حين ندخلها تداهم أنوفنا روائح الورق وتتسلل إلى آذاننا الألحان وأغانٍ تراثية وتقع عيوننا على درر ونفائس، نشعر معها بأننا سُحبنا إلى عالم سحري أو سافرنا بالزمن إلى الوراء. إنها الشوارع والساحات الثقافية الموجودة في عدد من بلدان وطننا العربي، والتي أصبحت بمثابة ظاهرة تدعو للفخر والبهجة، حيث تحولت إلى مساحات لبيع وشراء الكتب المستعملة والجديدة، وملتقيات للمثقفين ومحبي القراءة، وضمت بعضها أماكن لتقديم العروض الفنية والأنشطة والفعاليات الثقافية التي تحتضن الفنانين والإعلاميين والكتاب.
ويحظى العراق بنصيب الأسد من الشوارع الثقافية، وخاصة في بغداد والبصرة، كما يوجد عدد من تلك الشوارع والساحات في عدد من الدول العربية أبرزها: مصر والمغرب والأردن وسوريا وتونس، وعرفتْها مؤخراً القدس، وبلدان خليجية كالسعودية وقطر.
ومن أشهر شوارع وساحات الكتب في العواصم العربية، المتنبي في بغداد، سور الأزبكية في القاهرة، شارع الحلبوني في دمشق، حي المحمدية بالرياض، وشارع عبدالمغني في صنعاء، وساحة البريد المركزي بالعاصمة الجزائرية، وشارع إتني في الخرطوم، نهج الدباغين في العاصمة التونسية، وشارع الثقافة في عمان.
المتنبي... حكاية شارع عمره تسعة قرون
يعد شارع شارع المتنبي أقدم وأشهر الشوارع الثقافية في الوطن العربي، ويرجع تاريخه إلى نحو تسعة قرون، حيث يعود إلى أواخر العصر العباسي. ومنذ نشأته اشتهر بازدهار مكتباته واحتضن أعرق المؤسسات الثقافية. يمتد طول هذا الشارع لأقل من كيلومتر، تحيط بجانبيه أبينة تراثية كانت تشكّل معاً مقرَّ الحكم العباسي، ويبدأ بتمثال من البرونز للمتنبي مطلّ على نهر دجلة، وينتهي بقوس ارتفاعه نحو 10 أمتار، منقوش عليه بيت الشعر الأشهر للمتنبي: "الخيل والليل والبيداء تعرفني/والسيف والرمح والقرطاس والقلم”، كما يحتوي على مطبعة أثرية يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر.
يمتلئ الشارع بالمئات من المكتبات التي تبيع آلاف الكتب الثمينة ومخطوطات نادرة، وعلى جانبي الطريق يتواجد باعة الأرصفة الذين يفترشون كافة أنواع الكتب وطبعات نادرة منها، وتنتشر فيه المقاهي الثقافية كمقهى الشاهبندر التاريخي والبرلمان، ويشهد باستمرار إقامة المعارض الفنية والمجالس والمنتديات الثقافية.
وفي يوم الجمعة من كل أسبوع يتدفق إليه عدد كبير من المثقفين والفنانين من مختلف محافظات العراق وسياح وباحثون عرب وأجانب، للاطلاع على أحدث الإصدارات والبحث عن المخطوطات النادرة وأمهات الكتب.
حين ندخلها تداهم أنفوفنا روائح الورق وتتسلل إلى آذاننا الألحان وأغانٍ تراثية وتقع عيوننا على درر ونفائس، نشعر معها بأننا سُحبنا إلى عالم سحري أو سافرنا بالزمن إلى الوراء... الشوارع والساحات الثقافية في عدد من بلدان وطننا العربي
ومن المؤسف أن الشارع تعرض في الخامس من مارس/آذار 2007 لتفجير سيّارة مفخخة، تسبب في تدمير عدد كبير من المكتبات التاريخية والمقاهي الثقافية وسقوط قتلى وجرحى، ولكن أعيد ترميمه وافتتاحه رسمياً عام 2008 بحلة جديدة، ولازال يستقطب الآلاف لزيارته شهرياً، ويضم كنوزاً ثقافية لا تقدَّر بثمن.
شوارع الثقافة... ظاهرة ملحوظة في العراق
عرفت مدينة البصرة العراقية أسواق بيع الكتب في وقت باكر، حيث كانت تحتوي على سوق المربد، أقدم وأهم الأسواق الأدبية العربية، ومؤخراً شهدت ظاهرة الشوارع الثقافية تزامناً مع الحراك الثقافي لها، ويعتبر شارع الفراهيدي أول شارع ثقافي في البصرة، جرى افتتاحه عام 2015، بالتعاون مع أصحاب مكتبات ودور نشر ومثقفين، ليصبح ملتقى للأدباء والصحافيين والفنانين في كل يوم جمعة، ويكون ميداناً لتجارة الكتب، ومتنفساً لهواة جمع الطوابع والعملات، كما يشهد معارض فنية للرسامين والمصورين.
بينما يعد شارع دجلة الثقافي علامة مميزة في مدينة الكوت العراقية، حيث يشهد العديد من الفعاليات بما فيها المسرح والشعر والموسيقى والخط، وإقامة معارض الكتاب ومعارض الصور الفوتوغرافية والمسابقات والجلسات الأدبية، وكان النشاط الأسبوعي للشارع يقام بداية على كورنيش دجلة وسط المدينة، لكنه الآن أصبح يقام في حديقة العنقاء في قلب المدينة.
يحظى العراق بنصيب الأسد من الشوارع الثقافية، وخاصة في بغداد والبصرة، كما يوجد عدد من تلك الشوارع والساحات في عدد من الدول العربية أبرزها: مصر والمغرب والأردن وسوريا وتونس
وعلى غرار ذلك شهد العام 2017، افتتاح شارع ثقافي قريب من ملتقى نهري دجلة والفرات في قضاء القرنة، ومؤخراً تم تأسيس شارع ثقافي في قضاء الفاو المطل على الخليج، وآخر في ناحية أم قصر التي تضم أكبر ميناء تجاري عراقي.
كما قام مثقفون وفنانون عراقيون باستنساخ تجربتي شارعي المتنبي والفراهيدي في عدد من المدن كميسان، والنجف، وذي قار، وكربلاء، لتتحول الشوارع الثقافية إلى ظاهرة ملحوظة في العراق.
سور الأزبكية وشارع النبي دانيال... عراقة وأساطير
يعود تاريخ شارع وساحة سور الأزبكية لبيع الكتب، الواقع في حي العتبة بوسط القاهرة، أمام مسرح العرائس وخلف حديقة الأزبكية، إلى بدايات القرن العشرين، حين كان باعة الكتب المتجولون يعرضون بضاعتهم على زبائن مقاهي وسط القاهرة، ثم يتوجهون إلى حديقة الأزبكية للتجمع والراحة وتبادل الكتب.
سور الأزبكية
وإلى يومنا هذا يتجمع المئات من باعة الكتب القديمة والجديدة في سور الأزبكية، يعرضون بضاعتهم الثقافية التي تشمل آلاف الكتب المستعملة وأمهات الكتب ومخطوطات نادرة، ويعدّ المكان قِبلة المثقفين والكُتاب وعشاق القراءة.
شارع النبي دانيال
أما شارع النبي دانيال، أحد وأقدم شوارع الإسكندرية الذي طالما ارتبط بالأساطير والبحث عن الكنوز ومقبرة الإسكندر الأكبر، فهو يعد أحد أشهر الشوارع الثقافية وأماكن بيع الكتب بمصر منذ الخمسينيات، ويمتد الشارع من محطة الرمل إلى محطة مصر، ويضم أكبر سوق للكتب المستعملة التي تباع بأسعار زهيدة، بالإضافة إلى الكتب المدرسية المستعملة والكتب القديمة المختلفة فى شتى المجالات، وبه العديد من الكتب مهداة من بعض الكتاب وتحمل توقيع أصحابها، وخلال سنوات تحول الشارع إلى كعبة لكل من يبحث عن الثقافة أو كتاب معين سواءً جامعى أو متخصص في أي من علوم المعرفة.
فعاليات ثقافية وفنية ليلية بشارع الثقافة
عقب اختيار عمان عاصمة للثقافة العربية عام 2002، تم تأسيس شارع الثقافة في منطقة الشميساني، بمساحة تصل إلى 5000 متر مربع وبطول 310متراً، ويحتوي على مسرحين يقدمان العروض المسرحية والندوات الثقافية باستمرار، وبه أيضاً منطقة أكشاك بيع الكتب، وساحة يقام بها معرض للأعمال الفنية، وبه ممشى ومقاعد خشبية معلقة على الجدران ومظللة بمظلات صغيرة ذات طابع حديث، ومقاهٍ ومطاعم ومراكز إنترنت.
يعد شارع المتنبي في العراق أقدم وأشهر الشوارع الثقافية في الوطن العربي؛ ويرجع تاريخه إلى نحو تسعة قرون؛ حيث يعود إلى أواخر العصر العباسي، ومنذ نشأته اشتهر بازدهار مكتباته واحتضن أعرق المؤسسات الثقافية
ويشهد الشارع ليلاً نشاطات فنية جميلة، لاسيما أثناء مهرجان صيف عمان وخلال شهر رمضان، حيث يكون هناك زخم كبير في الفعاليات الثقافية والفنية، كالأمسيات الموسيقية والشعرية، وعروض الفرق الشعبية والتراثية المحلية والعربية بجانب المعارض الفنية.
وبعد اختيار الزرقاء مدينة للثقافة الأردنية عام 2010، تم إنشاء شارع ثقافي آخر يحمل الاسم نفسه على غرار نظيره في عمان، لكنه لم يشهد أياً من الأنشطة الثقافية والفنية، حيث ظلت تقام في مركز الملك عبد الله الثاني الثقافي الملاصق للشارع.
حفرة الكتب ومئتا سوق مغربية للكتب المستعملة
إذا زرتم المملكة المغربية فلا يفوتكم زيارة شوارعها وساحاتها الثقافية، فهي تضم أكثر من مئتي سوق للكتب القديمة والمستعملة تحتوي على أرشيف المجلات النادرة، بأسعار زهيدة، إضافة إلى الكتب المدرسية والمقررات الجامعية. ويزور هذه الأسواق أعداد كبيرة من الطلاب الجامعيين والباحثين والشعراء والأدباء والمثقفين.
ويعدّ سوق الليدو في مدينة فاس الذي يطلق عليه أهل المدينة "حفرة الكتب"، أشهر شوارع المغرب الثقافية، ويعود تاريخ إنشائه إلى عام 1991، وهو يقع في مكان قريب من جامعة محمد بن عبد الله، لذا أصبح قِبلة الطلاب والباحثين والأساتذة وعشاق القراءة وكبار السن من محبي التنقيب عن الكتب القديمة والمخطوطات وكنوز المعرفة.
سوق الليدو بفاس
ولا ننسى سوق البحيرة، أشهر سوق للكتب القديمة في الدار البيضاء، الذي يقع خلف أسوار المدينة القديمة، والذي يستقطب المثقفين والكتاب، وفيه تباع الكتب الثقافية والتاريخية والسياسية والدينية وروايات ودواوين شعرية ومقررات مدرسية لكافة المستويات.
ومن أبرز أسواق الكتب المغربية سوق باب دكالة في مراكش، وسوقي باب الأحد والمدينة القديمة في العاصمة الرباط، وهناك أيضاً سوق لقريعة بدرب السلطان وسوق حى الحسنين وأسواق درب غلف والمعاريف وسيدى البرنوصي وأكدال وساحة السراغنة التي يقام بها سنوياً معرضاً خاصاً لبيع الكتب المستعملة، يعرض فيه أكثر من 300 ألف عنوان .
متنفس القراء في تونس
يعد شارع نهج الدباغين بالعاصمة التونسية، والواقع في قلب الحي الأوروبي، أشهر الشوارع الثقافية المغاربية. الشارع شيدته فرنسا لدباغة جلود الحيوانات إبان استعمارها لتونس، وعقب استقلال تونس عام 1956، بدأ تحوله إلى مكان يتجمع فيه باعة الكتب القديمة، وافتتحت فيه عدد من المكتبات.
واليوم أصبح نهج الدباغين سوقاً شعبياً لبيع الكتب والمجلات القديمة، وقِبلة للمثقفين والأدباء والطلبة وعشاق القراءة والنُّخبة الفكرية في تونس وأشهر ضيوف الثقافة من العرب والأجانب، ومتنفّساً للقراء هرباً من غلاء أسعار الكتب في المكتبات العامّة، ووجهة للبحث عن الكتب النادرة أو الممنوعة.
وتضم العاصمة التونسية أيضاً نهج إنجلترا، الذي يقع في وسط العاصمة قبالة ساحة المنجي بالي، بجوار محطة قطار برشلونة، وينطلق من ساحة برشلونة وينتهي عند نهج الجزيرة، ويوجد به متحف البريد، وهو يشتهر بوجود محلات بيع الكتب القديمة وبه مكتبة نهج إنجلترا، أشهر وأقدم المكتبات في تونس.
في هذا الشارع الثقافي، نجد مكتبات كبيرة لبيع الكتب القديمة والمستعملة باستثناء مكتبة واحدة تبيع الكتب الجديدة بأثمان معقولة، وتتراوح أسعار الكتب في النهج بين 3 دينارات وحتى 50 دينار تونسي.
أول كتاب تمّ طبعه في دمشق
في دمشق يوجد شارع الحلبوني، أحد أقدم شوارع العاصمة السورية، الذي يعتقد بعض المؤرخين أنه يعود إلى العهد العثماني، وهو يمتد من محطة الحجاز إلى مشفى التوليد في حي البرامكة، وفي هذا الشارع الثقافي صدر أول كتاب تمّ طبعه في دمشق.
ويشتهر الحلبوني ببسطات بيع الكتب المستعملة بأسعار رمزية، ومكتبات الأرصفة، ودور النشر والطباعة، ومستلزمات صناعة النشر وتجارة الورق، بالإضافة إلى بعض الخطاطين، مما جعله من المناطق الفكرية والأدبية المهمة في دمشق العاصمة.
وهناك نجد تجمعاً لدور النشر والمكتبات، ومختلف الكتب المتعلقة بالدين، والشعر، والأدب، والعلم، والسياسة، وحتى الخط، واللون، والفن.
إغلاق واحة المثقفين بالخرطوم
حتى وقت قريب كانت ساحة إتني الشهيرة بالعاصمة السودانية الخرطوم، واحة للمثقفين وملتقى الأدباء والفنانين التشكيليين والموسيقيين، ومكاناً ذا طابع حضاري جميل به الكثير من الطيور والحمام، وأحد أشهر معالم العاصمة.
وكانت الساحة تشهد إقامة معارض للكتب المستعملة ومنحوتات وجداريات، وأعمال فنية تشكيلية، وأنشطة سياسية وإبداعية. ولسنوات كان يلتقي فيها المثقفون وطلاب الجامعات وأعضاء الأحزاب السياسية، حتى تم إغلاقها العام الماضي، بعدما وضع ملاكها إعلاناً تحذيرياً يمنع التجمع بها والتواجد وإقامة الأنشطة.
افتتاح شوارع ثقافية بالخليج
في الخليج العربي يوجد عدد من الشوارع الثقافية الجديدة؛ فقبل عامين افتتحت المؤسسة العامة للحي الثقافي كتارا، شارع ابن الريب الثقافي الذي يقع خلف المسرح المكشوف بالدوحة، بالتعاون مع ملتقى الناشرين والموزعين القطريين بمشاركة 15 دار نشر ومكتبة، حيث يستقطب الكتاب والمثقفين والمفكرين وعشاق الكتب ومحبي المعرفة.
شارع ابن الريب الثقافي
ويشتهر حي المحمدية في الرياض بضمّه عدداً كبيراً من مكتبات بيع واستعارة الكتب وخدمات الطلاب والدارسين والباحثين، ومحلات بيع أدوات الكتابة والمدارس. ومؤخراً تم افتتاح الشارع الثقافي بشارع التحلية، وسط مدينة الرياض، والذي يضم مكتبات متنقلة، وتعرض به أعمال رائدة للعديد من الفنانين التشكيليين ورسوم الكاريكاتير وأعمال النحت على الحجارة، والنحاس والحديد والخشب، وعدد من الفعاليات المميزة.
فعالية الشارع الثقافي في الرياض
كما شهدت منطقة جازان السعودية حديثاً، تنفيذ مشروع الشارع الثقافي بالواجهة البحرية الشمالية، والذي يمتد إلى 450 متراً، ويضم مجسماتٍ وأماكن مخصصة للرسامين والإضاءات الخاصة، وأماكن للجلوس.
وفي اليمن تنتشر على أرصفة ميدان التحرير وسط العاصمة صنعاء، أمهات الكتب العربية والعالمية، وهي تستقطب المثقفين والباحثين، وهناك ينتشر البائعة الجائلون المثقفون، الذين يبيعون أمهات الكتب والمجالات القديمة والجديدة العربية منها والأجنبية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...