شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"هدّها بإيدك"... قصة المقدسي أبو رموز مع الاحتلال الإسرائيلي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الجمعة 2 سبتمبر 202203:24 م

يستمر الاحتلال الإسرائيلي في التضييق على المواطنين الفلسطينيين، والسعي الدائم لعرقلة حياتهم، عبر ممارسات مختلفة، تمتد لمساحة واسعة من تفاصيل الحياة، عدا القتل المستمر الذي وصفه الرئيس الفلسطيني محمود عباس في ألمانيا بالـ"هولوكوست" المستمر.

في القدس تحديداً، وفي لحظة واحدة، يمكن للاحتلال أن يجعل من الحياة دبقة، مثل جسد يحاصره الغبار والرطوبة والأصوات العالية، عبر التركيز عليك بإيذائك وحدك، وملاحقتك وحدك، وهدم منزلك تحديداً، فهو يتصرف مثل لاهٍ يطمح للمتعة في محو الأشياء والآخرين. فعليك الخروج فوراً للعراء، لإرضاء مزاجية المحتل والرضوخ لرغبته. هذا بالإضافة إلى عملية هدم نفسية ممنهجة لكل أمل.

منذ عام 1967، شرعت إسرائيل في وضع خطة ممنهجة لهدم المباني المقدسية، وإخراج ساكنيها للتيه، فوضعت قوانين مجحفة، لا تمت للإنسانية بأي رابط، ولطالما أسهمت في جعل حياة المقدسيين كارثية، حتّى أصبحت كسّارة الإسمنت الضخمة، فزّاعة المقدسي التي لا يرغب برؤيتها في مدينته.

لعقود طويلة، يهدد الاحتلال حياة المواطنين في القدس، واستقرارها عبر قوانينه المفروضة بالقمع، إذ يمنع منح التراخيص للبناء الجديد، ويبحث عن مسوغات يتمكن من خلاها هدم المباني القديمة، بحجة عدم الترخيص، أو بطلان الملكية، أو حتى ادعاء امتلاك سندات ملكية لليهودي على أرض امتلكها العربي بالتوارث منذ مئات السنين. والأمر لا يتوقف عند هدم البيوت فقط، بل يقوم الاحتلال بفرض الرسوم المجحفة في حق سكان القدس العرب، مثل هدم المنزل، بالإضافة إلى ترسيم مخالفات مالية عالية القيمة مقابل المدة التي أقامها المواطن الفلسطيني مخالفاً للقوانين في منزله.

خدعة

قبل أيام، دهمت قوات الاحتلال بيت المواطن فرج أبو رموز من حي سلوان في مدينة القدس، بصحبة الآليات والعمال لهدم منزله، الذي كان بمثابة مفاجأة له ولعائلته، إذ أخبرهم المحامي الإسرائيلي بأن لديهم فرصة في نقض الحكم، وأن الأمر يتطلب المزيد من الوقت.

يقول أبو رموز لرصيف22: "قبل عدة أشهر، جاءني قرار المحكمة الإسرائيلية، بحتمية هدم شقتي التي بنيتها بعرق جبيني فوق منزل الأهل، لقد ذقت الأمرين في تجميع النقود اللازمة للبناء، وهو المنزل الوحيد الذي أملكه وأعيش فيه مع زوجتي وأبنائي الخمسة وبناتي الثلاث، بالإضافة إلى كنة".

يضيف: "لقد تلقيت الحكم بيد متوترة، وأصابني الذهول مما يحدث، فلم يكن هذا في الحسبان، ولا يتوفر لدي المزيد من المال لشراء منزل آخر".

ويتابع: "لقد قمت بتوكيل محام عربي لمنع حدوث ذلك، لكن المحكمة الإسرائيلية تعنتت، ونصحني البعض بتوكيل محام إسرائيلي، يمكنه الدفاع عن حقي، بحيث يتمكن من فهم آلية عمل المنظومة الإسرائيلية، لكنني وقعت في فخ النصب، وكان هذا المحامي يراوغني ويكذب عليّ إلى أن حان موعد الهدم وقضي الأمر".

دون مأوى

إن أصعب ما يمر على المرء أن يجد نفسه بلا مأوى، يصارع العراء مع عائلته، ويبقى دون سند حقيقي ويحفظ حقه في أرضه وبلاده، عاقداً التضحية من أجلها، إذ وجد أبو رموز نفسه وعائلته مطرودين من المأوى.

يقول أبو رموز: "هل تعرف ماذا يعني أن أجد نفسي فجأة مع عائلتي دون مأوى؟ لقد تبخرت الأحلام وصارت الحياة مجرد جحيم لنا جميعاً، لم أعد أستطيع النظر في عيون أطفالي، لأنني أعرف حجم الألم والخوف الذي بداخلهم، وأعرف أنّني لا أملك أيّ إجابة لأسئلتهم… نحن نخاف حتّى أن نناقش الأمر، لأننا نعلم جميعاً أننا تورطنا مع المجهول".

ويضيف صاحب البيت المهدوم: "لقد هممت أن أضع خيمة في العراء للعيش فيها مع عائلتي، لم تكن ردة فعل كاعتراض على ما يحدث، لكنها وسيلة الحائر، فلا بدائل لدي في هذه المحنة، لكن هذا بالطبع ما رفضه الأهل، الذين فتحوا لي أبواب منازلهم، لكنني أعرف تماماً بأن هذا ليس حلاً لمشكلتي".

"هدها بإيدك"

وتقوم بلدية الاحتلال في القدس بإخطار المواطنين بموعد معين للهدم، وإذا لم يتم الرضوخ له، يُفرض المزيد من العقوبات المالية والمزيد من الضغط، وتخيير المواطن الفلسطيني المغلوب على أمره، بين أن يقوم هو بهدم منزله وإزالة كافة علامات البناء، ودفع المزيد من الأموال للعمال الذين تحركهم بلدية الاحتلال لتنفيذ عملية الهدم.

لم أعد أستطيع النظر في عيون أطفالي، لأنني أعرف حجم الألم والخوف الذي بداخلهم، وأعرف أنّني لا أملك أيّ إجابة لأسئلتهم… نحن نخاف حتّى أن نناقش الأمر، لأننا نعلم جميعاً أننا تورطنا مع المجهول

يخبرنا أبو رموز: "تم منعي من محاورة القاضي أو طلب الاسترحام، كان المسموح فقط هو دخول المحامي لقاعة المحكمة، لقد وكلت محاميين، الأول كان دون جدوى، والثاني كان إسرائيلياً وخدعني".

ويكمل بصوت متألم: "حاولت أن أحاور قائد مجموعة الشرطة، وأطلب منه أن يتم تأجيل الهدم، وكان شديد القسوة، في رده: "لا فرصة للتأجيل". ويضيف: "شعرت أنني أتعامل مع آلة لا إنسان، فكان هذا الرجل يحرك في المكان مثل موتور يريد إنهاء مهمته لا أكثر، ولم أشعر للحظة واحدة بأن هؤلاء بشر مثلنا".

ولم يكن تهديد الشرطة الإسرائيلية للمواطن أبو رموز، بفرض المزيد من الغرامات مجرد خطوة للترهيب، بل بالفعل، تم توقيع غرامة مالية أخرى لتسبب صاحب المنزل حسب ادّعائهم، في خروج العمال للهدم، وقد قال الضابط الإسرائيلي له: "هدها بإيدك" وسنوقع عليك غرامة إضافية، ليصل مجموع الغرامات المفروضة عليه حوالى 40 ألف دولار (130 ألف شيكل).

"لمة العيلة"

ولطالما كانت علاقة الإنسان بالأماكن مربكة، إذ تتجسد المشاعر والأحاسيس تبعاً للقصص التي يصنعها الإنسان مع المكان أو فيه، فلم تكن علاقة أبو رموز وعائلته بالمنزل علاقة إنسان بحجارة إسمنتية، بل بعد وقت من الزمن، يصبح للمكان مشاعر أيضاً، ويكون من الصعب مفارقة أركان بعينها في المنزل.

يتنهد فرج أبو رموز وهو يخبرنا: "لقد قضيت سبع سنوات في هذا المنزل مع عائلتي، وكبر أطفالي بين جدرانه، لقد أحببت هذا المكان بكامل تفاصيله".

ويضيف:"لدي ذكريات كثيرة في هذا المنزل، فبعد أن رزقني الله هذا العدد من الأبناء، زوّجت أحد أبنائي في غرفة داخل المنزل، وكنا نشعر بسعادة "بلمة العيلة" لكن الاحتلال أصر على هدم هذا الحلم وتشريدنا".

ولربما تبقى الذكريات مثل كومة من اللحظات المتراكمة، التي يمكن أن تبرد مع مرور الزمن، لكن آخر الذكريات دوماً تبقى مشتعلة، ولا يمكن إطفاؤها مهما حدث، وذكرى أبو رموز الأخيرة مع هذا المنزل، هو أنه قام بهدمه مرغماً، بيده.

ويصف فكرة هدم منزله بيديه: "تخيل أن أهدم المكان الذي شهد لحظاتي الصادقة مع عائلتي، ومع نفسي، فهو المكان الذي ملأته بالضحك، وملأني بالأمان، فكلّ لحظة فيه لها في ذاكرتي حدث، أخاف أن أتذكره فأبكي من جديد، وآخر ذكرياتي السعيدة مع هذا المنزل، كانت ولادة طفلي الصغير قبل أسابيع قليلة، لقد صار ابني هذا أصغر طفل مشرّد في فلسطين".

ويستطرد: "الآن، بعد هدم منزلي، أشعر بخيبة أمل كبيرة من الحياة، لقد تم قطع طريقي في منتصفه، والأمر يزداد صعوبة لأني مسؤول عن عائلة بأكلمها، أشعر بأنني مطرود من الحياة برمتها، بعد هذا الحدث البشع".

ويقول أبو رموز، 44 عاماً، وهو يعمل في قطاع البناء: "لا يكفي الاحتلال أنه تسبب في خسارة منزلي، بل سأستمر في دفع ألف شيكل شهرياً (300 دولار) لاستكمال باقي الغرامات الظالمة التي وقعت ضدي، ما يعني عدم قدرتي على اقتناء منزل آخر لوقت طويل، لأنني ملزم بدفع تلك الأموال لتفادي الحبس الظالم".

الآن، بعد هدم منزلي، أشعر بخيبة أمل كبيرة من الحياة، لقد تم قطع طريقي في منتصفه، والأمر يزداد صعوبة لأني مسؤول عن عائلة بأكلمها، أشعر بأنني مطرود من الحياة برمتها، بعد هذا الحدث البشع

وتبدو خصوصية الأرض المقدسة واضحة في روح أبو رموز، فهو بالرغم من كل آلامه، لا ينسى أن ما يحدث معه هو ضريبة وجوده على أرض القدس، وبقائه في أرجائها بالرغم من كافة المعوقات والمنغصات الحياتية، التي يضعها الاحتلال، في وجه المقدسيين.

يقول:"صحيح أنني فقدت منزلي، لكن هذا فداء للقدس، وهو ضريبة أنني عربي أعيش في القدس، ولهذا يصر الاحتلال على قصم ظهورنا بهدم منازلنا وقتل أبنائنا واعتقالنا وتغريمنا، لكن هذا لن يغير من إيماننا بمقدسيتنا ووطننا، ولن نترك القدس غريبة بين أيديهم".

وفي حين ترى التجمعات الدولية الحقوقية هذه الممارسات الاحتلالية الظالمة، لكن لا يُسمع منها إلا الصمت، حتى صارت نبرة المناشدة من الفلسطينيين المظلومين باردة، وكأنها مجرد كلمات لا قيمة لها، وأن هذا العالم يدعي العجز لكنه ظالم، هذا كان رد فعل أبو رموز حين سألناه حول رسالته للعالم. قال: "جاءت لجان حقوق الإنسان، والصليب الأحمر للمكان، وأخذوا يتنقلون فيه صامتين، ولم يصرحوا بشيء. هذه مجرد إجراءات شكلية لن تحرك ساكناً، لقد صار بالفعل بيتي ركاماً، وحقيقة، لا أتوقع منهم أي إنصاف مستقبلي".

لعبة ليغو

تبقى دوماً ردة فعل الطفولة على الواقع الأليم، أكثر صفاءً وعفوية، فالطفلة عائشة أبو رموز (خمس سنوات)، ربما رأت هدم منزلها كلعبة "مجسمات ليغو" إذ يمكن إعادة بناء ما تم هدمه بعد قليل، لكنها لم تكن تعرف أنّ الواقع أكثر شراسة مما تعتقد. تقول: "لقد هدم الاحتلال منزلنا، لماذا يحدث هذا؟ لماذا أصبحت أنا وعائلتي دون بيت؟ أنا أحب هذا المنزل، ولا أريد غيره، لقد طلبت من أبي أن يعيد بناءه من جديد، أريد العودة للنوم في المكان الذي أرتاح فيه، فأنا أشعر بالغضب والحزن، ففي هذا المنزل عرفت الحياة، وكبرت، وفي هذا المكان تعلمت كيف أمشي".

وتكمل: "كل شي بيتصلح، وانا حكيت لبابا بدنا نصلح البيت كمان مرة ونرجع نسكن فيه، لكن ما رد عليا".

والأمر في هذا الإطار لا يقتصر على أبو رموز وحده، فالكثير من العائلات الفلسطينية، ذاقت كارثة هدم منزلها، وطالما أن هذه العملية البشعة لن تتوقف، فسيكون هنالك المزيد من الخسارات.

يُذكر أنّ الاحتلال الإسرائيلي يهدم في القدس سنوياً عشرات المنازل، حيث بلغ عدد المنازل السكنية المهدومة منذ عام 1967 حتى 2021، 2146 وتضرر من خلال هذا أكثر من 900 مواطن فلسطيني.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard