه وقتاله ونصب المشانق الفكرية والقضائية والحقيقية له، إذ لا طريقة أخرى للتخلص منه. فلطالما كان الرأي الآخر معوقاً للجهل المركّب المتعصب لنفسه بحجة امتلاكه الحصري للحقيقة المطلقة، ما يبرر التحالف الاستثنائي لفرقاء المذاهب الكبرى ضد أي فكر تجديدي أو تنويري. تحالف لا يهدف إلى الوصول إلى الحقيقة، بل غايته الأسمى إبقاء الحال على ما هو عليه، ولو استلزم ذلك إطلاق كلاب الموت على خصومهم وتشكيل كتائب منظمة لإعدام التنويريين وصلبهم بحجة الخروج عن الدين أو بتهمة ازدرائه.
لاإنسانية المذاهب الدينية
يدرج أحمد عبده ماهر آراء فقهية مذهبية يدّعي أصحابها أنها من الإسلام الذي كرّم الإنسان، وحارب الظلم وساوى بين البشر، ودعا إلى التأمل والرحمة، وأمر ببرّ القربين ومودّة الزوجة، واحترام الكبير، والعطف على الصغير، آراء تخرج بالعقل والفطرة والنص الصريح عن رسالة الإسلام الكبرى المتمثلة في السلام والأمن والطمأنينة. فمن أحد الكتب المقرّرة في الأزهر للشيخ السيّد فائق الموسوم "فقه السنّة"، يخرج لنا رأياً بتكفير المتقاعس عن الصلاة وضرورة قتله مباشرة عند البعض، أو بالقول بنفسه واستتابته ثلاثاً قبل قتله عند المذاهب الأربعة، وهو رأي لا يستقيم وفق أي منطق مع النص القرآني الصريح الذي ينص على أن تكون الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
من باب الفتاوى والآراء الفقهية المضحكة المبكية، نجد رأي أبي حنيفة في ما يتعلق بحق الزوج الجديد أن يمنع زوجته من إرضاع ابن لها من زوج سابق وتربيته، بحجة أن ذلك يقذّرها ويفسد جسدها، فلا يستمتع بها كما يحب، وتجويز الشافعي للرجل الذي يملك بنتاً من علاقة خارج الزواج أن يتزوّجها لأنها كانت من علاقة محرّمة
لكن الغريب مما أورده أحمد عبده ماهر ما نقله من كتاب "الفقه على المذاهب الأربعة" الذي ضم فتوى غريبة تدرّس لطلبة الدين وهو أن الزوج غير ملزم بدفع أجرة الطبيب عن زوجته إذا مرضت وليس عليه أن يدفع شيئاً من قيمة الدواء، كما لا يلزم بشراء كفن لها إذا وافتها المنية، لأنه لم يتزوجها إلا للتلذذ بها، وهي دعوى إلى النأي عن الطبيعة السوية والإنسانية، بل تناقض صريح مع مفهوم المودة التي جاءت في النص القرآني.
ومن باب الفتاوى والأراء الفقهية المضحكة المبكية في الوقت نفسه، نجد ما أورده الكتاب، رأي أبي حنيفة في ما يتعلق بحق الزوج الجديد أن يمنع زوجته من إرضاع ابن لها من زوج سابق وتربيته، بحجة أن ذلك يقذّرها ويفسد جسدها وصدرها، فلا يستمتع بها كما يحب، وتجويز الشافعي للرجل الذي يملك بنتاً من علاقة خارج الزواج أن يتزوّجها، لأنها كانت من علاقة محرّمة.
كتاب المستشار أحمد عبده ماهر "إضلال الأمة بفقه الأئمة" عمل بحثي، جمع بين التوثيق والفكر، حاول من خلاله المساهمة في خلخلة اليقينيات التي كرّستها المذاهب الكبرى عبر مدارسها الفقهية، بحثاً عن إسلام سماوي لم تدنسه يدٌ بشرية؛ الإسلام الذي ينشده أحمد عبده ماهر ويصفه بالإسلام بلا إضافات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...