تحكي لنا أفلام السينما قصصاً جذّابةً عن شخصياتٍ تخطّط لاقتحام بنك، أو سرقة شركة، أو القيام بعملية سطو مسلّح. في البداية، يسحبنا الفضول للمشاهدة، ويزيد الصّراع مُتعة الفُرجة، لكن ما يصنع ذلك التعاطف الشعبي مع شخصية تخالف القانون، هو دوافعها وظروفها بالضرورة. والأهم، إلى أي حدّ نجحت تلك الشّخصيات في التماهي معنا، مع ما نريده ونتمناه بمعنى أدق. هنا يستعين صنّاع الأفلام بالـ"فلاش باك"، لإعطاء شريطهم السينمائي بعداً إنسانيّاً آخر، يتجاوز عملية السّطو المسلّح؛ فيجعلنا نقترب ونتعرّف على الدوافع التي جعلت البطل خارجاً عن القانون.
في مكان ما، تجد في مبادرتها الفردية تلك، شجاعةً تتمنى أنت المشاهد أن تستجمعها، لتمارس فعل الثورة الذي تراه على الشاشة.
في المسلسل الإسباني الشهير "لاكاسا دي بابل"، نتعاطف مع عصابة تخطّط للسطو على دار صكّ العملة الإسبانية، لأنّنا ببساطة نجد في فريق "البروفيسور" تحديّاً لنظام رأسمالي فاسد. يعجبنا أن تتلاعب ثُلّة من الفقراء المهمّشين بهذا النظام الذي لا يتوقّف العمل عن تذكيرنا بفظائعه. هكذا، تصبح طباعة النّقود فعلاً تمرديّاً ثوريّاً على قواعد النّظام التي تصبّ في صالح الأثرياء.
منذ سنواتٍ طويلة، لم تتوقّف المسرحيات والسينما عن استدعاء شخصية البطل الإنكليزي "روبن هود"، للتعبير عن الأهداف النبيلة والقيم السامية لدى بعض الخارجين عن القانون. صار "روبن هود" بطلاً نموذجيّاً. أن تسرق من جيوب الأثرياء لتجعل حياة الفقراء أفضل، أو تجعلها أقل مأساويّةً ربما.
في تلك القصص التي نتعاطف فيها مع شخصيات تخالف القانون، نتعاطف مع أنفسنا، ونتماهى مع مزاجنا، ومع الأكثريّة المسحوقة ضد الأقلية الساحقة، مع ما يمكن أن نفعله، أو نتمنى أن نفعله ربما، تحت ظرف مشابه
في فيلم الجوكر أيضاً، يقدّم الفيلم شخصيةً لا تعترف بالقوانين الوضعيّة، بل تسخر منها، فالبشر المنحازون إلى الكفّة الأقوى هم واضعوها. من هنا، ليس غريباً أن نتعاطف مع الجوكر ونحن نعيش تحت وطأة قوانين وضعية لا تحقق حدّاً أدنى من العدالة.
كيف لا نصفّق لكل نصر مستحقٍ على نظام وطبقة سياسيّة تُراكم ثروات الأثرياء وتستكثر على الفقراء لقمتهم المغمّسة بالعرق والدم؟!
في تلك القصص التي نتعاطف فيها مع شخصيات تخالف القانون، نتعاطف مع أنفسنا، ونتماهى مع مزاجنا، ومع الأكثريّة المسحوقة ضد الأقلية الساحقة، مع ما يمكن أن نفعله، أو نتمنى أن نفعله ربما، تحت ظرف مشابه، فتصير دوافع البطل وغاياته هي دوافعنا وغاياتنا. في تلك الأفلام والمسلسلات، يحرص كتّاب السيناريو على صناعة بطلٍ ذكي بكاريزما ومواصفات خاصة، لكن أكثر ما يحرصون عليه هو تقديم دوافع كافية تجعل من ذلك الفعل المخالف للقانون وسيلةً للاقتصاص من فرد أو منظومة فاسدة، من ميزان العدالة الاجتماعية المختل، من نظام يراكم ثروات الأثرياء ويتغذّى ويعيش ويستمر على طحن حيوات ملايين الفقراء والمسحوقين والمهمّشين. هكذا، يجبرك ظرف الشخصيات وبيئتها على تفهّم ردود أفعالها، بل والتعاطف معها. وفي مكان ما، تجد في مبادرتها الفردية تلك، شجاعةً تتمنى أنت المشاهد أن تستجمعها، لتمارس فعل الثورة الذي تراه على الشاشة.
من هنا، تكون سالي حافظ، الشابة اللبنانية، الناشطة، وابنة الثورة على المصارف والنظام اللبناني الطائفي بكل رموزه، الشاهدة على الانهيار الكبير، والتي اقتحمت بنكاً يحتجر أموالها بسلاح خردة، لعبة أطفال، لاسترجاع وديعتها البالغة 20 ألف دولار، شخصيةً مختلفةً لم تخبرنا الأفلام بها. فحتى أفكار كتّاب السيناريو، على خصوبتها واتساعها، لم تسعفهم للتخييل في قصة يضطر فيها المرء إلى أن يسترجع ماله، الذي أودعه بنفسه في البنك، تحت تهديد السلاح، لأن النظام المصرفي لم يترك له سبيلاً آخر لتحصيل حقه. ولولا أننا نشهد ذلك الواقع السوريالي بكل تفاصيله، نراه، ونتلمّسه، لكنّا اتهمنا كاتباً يأتي بقصة مماثلة بالعته والجنون.
تتقاطع سالي حافظ في أذهاننا مع بطلات تلك الأفلام: شابّةٌ بسروالٍ وقميص أسودين، تدخل المكان بقلبٍ ميت، تصعد الطاولة وتضع السّلاح في خاصرتها بحركة سينمائية، تتحدّث وتهدد من دون أن يهتزّ صوتها أو يرتعش
تتقاطع سالي حافظ في أذهاننا مع بطلات تلك الأفلام: شابّةٌ بسروالٍ وقميص أسودين، تدخل المكان بقلبٍ ميت، تصعد الطاولة وتضع السّلاح في خاصرتها بحركة سينمائية، تتحدّث وتهدد من دون أن يهتزّ صوتها أو يرتعش. صورة برانيّة حرصت الناشطة اللبنانية على الظهور فيها، بقوةٍ وثبات، وهي تؤدي مشهداً مقنعاً يُعطي موظفي البنك شعوراً جديّاً بالتهديد. فالفتاة التي ضاقت بها السُّبل وأصابها التّعب وهي تستجدي استعادة وديعتها على أبواب البنوك، لعلاج أختها التي تصارع مرضاً خبيثاً في الرأس، بدّلت جلدها قبل الدخول إلى المصرف هذه المرّة، فاختارت أن تبادر وحدها. سالي فهمت في غمرة يأسها أن الحقوق، في البلدان التي لا تحفظ للضعفاء حقوقاً، تُنتزع انتزاعاً، من فم الأسد. على الطريقة "الروبن هوديّة".
هكذا تُصبح تلك الانتصارات الصغيرة، لسالي وغيرها، انتصاراتٍ لنا، تخصّنا.
فكيف يمكن ألا نتعاطف مع سالي حافظ؟!
وكيف لا نصفّق لكل نصر مستحقٍ على نظام وطبقة سياسيّة تُراكم ثروات الأثرياء وتستكثر على الفقراء لقمتهم المغمّسة بالعرق والدم؟!
سالي هي النسخة الأكثر شجاعةً منّا، نحن المقهورين. هي ما نتمنى أن نكون عليه. هي نحن في أجمل خيالاتنا. هي الرصاصة التي نطلقها، نحن اليائسين، في الهواء، من دون أن ترتد إلينا.
تهديد موظف في بنك، أو أي موظف يقوم بعمله، هو فعلٌ غير قانوني بالطبع، لكننا نحن الذي فقدنا رفاهية التصرّف كمواطنين صالحين في دولٍ فاشلة لا تحترم إنسانيّتنا، نعتصم بأبطال مثل سالي حافظ، ليقتصّوا لنا. نحتفي بشجاعتهم، علّهم يتكاثرون.
سالي هي النسخة الأكثر شجاعةً منّا، نحن المقهورين. هي ما نتمنى أن نكون عليه. هي نحن في أجمل خيالاتنا. هي الرصاصة التي نطلقها، نحن اليائسين، في الهواء، من دون أن ترتد إلينا
هكذا تُصبح تلك الانتصارات الصغيرة، لسالي وغيرها، انتصاراتٍ لنا، تخصّنا، نحن الذين نراها أو نتمناها أسافين في نعش أنظمة تسرقنا وتُفقرنا وتقتلنا كل يوم، ثم تنتظر منّا في النهاية أن نتصرّف كمواطنين صالحين!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.