انتابني الحزن وعم قلبي الفرح في آن واحد، خلال آخر دقائق استعدادات ابني بلال قبل خروجه من المنزل متجهاً لابتدائية بن حاسين صالح، التي لا تبعد سوى أمتار عن منزلنا، اتكأت على الحائط وباب الساحة مفتوح.
أرى ولدي يخطو خطواته الأولى نحو المدرسة، فاستندت إلى حائط الذكريات استحضر يومي الأول بالمدرسة وسعادة أمي التي ملأت حقيبتي بوجبة "الخفاف"، تلك الكلمات التي لم تُمح عن ذهني، وهي تقول "أعط كل من يقابلك قطعة من الخفاف فهو فال خير يا فتيحة".
نعيش في قرية الضلعة، إحدى المناطق شبه المعزولة التي تبعد 27 كيلومتر عن مدينة مسكيانة التابعة إدارياً لولاية أم البواقي. السكان هنا بسطاء جداً، يعيشون على زرعهم، ومنهم من يمتهن تجارة الأسواق الأسبوعية ويبع المواشي، بينما المتقاعدون يكملون استراحتهم المهنية بفتح محلات المواد الغذائية وبيع الأواني، فيما يختار الشباب الالتحاق بالثكنات العسكرية والعمل في الحرث وجني المحاصيل، بعدما يقطعون طريق مسارهم الدراسي في أوله وأوسطه.
في أواخر الصيف بدا لي أنه من الصعب مجاراة عناد بلال وترويض عنان طفولته، ابني لم يكن ذلك الفتى الفضولي عندما يتعلق الأمر بالدراسة ولا من هواة الكتابة أو محاولة القراءة، هنا في القرية يلعب الأطفال في جميع ساعات النهار، آمالهم وأحلامهم تقتصر على رؤية المدن الكبيرة وتقلد المناصب العليا في المؤسسات العسكرية.
مع حلول شهر سبتمبر، بدأ ابني بلال يحادثني عن المدرسة ويسألني عن أيامي الأولى بالمؤسسة التربوية، قلت له إن ظروفنا كانت قاسية، وأننا كنا نضطر إلى المشي كيلومترات للوصول إلى ابتدائية "عين طويلة"، كانت فرحتنا للوصول للمدرسة كبيرة، كنا نجابه الظروف المادية والمناخية وصولاً للمدرسة، أين نتشبث بالأمل ونعيش ساعات الود والتعلم مع المعلمة "فضيلة" التي درستني لسنتين متتاليتين، كانت الأخيرة كالأم الثانية لنا بعد الأم التي قست عليها الظروف، واختار لها الرب أن تعيش أرملة بعدما قتل أبي على يد الاحتلال الفرنسي وودع بيتنا وأنا لا أزال رضيعة.
لا أزال أتذكر اليوم الأول لي في المدرسة، عندما أيقظتني أمي في الخامسة صباحاً، وطلبت مني أن أساعدها في تحضير "الخفاف"
كانت أمي تعمل في ورشات النسيج، وعملت بمؤسسات تربوية كعاملة نظافة وطاهية بالمطاعم، لتأتي لنا بقوت اليوم، لا أزال أتذكر قطع القماش التي كانت تأتي بها لتخيطها لنا. كنت الأصغر بين أخوتي وكنت المدللة بينهم، وكانت أمي تسعدنا بأبسط الأمور وتجعل من كل مناسبة حفلاً بهيجاً.
لذلك لا أزال أتذكر اليوم الأول لي في المدرسة، عندما أيقظتني أمي في الخامسة صباحاً، وطلبت مني أن أساعدها في تحضير "الخفاف"، بعدما قامت بإذابة الخميرة في كمية الماء الدافئة، وخلط الطحين والسميد والملح والسكر في وعاء كبير، ليضاف بعد ذلك الماء تدريجياً، حتى حصلنا على عجينة طرية، بحيث لا تشبه عجينة الخبز الصلبة أو عجينة الكعك السائلة، ثم قامت أمي بتغطيتها حتى تخمرت لمدة ساعة من الزمن.
بعدها قمت بارتداء تنورتي التي خاطتها لي أمي، وحذاءً أبيض اشتراه لي والد صديقتي وجارتي "حسناء"، وأنا أبحث عن حقيبتي، اتجهت إلى المطبخ فإذا بوالدتي تضع فيها قطع "الخفاف" مغلفة بأكياس، وعندما ملأت حقيبتي وضعتها على كتفي، قالت لي أمي حينها "أنا سعيدة وحزينة في آن واحد، سعيدة لأن ابنتي الصغيرة تدخل الابتدائية وحزينة لأنك كبرتي" ثم ابتسمت وأكملت "أعطِ كل من يقابلك قطعة من الخفاف، فهو فال خير يا فتيحة".
وأنا متكئة على الحائط أشاهد بلال يدخل المدرسة، أدركت ذلك الشعور الذي عاشته أمي بين حزنها وسعادتها وتشبثها بالعادات والتقاليد وتوزيع "الفال" لحراس الابتدائية وبين أولياء التلاميذ والمعلمين وعمال النظافة بالمؤسسة.
وأنا متكئة على الحائط أشاهد بلال يدخل المدرسة، أدركت ذلك الشعور الذي عاشته أمي بين حزنها وسعادتها وتشبثها بالعادات والتقاليد وتوزيع "الفال" لحراس الابتدائية وبين أولياء التلاميذ والمعلمين وعمال النظافة
هكذا وصفت فتيحة لـرصيف22 دخول ابنها بلال أول سنة في مساره الدراسي، وعن مشاعرها المتناقضة بعدما حمل ابنها حقيبته ليبدأ مشواره بالابتدائية.
تكمل فتيحة: "لا تزال العائلات الجزائرية متمسكة بالعادات والتقاليد المتوارثة والتحضيرات التي تسبق أولى أيام للمتمدرسين الجدد".
وأكملت " وتهدف كل هذه المراسيم إلى تهيئة الطفل وكذا تحبيبه بالمدرسة بعد ارتباطه الطويل بأسرته وانفصاله عنها دفعة واحدة، خاصة وأن القرى والمداشر في عدة ولايات في الجزائر لا تعتمد الروض التربوية والحضانات، ما يعني أن المدرسة هي أول تجربة بالنسبة للأطفال في تحصيل العلم بعد المدارس القرآنية".
ووصفت الأخيرة مفارقة طفلها ذو الـ 6 سنوات لعائلته بأنها صعبة، لذلك اعتمدت إحدى الطرق المعروفة لدى العائلات الجزائرية والتي من شأنها أن تقرب الطفل الصغير من المدرسة، وهي طرق بسيطة تقوم بها الأمهات صبيحة الدخول المدرسي، بحيث نهضت وشمرت على سواعدها لإعداد "الخفاف"، وهي أكلة معروفة ذاع صيتها بين الجزائريين، حيث يعتبرونها مصدراً لجلب الفأل الجيد، فيما راحت عائلات أخرى لتعطيه قيمة أكبر من "الفال" معتبرة "الخفاف" رمزاً للخفة بدليل اسمه، ويحضر للطفل الصغير تيمناً بخفة رأسه في فهم الدروس.
كما طلبت فتيحة من ابنها الذي خرج في أول أيامه للمدرسة، توزيع "الخفاف" للجيران وكل من يلقاه في طريقه نحو بوابة انطلاقته في المسار الدراسي كـ "فال خير"، فيما تقوم ربات بيوت أخريات بملء جيوب أبنائهن وبناتهن بقطع السكر ليوزعوها على الزملاء.
العديد من الطرق والعادات التي تقوم بها الجزائريات في أول أيام دراسة أبنائهن وبناتهن، هدفها تقاسم الفرحة مع الغير والتعبير عن الامتنان بوصول الأطفال إلى المدرسة، كما أن هذه الحيل ترسخ ذكريات جميلة لدى الجزائريين.
هذا ما قامت به والدة بلال حتى لا ينسى تلك المناسبة، التي تختم بتقبيلة على الجبين متمنية لابنها النجاح في مشواره الدراسي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم