مطلع الشهر الجاري، اتخذ بابا الفاتيكان، البابا فرنسيس، قراراً غير مسبوق يقضي بحلّ قيادة منظمة "فرسان مالطا" وبإجراء تغييرات عديدة في دستورها بعد نزاعات بين قادتها ظهرت للعلن منذ عام 2016.
ومنذ نشأتها، ارتبطت هذه الجماعة بالشرق الأوسط والعالمين العربي والإسلامي. واتُهمت مراراً وتكراراً بإثارة القلاقل في دول عربية عدة، بينها مصر والعراق.
تُعرّف هذه المنظمة بأنها "كاثوليكية علمانية ذات طبيعة عسكرية" وأيضاً تشتهر كـ"جمعية خيرية" لها أنشطة واسعة، إذ توظِّف أكثر من 45 ألف شخص في جميع أنحاء العالم، علاوة على ما يناهز 100 ألف متطوع. وتبلغ كلفة أعمالها الخيرية نحو 2.3 مليار دولار.
للمفارقة أزّمت العلاقة بين قادتها شُحنةُ "واقيات ذكرية" وزعها أحد مشاريعها في ميانمار، في مخالفة صارخة للتعاليم الكاثوليكية. وانتهت بإعادتها إلى إشراف الفاتيكان المباشر.
ماذا نعرف عنها؟
تشتهر الجماعة تاريخياً بعدة تسميات منها "الهوسبتاليين" و"فرسان الإسبتارية" و"مجموعة القديس يوحنا المعمدان" و"فرسان القديس يوحنا". لكن أشهرها هو "فرسان مالطا". وقد تأسست في القدس بداية القرن الحادي عشر (عام 1048، وفي بعض الروايات عام 1099)، بالأساس كمجموعة للضيافة في القدس أي استقبال ومساعدة الحجاج الزائرين للأراضي المقدسة.
تحتفظ بوضع قانوني ودبلوماسي فريد عن أي منظمة خيرية في العالم وتُعامل كـ"دولة"… ماذا نعرف عن "فرسان مالطا" التي انفرط عقدها وأُعيدت لقبضة الفاتيكان بسبب "واقيات ذكرية"؟
ومع تعاقب التطورات التي شهدتها المنطقة، بعد نحو 100 عام من تأسيسها، حمل أفرادها السلاح بدايةً للدفاع عن المستشفيات التي تديرها الجماعة، ثم لحماية الحجاج المسيحيين و"الإيمان المسيحي" بوجه عام مع تقديم الدعم لـ"الفقراء والمرضى" كـ"خدمة لله". ومنذ تلك الآونة، اتخذت الصليب ذا الرؤوس الثمانية رمزاً لها حتى الآن.
إثر سيطرة جيوش المماليك على عكا، عام 1291، اضطرت الجماعة إلى الانتقال إلى قبرص حيث استمرت في بناء المشافي وزيادة ممتلكاتها من الأراضي. لم يدم لها الحال في قبرص، فانتقلت عام 1310 إلى جزيرة رودس حيث أنشأت أسطولها الضخم لغرض "الدفاع عن المسيحيين في الحروب".
وخلال هذه الفترة، حصلت فرسان مالطا على استقلالها بأمر بابوي، وشرعت في نشر جيوشها وسفرائها في دول العالم، بعدما ضمّت إليها المزيد من الأعضاء والأتباع لا سيّما الأوروبيين.
مرة أخرى، وجدت الجماعة نفسها مضطرة للترحال بعد أن سيطر العثمانيون على رودس في عهد السلطان سليمان القانوني. اتجهت آنذاك، عام 1530، إلى جزيرة مالطا التي اقترن اسم الجماعة باسمها، حيث أسست دولة عاصمتها فاليتا، وهي عاصمة مالطا إلى اليوم، وتمركز أسطولها العسكري الهائل هناك، ولعب دوراً مهماً في المنطقة لقرون.
برغم هزيمة الجماعة أمام العثمانيين في رودس، تمكنت في 8 أيلول/ سبتمبر عام 1565، في فك حصار العثمانيين لمالطا. مثّلت تلك الفترة ذروة العصر الذهبي للجماعة. ولا تزال الجزيرة تحتفل بهذه المناسبة في كل عام.
إلى ذلك، لم يُكتب الاستقرار للجماعة في مالطا طويلاً، علماً أنهم حصلوا عليها بأمر من بابا الفاتيكان آنذاك، كليمنس السابع، وبمباركة الإمبراطور الإسباني حينها شارل الخامس. طردهم نابليون بونابرت بعد سيطرته على الجزيرة أثناء الحملة الفرنسية على مصر عام 1798.
حينذاك لم يجد فرسان مالطا سوى سانت بطرسبرغ الروسية ليلجأوا إليها عام 1799، ويعيشوا في حماية القيصر بولس الأول حتى قضى في عام 1801.
وفي عام 1834، كان الترحال الأخير للجماعة التي استقرّت أخيراً في روما، وعادت للتركيز على العمل الخيري، وكان لها دور مهم في تطبيب الجرحى في الحربين العالميتين الأولى والثانية.
"دولة بلا شعب ولا أرض"
على الرغم من أنه لم تعد تمتلك أراضي، وليس لديها شعب تحكمه -كما يتطلب القانون الدولي لمفهوم الدولة- تتمتع فرسان مالطا بوضع دبلوماسي وقانوني فريد يميزها عن أي جمعية خيرية أخرى في العالم.
تأسست "فرسان مالطا" بالقدس في القرن 11 لاستقبال ومساعدة الحجاج المسيحيين قبل أن يحمل أعضاؤها السلاح لـ"حماية الإيمان المسيحي" وتُتهم بمناهضة الإسلام وإثارة العنف والفتن في دول عربية بينها مصر والعراق
تعتبر الجماعة دولةً ذات سيادة منذ القرن التاسع عشر، إذ يحق لها إصدار جوازات سفر خاصة لأعضائها (بجانب جوازات سفر دولهم الأصلية) الذين يناهز عددهم راهناً 13500، ولديها سفارات في نحو 100 دولة. كما أنها تحظى بصفة عضو مراقب دائم في الأمم المتحدة، وتأخذ قيادتها هيئة الحكومة، فهي مكونة من 13 عضواً يُعدّون وزراء، ويترأسهم حاكم أعلى يُلقّب بـ"السيد الأكبر" (غراند ماستر). لهذا، يُوصف مقر الجماعة في روما بأنه "أصغر دولة في العالم" و"الدولة الوحيدة بلا شعب أو أرض".
وشمل التعديل الأخير في "دستور" الجماعة، كما تناولته وسائل إعلام كاثوليكية، تعديل تعريف الجماعة التي اعتاد الفاتيكان اعتبارها جماعةً دينية وعلمانية في الوقت نفسه. فمن آلاف الأعضاء فيها، هناك 50 رجل دين فقط. لكن التعديل يمنح الغلبة للطابع الديني، ويربط قياداتها الدينية مباشرة ببابا الفاتيكان.
وكانت قيادات الجماعة ترفض التعديل خشية أن تفقد تفردها واستقلاليتها ويصبح شأنها شأن أي جماعة خيرية تابعة للفاتيكان.
من التغييرات الأخرى التي أدخلها البابا الإصلاحي لتجديد الدماء في الجماعة أنه لم تعد "الجذور النبيلة" شرطاً إلزامياً في قيادة الجماعة، كما لن يتولى "السيد الأكبر" المنصب "مدى الحياة"، وإنما لعشر سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة فقط، وعليه أن يستقيل إذا بلغ 85 عاماً خلال ولايته.
وحتى عقد جمعية عامة لـ"فرسان مالطا" في كانون الثاني/يناير 2023، لانتخاب قيادة جديدة، عيّن بابا الفاتيكان قيادةً مؤقتة لها.
ارتباط "شائن" بالشرق
منذ تأسيسها حتى الآن، ارتبط اسم "فرسان مالطا" باتهامات متكررة بالضغينة على الإسلام وإثارة القلاقل وارتكاب العنف في دول عربية. لعل الأمر مرتبط بالدور الذي لعبته الجماعة إبّان الحروب الصليبية على المشرق. وإن كان متفهماً نسبياً بالنظر إلى اعتبارها منظمة ساعية إلى "حماية الإيمان المسيحي"، وأن هذه الحروب كانت بين المسيحيين والمسلمين.
تعتبر الجماعة الكاثوليكية دولةً ذات سيادة منذ القرن 19. يحق لها إصدار جوازات سفر خاصة لأعضائها (بجانب جوازات سفر دولهم الأصلية)، ولديها سفارات في نحو 100 دولة. كما تحظى بصفة عضو مراقب دائم في الأمم المتحدة
في التاريخ الحديث، أثناء الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، اتُّهِمت الجماعة بـ"اختراق قيادة العمليات الخاصة المشتركة للجيش الأمريكي"، كما ارتبط اسمها بشركة "بلاك ووتر" الأمريكية للخدمات الأمنية والعسكرية، التي اقترن اسمها بانتهاك حقوق المدنيين العراقيين أثناء الغزو الأمريكي لبغداد.
ذهب البعض لأبعد من ذلك، واتهمها بالتأثير على السياسة الأمريكية تجاه كلٍّ من العراق وأفغانستان، وأحياناً بالتأثير على السياسة الدولية في جميع أنحاء العالم.
وفي عام 2007، نفت "فرسان مالطا" في بيان "أي تورط عسكري في العراق"، رافضةً جميع الاتهامات الموجهة إليها في وسائل إعلام عربية ومشددةً على أنها جهة "محايدة وغير متحيزة وغير سياسية".
وأضافت: "تعلن فرسان مالطا بشكل قاطع أن الادعاءات بوجود أي مشاركة عسكرية من قبل المنظمة في العراق أو في أي بلد آخر لا أساس لها تماماً. هذه الادعاءات، بالإضافة إلى أنها تثير قلقاً عميقاً لأنها لا أساس لها من الصحة إطلاقاً، تمسّ الدور المحوري لمؤسسة إنسانية هدفها الوحيد، ببرامجها الطبية والإنسانية الحصرية، مساعدة الفئاتِ الأضعف والأكثر حرماناً في 120 دولة حول العالم".
وعقب ثورة 25 كانون الثاني/يناير عام 2011 في مصر، أُثيرت مزاعم بدور مشبوه لسفارة "فرسان مالطا" في أحداث العنف التي شهدتها البلاد حتى عام 2014.
وفي بلاغات رسمية للنائب العام المصري آنذاك، هشام بركات، اتُّهمت السفارة بـ"الإخلال بالنظام العام، وتعريض سلامة المجتمع وأمنه للخطر، إضافة إلى ارتكاب جرائم القتل العمد (لمتظاهرين بعد دهس عدد منهم بسيارات ذات لوحات دبلوماسية)، والشروع فيه بحق المواطنين والشرطة، وإخفاء وحيازة أسلحة مختلفة داخل مقرها".
استندت البلاغات إلى شهادة أدلى بها قائد الحرس الجمهوري الأسبق، أيمن فهيم، في ما عُرف بـ"قضية القرن"، التي اتُّهم فيها الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، وآخرون بـ"قتل المتظاهرين" خلال ما يُعرف بـ"جمعة الغضب"، في 28 كانون الثاني/يناير 2011. وألمح فيها إلى أن السيارتين الدبلوماسيتين اللتين جرى رصدهما خلال دهسهما لمتظاهرين في محيط ميدان التحرير، ربما كانتا بقيادة أعضاء من "سفارة فرسان مالطا".
ونفت فرسان مالطا إثر ذاك مراراً وتكراراً الاتهاماتِ بارتكاب أعمال عنف أو التدخل في السياسة في مصر أو أي مكان آخر من العالم. على النقيض من ذلك، تُدير الجماعة بانتظام خدمات صحية واجتماعية في العديد من الدول العربية بما في ذلك السودان ولبنان وفلسطين، علاوة على الاهتمام باللاجئين من العراق وسوريا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...