في 21 من أغسطس/آب 2017، أثار شاب يدعى موسى بلغيث يعمل مؤذناً، وينحدر من بلدة حجاج شرق مستغانم الجزائرية، موجة عارمة من السخط والغضب في الشارع الجزائري على إثر ظهوره في مقطع مصور يرتدي فيه ثياباً غريبة مبرقعة بالألوان، متحدثاً عن تجربته مع "الطريقة الكركرية" التي بدأها قبل 11 سنة، ومعلناً مبايعة شيخها المؤسس "سيدي محمد فوزي الكركري"، مُدعياً أن هذا المذهب يدعو إلى ما أسماه "التجديد"، واصفاً الكركري بـ "مُجدد هذا العصر".
تزامن مع انتشار الفيديو ظهور جماعات في مدينة مستغانم غرب الجزائر، يمارسون طقوساً غريبة داخل أحد المساجد، ويرقصون. تفاعل رواد وسائل التواصل الاجتماعي حينها، بين السخرية ووصفهم بالمهرجين ومهاجمتهم واتهامهم بالدجل والسحر، الأمر الذي دعا المرجعية الدينية في البلاد إلى اعتبارهم "خارجين على الملة والسُنة". حتى أعيان الطرق الصوفية كالجزولية والقادرية والشاذلية، أعلنوا براءتهم من هؤلاء "البدعيين" حسب وصفهم، مُنكرين "صوفيتهم".
ولكون مؤسس هذه الطريقة "الكركري" مغربياً، فقد اعتبر البعض أن دخوله إلى الجزائر "مؤامرةً" لتهديد الوفاق والإجماع الديني في البلاد ومحاولة ضربه. وصارت الطريقة تعرف اليوم وجوداً خجولاً وشبه سري، نتيجة الملاحقة والأحكام القضائية والشرعية التي صدرت بحق أتباعها.
كان لاجتماعه مؤسس الطريقة بعمه (حسن الكركري)، بالغ الأثر في تصوفه و"توبته". فحلق شعر رأسه، وأطلق لحيته، وتبرع بملابسه تزهداً وأحرق شهاداته الدراسية، على قلتها
الكركري ومبدأ "المشاهدة"
هو أبو عبد الله محمد فوزي الكركري، والكركري هو اسم عائلته الذي أصبح رمزاً لطريقته الصوفية "الكركرية"، وأصل هذه التسمية يعود إلى جبل كركر بأفسو ويدعي شيوخها أنهم من العارفين وأهل العرفان والنور الإلهي. والأقطاب الـ48، مرجعين نسبهم بداية من جبريل إلى النبي محمد.
أول شيوخها هو الشيخ أحمد العلوي المستغانمي المتوفى سنة 1976. وبالتالي طرح الباحث الجزائري محمد بن بريكة في تصريح لموقع الحوار الجزائري في 22 أغسطس/آب 2017، أن أصل هذه الطريقة هو جزائري محض، وأنها "طريقة سُنية جزائرية لا غبار عليها"، وأنها انتقلت من الجزائر إلى المغرب على عكس ما يشاع عنها.
ولد فوزي سنة 1974، في مدينة تمسمان الريفية المغربية. نشأته عادية، تدرج في تعليمه حتى نال الشهادة الثانوية التي اكتفى بها. ليقوم بالتجوال والترحال في نواحي المغرب، ودام ترحاله عشرة أعوام قبل أن يعود إلى مسقط رأسه. كان لاجتماعه بعمه (حسن الكركري) في ليلة عيد الفطر غداة عودته، بالغ الأثر في تصوفه و"توبته". فحلق شعر رأسه، وأطلق لحيته، وتبرع بملابسه تزهداً وأحرق شهاداته الدراسية، على قلتها.
طلب منه عمه العودة إلى مدينة العروي شمال المغرب في إقليم الناظور، وانتظار قدومه لتلقي ما يُسمى الوُرّد وهو دستور الطريقة. وبعد خلوة دامت عامين مع عمه، غدا فوزي شيخاً للزاوية من بعده سنة 2006.
يقوم مذهبه الصوفي على مبدأ "المشاهدة"، ويقول فوزي عنه: "طريقتنا طريقة المشاهدة، من لم يُشاهد لست بشيخه وليس بمريدي". وهي تجمع بين السلوك الزاهد والمترفع عن متاع الحياة، و"الجذب" القائم على التوحد في محبة الخالق. فـ"الباطن لديه مع الربوبية، والظاهر مع آداب العبودية". وهي لا تخرج عن السياق العام للنظرة المتصوفة عند سائر الفرق الأخرى.
لكن أتباعه يذكرون فضله في تسهيل طرق المشاهدة للمريد، ويعتبرون تلك إحدى كراماته. والقصد معرفة الله بأسمائه وتوحيد صفاته، وبعد الخلوة "لزوم قبر الحياة للتجرد من الحس والسفر إلى المعنى وفق زعم الشيخ" يتحصل له - أي المريد- سر الجمع بمعاني الأولية والأخروية للكون وخالقه، الذي يوازي لديه مبدأ "الحضرة"، وهو عبارة عن تجمع لعدد من الأتباع، يرددون فيه ابتهالات دينية مصحوبة بالرقص والدوران مرددين تسابيح غير مفهومة. وبالتالي، تتحقق لهم السعادة.
جمع فوزي ما أراد قوله عن مذهبه في مفردات قليلة لا تخلو من السجع والمزينات اللغوية التي تدعي العمق الفلسفي محاولاً تقديم فهم جديد للشريعة كما يرى أتباعه، وقد وضع بعضها في أشعاره الصوفية مطالباً مريديه باحتقار الذات لرؤية جلال الحقيقة، ويقول في ذلك: "استحقر نفسك، وعظّم غيرك فأفهم".
"أن تعبد الله كأنك تراه"
الكركرية التي تتخذ التكنولوجيا الحديثة بامتلاكها موقعاً إلكترونياً بثلاث لغات (العربية- الفرنسية- الإنجليزية)، وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي. إضافةً إلى تسجيل المقاطع المصورة لبث أفكارها الصوفية التي تقول إن أهدافها "تربوية محضة"، رافضة اعتبار نفسها "فرقة دينية جديدة" كما يصفها منتقدوها. إلى "تحقيق مقام الإحسان حتى يتمكنوا من الجمع بين العبادة والشهادة، عملاً بالحديث النبوي: ‘أن تعبد الله كأنك تراه’".
يرتدون أزياء مبرقعة بالألوان المتعددة كالأخضر والأصفر والأحمر، اقتداءً بالخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب، الذي كان يخيط رقعة من القماش على ثوبه المهترئ كلما تقطّع، وفقاً لزعمهم
وأيضاً، بين "السلوك والمعرفة"، فحياتهم كلها لله، لذلك تدعو أتباعها إلى الالتزام بالكتاب والسُنة النبوية. وهي طريقة تجمع بين مختلف مشارب الصوفية ومدارسها. وتضيف الطريقة في هذا السياق:" لأننا نؤمن أن وراء كل فعل من أفعال الشريعة المطهرة سراً ملكوتياً وقبضة نورانية تجمع العبد على مولاه وتنسيه كل ما هو سواه... ولكن لا يتم ذلك إلا بإتباع منهج الشيخ المربي الذي يصف الدواء المناسب لكل سالك".
وهم يرتدون أزياء مبرقعة بالألوان المتعددة كالأخضر والأصفر والأحمر، اقتداءً بالخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب، الذي كان يخيط رقعة من القماش على ثوبه المهترئ كلما تقطّع، وفقاً لزعمهم. تبالغ الكركرية في وصف كثرة أتباعها، سواء داخل الجزائر وخارجها. ويقولون إنهم وصلوا حتى أستراليا. ويلحقون ذكر شيخهم محمد فوزي بعبارة "رضي الله عنه"، رافعين مقام شيخهم لمقامة الصحابة. أما مقرها فيقع في مدينة العروي ، ولها مريدون في عدة دول حتى غير الناطقة بالعربية.
حرية شخصية أم تهويم إعلامي؟
خلافاً للنظرة الساخطة الرافضة للكركرية، كان البعض أقل توتراً وتطرفاً معتبرين المسألة لا تتعدى كونها حقاً وحرية في الممارسة الدينية. وأنه يجب احترامها، فهي لا تحمل أي وجه من وجوه "التطرف الخطر". بل تمثل نوعاً من التعدد الثقافي المطلوب لكسر الاحتكار والنمطية الطائفية الموجودة في الجزائر.
وأوضحت حدة حزام مديرة تحرير صحيفة الفجر الجزائرية في تصريح لقناة DW الألمانية خلال تحقيق أعدته فريدة تشامقجي، أن الاهتمام الذي حظيت فيه الكركرية خصوصاً من قبل فئة الشباب، يعود لكونهم من رواد مواقع التواصل الاجتماعي أولاً، وبسبب موجة التدين التي تغزو المجتمع، وتجعل من الكركرية لغرابتها وصورتها المتمردة محط اهتمامهم.
صحيفة جزائرية واسعة الانتشار: "ظهور الكركرية يثير الشكوك"، خاصة أن الجزائر تشهد في السنوات الأخيرة انتشاراً لطوائف ونِحَل دينية كالبهائية والقاديانية، وازدياداً مُطرداً في حركات التنصير وجمعياته المختلفة
وبرأيها، "هنالك فراغ في الساحة الثقافية، مما جعل الناس تهتم بنوع من الفضول للطريقة"، متسائلةً عن إمكانية وجود حملة تشويش على الرأي العام باستخدام الكركرية، قائلة: "ربما هناك في السلطة من شجع على توجيه النقاش العام الإعلامي وفي المواقع إلى موضوع آخر غير الصراع الدائر في هرم السلطة والحديث عن غياب الرئيس".
بينما يؤكد رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، عبد الله غلام الله، في حديث لدويتشة فيلله أن "الجزائر التي أصبحت أرضاً خصبة لمختلف الطوائف والفرق التي تريد تشتيت المجتمع من مرجعيته الدينية الوطنية"، وأن "السبيل الوحيد للتصدي ومجابهة الطوائف الوافدة هي المقاومة الاجتماعية". وبالتالي، حماية المجتمع نفسه بنفسه ممن يريدون ممارسة التأثير الروحي والمعنوي عليه. ودعا إلى عدم إعطاء أهمية كبيرة للكركرية بـ"التهويل الإعلامي"، كونها تمارس نوعاً من الاستعراض الفلكلوري لا أكثر.
ويرى آخرون أن "التخاذل والتراخي" من قبل السّلطات العُليا في البلاد في معالجة ملف الكركرية، الهدف منه إبعاد الشعب الجزائري عن قضايا الاقتصاد المتعثر والتقشّف وغلاء الأسعار والضرائب المتجددة. وأن اللغط الذي جرى حولها قد يكون مرتبطاً بملف الانتخابات الرئاسية التي أصبحت حديث الطبقة السّياسية حتى قبل موعدها المُقرّر سنة 2019. فالكركرية استطاعت أن تصنع الحدث "إعلامياً" وتديره عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وتُثير الجدل بين النُخب المُثقّفة وداخل المؤسسة الدينية والسياسية في البلاد.
أداة خارجية ومؤامرة:
مقابل الآراء السابقة، نجد أن البعض من أمثال شيخ الطريقة القادرية، حسان حساني من خلال تصريح لصحيفة الشروق الجزائرية في تقرير منشور بتاريخ 22أغسطس/آب 2017، يتهم الكركرية صراحةً، بتنفيذ "أجندات خارجية"، وبث البلبلة والفوضى في المجتمع الجزائري، معتبراً الطريقة "مجرد أداة أجنبية". بينما طالب فرع مستغانم لجمعية العلماء المسلمين بالجزائر بالتدخل لوقف نشاط أتباعها.
فحسب الصحيفة الجزائرية، فإن "ظهور الكركرية يثير الشكوك"، خاصة أن الجزائر تشهد في السنوات الأخيرة انتشاراً لطوائف ونِحَل دينية كالبهائية والقاديانية، وازدياداً مُطرداً في حركات التنصير وجمعياته المختلفة. أصحاب هذا الرأي المتطرف يذهبون إلى اعتبار الكركرية أحد روافِد الأحمدية، و"فقاعة إعلامية" وظفت لتحقيق مآرب سياسية خارجية، ويلمحون بهذه الجهات إلى الجار المغربي في إطار الحرب الباردة المعلنة بين البلدين، مطالبين الدولة بالتدخل "لإنهاء هذه المهزلة والمؤامرة" كما يزعمون، ومراجعة السياسات الحكومية في ضوء مصلحة الشعب الجزائري، والحفاظ على هويته الدينية الواحدة.
ومن هذه الأصوات المنددة، الشيخ مأمون القاسيمي، الذي دعا في تصريح للشروق الجزائرية السابق الذكر، إلى سد الأبواب على المشاريع الطائفية الوافدة، وعلى رأسها الكركرية، مشدداً على "خطورتها على المرجعية الدينية الوطنية ووحدة الأمة الجامعة"، وعلى أهمية تحصين المجتمع وتنسيق الجهود بين الدولة والمجتمع الأهلي من خلال المؤسسات المعنية لنشر الوعي ضد ما أسماه "التهديدات الطائفية" التي توظفها "أيادٍ أجنبية" لضرب استقرار ووحدة المجتمع.
وتقول صحيفة الشروق في التحقيق نفسه، إنه تم التواصل مع شباب وبعض وجهاء منطقة حجاج، الذين نفوا نفياً تاماً معرفتهم بهذه الطريقة، مؤكدين أنهم "لم يلمحوا معتنقيها عبر تراب بلدية حجاج"، وتذكر الصحيفة أن أئمة المنطقة حذروا شبابها "من الانسياق وراء هذه الطرق الخرافية التي تهدف إلى تقديس أشخاص على حساب العقيدة والسنة النبوية وأكدوا أن لا وساطة بين العبد وربه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 4 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ اسبوعينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.