في الرابع عشر من أيلول/ سبتمبر 1970، نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، خبراً مفاده أن حزب الفهود السود الماركسي المناهض للعنصرية، والمُعارض لحرب فيتنام، قد "تمدد" خارج أراضي الدولة، مفتتحاً "قسماً دولياً" في الجزائر العاصمة.
حينها، صرح المسؤول الإعلامي للحزب الفارّ، والمطلوب أمريكياً لانتهاكه الإفراج المشروط عنه في كاليفورنيا (إلدريدج كليفر)، لمراسل الصحيفة في الجزائر، بأن هذا القسم سيكون منافساً لخارجية وليام روجرز، وزير الخارجية الأمريكية آنذاك. ومحاولةً لما يسميه كليفر بـ"دبلوماسية الشعوب"، قائلاً: "هذه هي المرة الأولى في هذا النضال الذي دام 400 عام للسود داخل الولايات المتحدة التي يكون لنا فيها تمثيل على المستوى الرسمي على المسرح الدولي".
جنّة ثورية
الحماية الجزائرية الدبلوماسية جاءت في وقت كانت فيه العلاقات الثنائية بين الدولتين في أسوأ حالاتها، بعد قطع العلاقات الدبلوماسية في حزيران/ يونيو 1967، بسبب العدوان الذي شنّته إسرائيل على البلدان العربية، وموقف الولايات المتحدة المنحاز إلى جانبها، ولتعدّ الجزائر الحركة الأمريكية المعارضة لحكومة واشنطن، بمثابة "حركة التحرير".
رأت الدولة الفتية في الجزائر التي تحررت حديثاً من الاستعمار الفرنسي، في الفهود السود، قوةً نضاليةً تتقارب مع أهداف ورؤى جبهة التحرير الجزائرية. وتأمين الحماية لهم، ينسجم بشكل ما مع الموروث النضالي للجبهة، التي أصبحت مقصداً مفضلاً للحركات الثورية في العالم وقتها.
فبالنسبة إلى الثوار والأحرار في العالم، كانت الجزائر بمثابة "جنّة ثورية"، والدعم الذي أظهره الرئيس بومدين للفهود السود، يأتي في سياق السياسة الجزائرية في هذا الإطار التضامني مع حركات التحرر في العالم، على غرار منظمة التحرير الفلسطينية وقائدها ياسر عرفات، وحركة تحرير جنوب إفريقيا وزعيمها نيلسون مانديلا.
لذا تم تقديم "بيت أبيض" مؤلف من ثلاثة طوابق يحيط به فناء جميل وسورٍ عالٍ، كمقر دائم للحزب، وبقي كذلك حتى خرج أنصار الحزب من الجزائر سنة 1974. قبل هذه الحماية المباشرة للفهود، وفي عام 1969، شهدت العاصمة الجزائر المهرجان الثقافي الإفريقي الأول الذي جمع مثقفين وفنانين من كل البلدان الإفريقية، وشارك فيه وفد من حزب الفهود الأمريكي الذي مكث في فندق "إليتي"، أحد أفخم فنادق المدينة وقتها، كما مُنحوا واجهةً أُطلق عليها اسم المركز الثقافي الإفرو-أميركي في شارع ديدوش مراد.
أمريكا السوداء وأمريكا البيضاء
بدأت حركة الفهود السود، كمنظمة حقوقية تدافع عن السود الأمريكيين ضد جرائم التمييز العنصري، وممارسات الشرطة العنيفة ضدهم، تحديداً، بعد اغتيال الناشط المدني مالكوم إكس، في 21 شباط/ فبراير 1965، ثم تحولت إلى حزب ثوري أسسه كل من هيوي نيوتن وبوبي سيل، متبنّياً العقيدة الماركسية الشيوعية في تشرين الأول/ أكتوبر 1966.
مطلع عام 1972، كانت قضية خطف الطائرات الأمريكية والتوجه بها إلى مطار الجزائر، هي ما أثّر بشكل كبير على العلاقات بين الحكومة وحزب الفهود. فقد خشيت الحكومة أن تظهر أمام العالم بمظهر الداعمة للقراصنة الجويين
طالب الحزب بتسليح السود، وإعفائهم من الجندية، وإطلاق سراح السجناء السود، ودفع تعويضات عن قرون من الاستغلال الواقع عليهم، وفقاً لتقرير نشره تلفزيون BBC البريطاني في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2021. رأت الحكومة الأمريكية ممثلةً في إدغار هوفر، وكان يعمل مديراً لمكتب التحقيقات الفيدرالية، الحزب، "أكبر تهديد للأمن القومي"، و"منظمةً شيوعيةً"، و"عدواً للحكومة"، متوعداً بإنهاء وجوده في الولايات المتحدة خلال عام.
بالفعل، تم اغتيال زعيم الحزب آنذاك فريد هامبتون، برصاصتين في رأسه بعد اقتحام منزله من قبل مأجور جندته الـFBI، ليهرب نائبه إلدريدج كليفر، بعد خروجه على إثر دفع كفالة بعد ملاحقته في قضية نصب كمين لسيارة شرطة، وفرّ نحو هافانا، حيث أمضى ستة أشهر بصفة غير شرعية، ثم إلى الجزائر التي منحته حق اللجوء السياسي.
في عددها لشهر حزيران/ يونيو سنة 2017، نشرت مجلة "لندن ريفيو أوف بوكس"، مقالاً بعنوان "الفهود السود في الجزائر العاصمة"، يتضمن شهادةً مثيرةً للصحافية والمترجمة الأمريكية ألين مختفي، التي عملت في وزارة الإعلام الجزائرية إبان الاستقلال، والتي كانت مقربةً من أفراد الحزب في الجزائر، وخبراً عن افتتاحهم لأول مقر وفرع دولي لهم للتعريف والدفاع عن قضيتهم. وتذكر أنه بعد استقبال كليفر في العاصمة الجزائر، طلب البقاء في البلاد، وأن يتم الإعلان عن تواجده هناك وعُقدت جلسة صحافية لوسائل الإعلام المحلية والعالمية لهذا الغرض أعلن فيها كليفر بوضوح: "نحن قطعة أصلية من إفريقيا". وأضاف: "يعلّمنا الأمريكيون البيض أن تاريخنا يبدأ من وصولنا إلى أمريكا، وبأننا لا نملك ماضياً آخر. يجب أن نستعيد ثقافتنا".
الفرع العالمي لحزب الفهود السود
تروي ألين مختفي، في شهادتها، أنها تناقشت مع كليفر حول البحث عن إمكانية الاعتراف بما كان يسمّيه الأخير "الفرع العالمي لحزب الفهود السود"، كحركة ثورية ممولة، ما قد يساعدها على الحصول على امتيازات ومداخيل مالية ثابتة. وتم نقل المشكلة إلى أمحمد يزيد، الذي كان يشغل منصب ممثل الحكومة الجزائرية في واشنطن، وتدخّل لدى الحكومة في تأمين تحقيق هذا الغرض للفهود وزعيمهم كليفر.
ربما سعت الجزائر بذلك إلى استخدامهم كورقة ضغط في مفاوضاتها مع واشنطن الداعمة لفرنسا في ملف احتياطي النفط والغاز في الجزائر، كما تقول مختفي في شهادتها للمجلة السابقة الذكر، وأيضاً لأسباب أيديولوجية تتعلق بموقع الجزائر التي كانت في حلف مع الاتحاد السوفياتي الداعم الأكبر لنظام بومدين. وأقرت الحكومة لكليفر ورفاقه دونالد كوكس، وبيت أونيل، وكاثلين كليفر، بتأسيس مقرّ لهم في 13 أيلول/ سبتمبر 1970، حيث بدأ توطيد علاقة الحزب بكوريا الشمالية وحركات مقاومة إفريقية ودول معادية للولايات المتحدة. ضمت السفارة ما يقارب 30 شخصاً من اللاجئين الأمريكيين السود في الجزائر، حيث برز هؤلاء كـ"نجوم" في الشارع الجزائري، وحظوا بدعم مادي ومعنوي وإعلامي لم تحظَ به حركة تحررية أخرى، حتى أن الصحافي الفرنسي الأمريكي سانش دو غارمون، نشر في نيويورك تايمز مقالاً بعنوان: "رجلنا الآخر في الجزائر"، على خلفية تأسيس السفارة أو المقر الدائم برعاية جزائرية رسمية.
"عملية سيزيف"
مطلع عام 1972، كانت قضية خطف الطائرات الأمريكية والتوجه بها إلى مطار الجزائر، هي ما أثّر بشكل كبير على العلاقات بين الحكومة وحزب الفهود. فقد خشيت الحكومة أن تظهر أمام العالم بمظهر الداعمة للقراصنة الجويين. بدأت القصة في الثاني من حزيران/ يونيو 1972، مع الطائرتين اللتين اختطفهما روجر هولدر وجورج رايت.
بالنسبة إلى الثوار والأحرار في العالم، كانت الجزائر بمثابة "جنّة ثورية"، والدعم الذي أظهره الرئيس بومدين للفهود السود، يأتي في سياق السياسة الجزائرية في هذا الإطار التضامني مع حركات التحرر في العالم، على غرار منظمة التحرير الفلسطينية وقائدها ياسر عرفات، وحركة تحرير جنوب إفريقيا وزعيمها نيلسون مانديلا
فقد تم اختطاف رحلة الخطوط الجوية الغربية الأمريكية رقم 701 في لوس أنجلس بواسطة هولدر وزوجته كاثرين ماري كيركو. كانت الرحلة في طريقها إلى سياتل عندما نفّذ هولدر "عملية سيزيف" التي خطط لها قبل فترة طويلة. قاما بإنزال نصف الركاب في لوس أنجلس والنصف الآخر في نيويورك، ثم أعادا تزويد الطائرة بالوقود قبل الإقلاع إلى الجزائر من دون ركاب. في الجزائر العاصمة، حصل روجر وكاثي على فدية قدرها 500 ألف دولار.
ولدى وصولهما بالطائرة المختطفة، فرض مسؤولو الحكومة الجزائرية الحجر الصحي على الزوجين. وبعد مقابلات وتحقيقات طويلة مع الأجهزة الأمنية، تم الإفراج عنهما لمنظمة الفهود السود. لكن الأموال بقيت في عهدة الدولة الجزائرية حتى تم ترتيب لقاء مع الرئيس بومدين. كان بومدين في زيارة رسمية للسنغال، وعندما عاد، استدعى الزوجين إلى القصر الرئاسي. يوثّق كورنر، أنه على الرغم من نضالات هولدر العميقة مع الظلم العنصري في الجيش الأمريكي، سرعان ما رفضه الرئيس وكاثي، كونهما مثيرَي مشكلات وليسا صاحبي رؤى ثورية أو مطالب حقوقية، فأُعيدت الفدية النقدية إلى الولايات المتحدة، وفي المقابل رُفضت طلبات الحكومة الأمريكية بتسليمهما ومُنحا حق اللجوء السياسي.
وهنا ثارت ثائرة إلدريدج كليفر، الذي عدّ أن بومدين قد "سلب أموال الثورة". وسرعان ما تفاقم إحباط كليفر بسبب حادث مماثل، عندما استولت مجموعة تابعة للفهود في أمريكا، مقرها في ديترويت، على رحلة طيران دلتا رقم 84، مع فدية قيمتها مليون دولار وتوجهت إلى الجزائر في 14 تموز/ يوليو 1974. وتمت إعادة الأموال مرةً أخرى إلى الولايات المتحدة، ومنح اللجوء السياسي للخاطفين، في سيناريو مشابه لما حدث مع الطائرة الأولى.
"سفينة غارقة"
أخذت العلاقة بين الجزائر والحزب منعرجاً خطيراً، على أثر التصريحات التي صدرت عن كليفر في المؤتمر الصحافي الذي عُقد على خلفية إعادة أموال الفدية إلى الحكومة الأمريكية. لم يستجب كليفر لنصائح صديقه ونائبه أونيل، عن خطورة ذلك على مصير المقر الدولي.
قال كليفر: "الشعب الإفريقي الأمريكي لا يطلب من الشعب الجزائري أن يخوض معاركنا من أجلنا. ما نطلبه هو ألا تخوض الحكومة الجزائرية معارك الحكومة الأمريكية". عدّ بومدين هذه التصريحات مهينةً ومخيّبةً، نظراً إلى الدور الذي لعبته الجزائر في خدمة قضية الفهود، والدعم السياسي والمالي الذي قدمته لهم، والضغوط التي تحملتها من الخارج بسبب ذلك، ومنها التهديد بإلغاء صفقات تجارية مع الشركات الأجنبية.
لذا أوعز بمداهمة مقرهم، ومصادرة محتوياته من هواتف وآلالات كاتبة ومعدات أخرى، كذلك ما فيه من أسلحة وبنادق من طراز AK-47، مطالباً كليفر بالتنحي عن زعامة المقر، الأمر الذي انصاع له الأخير مسلماً زمام القيادة لنائبه أونيل.
ولكن المقر الدولي كان يعيش أيامه الأخيرة، وأصبح أعضاؤه على وشك التشرد بسبب تضاءل الدعم الدولي، وتداعي المنظمة داخل الولايات المتحدة. فقد بدأ المنفيون يتلمسون لأنفسهم حلولاً فرديةً منسحبين من الحزب. وكتب كليفر قبل مغادرته إلى فرنسا بجواز سفر مزوّر: "المقر الدولي سفينة غارقة"، ثم عاد إلى الولايات المتحدة بعد سنوات عدة كمسيحي جديد، ثم تبعه أونيل وزوجته اللذان توجها نحو تنزانيا، بعد أن سلّم مقاليد الأمور في المقر لروجر هولدر، الذي بدوره توجه إلى باريس مع زوجته كاثلين كليفر بحثاً عن حياة برجوازية في فرنسا في سنة 1974. تؤكد ألين مختفي في المقابلة السابقة الذكر، أن الجزائر لم تطرد أياً منهم، وتذكر أن الفهود، على الرغم من إيمانها بقضيتهم وعدالتها، لم يفهموا المجتمع الجديد الذي عاشوا في كنفه. فقد رأوا أنفسهم أحراراً ويمكنهم التظاهر متى يشاؤون، حتى أن بعضهم فكر في الاعتصام أمام مكتب بومدين نفسه.
أما بالنسبة إلى الجزائر، التي تصفها مختفي في ذلك الحين بـ"منارة قائدة في العالم الثالث"، فكان لجبهة التحرير والدولة الفتية الكثير لتفعلاه في مجالات التنمية والبناء، ولم تكونا لتسمحا لهؤلاء "المنفيين" بممارسة الضغط عليها، أو لـ"مجموعة من الخاطفين" بجعلها تبدو دولةً لا تحترم الأعراف الدولية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...