في آب/ أغسطس 2021، ألقت الشرطة السودانية في ولاية الجزيرة، جنوب شرق العاصمة الخرطوم، القبض على سيدة تدّعي النبوة مع عددٍ من أتباعها الذين هددوا المشككين في نبوّتها المزعومة".
انتهت القصة باعتقال الشرطة السودانية لتلك النبيّة الأنثى، ومريديها، واصفةً إياهم بالشبكة الإجرامية المتخصصة في الدجل والشعوذة.
هذه آخر حادثة لادّعاء النبوة في السودان، ولن تكون الأخيرة بالتأكيد، لجهة أن البلاد ظلت غارقةً منذ زمن بعيد وبشكل متواصل ومستمر، بمدّعي النبوة والمهدوية والعيسوية، ولم تتوقف الظاهرة بالرغم من ملاحقة معظمهم، والتنكيل بهم أو سجنهم أو إعدامهم.
ويقول الباحث والمؤلف، عبد الله الفكي البشير، في ورقة بحثية بعنوان قراءة في أحوال المزاج الديني في السوداني: "إن ادّعاء النبوة في السودان يعود إلى مفاهيم نزول النبي عيسى، وارتباطه بمعارضة الاستعمار الإنكليزي. ومع صواب هذا الرأي في بعض جوانبه، إلاّ أنّ استمرار الظاهرة، بعد خروج الاستعمار، وابتعادنا عن وقت شيوع مفاهيم النبي عيسى، وحتى تاريخ اليوم، يجعل للأمر أبعاداً وظروفاً متجددةً وأسباباً أعمق، ولهذا فهي ظاهرة تحتاج إلى مزيد من الدراسة والتنقيب والفحص.
"إنّني هِبَة البارئ، المهدي المنتظر، المهدي أي التائب إلى ربّه، والنبي الطائر، المؤيَّد بنار اليشب وبمذراة الحياة والطاقة، وريث السيّد المسيح عليه السلام، المأذون بإحياء الموتى والطيران وفعل الخوارق، من سيؤمُّ المسلمين في المسجد الأقصى"
ويضيف البشير: لقد ظللت أتابع وأحاول رصد ادّعاء النبوة في السودان في المصادر والمراجع منذ مملكة الفونج (1504م-1821م)، وحتى تاريخ اليوم. فالإحصائيات عندي قاربت الأربعين نبيّاً، ممن اطّلعت على توثيق لهم في المصادر والمراجع، ولعل هذا العدد يحمل مؤشرات ودلالات ومضامين عدة، أولها أن الظاهرة قديمة على مستوى العالم، وأن كثيراً من دول العالم شهدت أناساً ادّعوا النبوة، بيد أنّ عدد الأنبياء في السودان قارب الثلاثين"*1.
أنبياء السودان المعاصرون
رصد الباحث عادل عبد العاطي، في ورقة بعنوان " أسماء الذين ادّعوا المهدية والنبوة العيسوية وغيرها في تاريخ السودان" نحو 28 اسماً من مدّعي النبوة والمهدوية والعيسوية في السودان على مدار قرون.
وأشار عبد العاطي في رصده تحت عنوان جانبي موسوم بـ"القائمة غير الكاملة لأنبياء ومهديّي السودان المعاصرين"، إلى عدد من هؤلاء ما بين عامي 2000 و2021، منهم نبي آخر الزمان، المهندس الزراعي محمد (الاسم الأصلي مجهول)، الذي اعلن عن دعوته عام 2005، وقد تم إبعاده من السودان إلى مصر مرتين، وصودر جواز سفره لاحقاً، وسليمان أبو القاسم موسى الذي ادّعى أنه النبي عيسى والمهدي المنتظر، وقد تم سجنه في عام 2012، وله موقع على الإنترنت موسوم بـ"سلسلة منشورات المسيح المهدي المحمدي سليمان أبو القاسم موسى"، أعقبه رجل يُدعى محمد محمود، ادّعى على صفحته في فيسبوك، أنه رسول الله والمهدي المنتظر، قبل أن يتوقف عن الكتابة عام 2018، كما ظهر مهدى ونبيّ آخر اسمه عبد الله كورينا، عام 2020.
النبي الطائر يحيى بن زكريا
"إنّني هِبَة البارئ، المهدي المنتظر، المهدي أي التائب إلى ربّه، والنبي الطائر، المؤيَّد بنار اليشب وبمذراة الحياة والطاقة، وريث السيّد المسيح عليه السلام، المأذون بإحياء الموتى والطيران وفعل الخوارق، من سيؤمُّ المسلمين في المسجد الأقصى"؛ هذا ما كتبه النبي الأبرز بين هؤلاء، الكاتب والروائي الشهير، محسن خالد، الذي ادّعى أنه النبي يحيى بن زكريا، وأنه المهدى المنتظر، وأنه النبي الطائر، وقد أشار إلى ذلك في منشور له في موقع سودانيز أون لاين: "نعم أنا نبيّ من الصالحين وكل من يستهزئ بهذا البوست، ويلعب شيطان من المُنْظرين، هذا هو الفرق، واسمي الذي أسماني به ربي الرحمن هو يحيى، واسمي إلى أبي عمران هو يحيى بن زكريا بن محمد بن عاصم بن الطيب بن عِمران الذي رأى ربه، والمعني برؤية الرحمن في سورتي النجم والتكوير وليس أي بشريّ آخر".
ظهور مُدّعي النبوة والمهدوية والعيسوية في السودان، مرتبط بفترات التحولات والأزمات، فمع اضمحلال السلطنة الزرقاء (1504-1821)، تكاثر ظهور هؤلاء وأبرزهم الشيخ حمد النحلان الترابي، جد حسن عبد الله الترابي أحد قادة جماعة الإخوان البارزين
أنبياء الأزمات
بالنسبة إلى الباحث في علم النفس، عبد الهادي عمر، فإنّ ادّعاء النبوة ظاهرة تاريخية وراهنة ولن تتوقف، لكنها في الغالب تتكاثر في الأوقات التي تحدث فيها تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية كبرى، إذ تصطدم الشعوب بالتغيّرات الناجمة عن تلك التحولات، وفي سبيل التعويض النفسي تكون مهيّأةً لتقبّل كل من يدّعي أن في يديه الخلاص.
ولأن طبيعة النبوّة نفسها كلامية، لا علاقة لها بمبادئ وقواعد البحث الفلسفي والعلمي والوجودي، فإنّها لا تشترط مواصفات ذات علاقة بالكفاءة ومستوى التعليم، فينفتح بابها على مصراعيه لكل من يرغب من المُغامرين، بحسب تعبيره.
ظهور مُدّعي النبوة والمهدوية والعيسوية في السودان، مرتبط بفترات التحولات والأزمات، فمع اضمحلال السلطنة الزرقاء (1504-1821)، تكاثر ظهور هؤلاء وأبرزهم الشيخ حمد النحلان الترابي، جد حسن عبد الله الترابي أحد قادة جماعة الإخوان البارزين.
وكذلك برز إبان الدولة الخديوية في السودان (1821-1885)، شخص اسمه محمد أحمد، ادّعى أنه المهدي المنتظر الذي سيخلص البلاد والعباد من الاستعمار التركي المصري بإذن الله، فالتفّ السودانيون حوله، وتمكّن من هزيمة الدولة المركزية وحرر البلاد في عام 1885، وأسس دولة المهدية، وعاصمتها أم درمان عوضاً عن الخرطوم.
كما تكاثر ظهور الأنبياء في حقبة الدولة المهدية، خاصةً بعد وفاة محمد أحمد، وتولّي خليفته المستبد عبد التعايشي الحكم، وهكذا دواليك.
اختفى ظور الأنبياء نسبياً إبان الاستعمار البريطاني للسودان (1898-1956)، وما بعد الاستقلال (1956-1989)، وشهدت البلاد استقراراً أمنياً واقتصادياً وطفرةً في التعليم والتمدّن.
لكن ما لبثت الظاهرة أن عادت من جديد عندما انقلبت جماعة الإخوان على الديمقراطية في حزيران/ يونيو 1989، وأحكمت قبضتها على السلطة واستبدت استبداداً غير معهود، فبدأ مدّعو النبوّة والخلاص في الظهور مجدداً إلى وقتنا الراهن حيث يعاني السودان من فترة انتقالية متقلّبة وهشّة، قبل أن ينقلب عليها قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، ومنذ ذلك الوقت وحتى هذه اللحظة، فشل في تكوين حكومة وفي إدارة الدولة، ما يُكرّس شعوراً جمعياً عميقاً بالحاجة إلى نبيّ سوداني يخلص البلاد والعباد من هذه الأوضاع الأمنية والسياسية والمعيشية الشديدة الهشاشة والرثاثة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...