"ذلك الخطاط كتب ثلاثة خطوط؛ واحد قرأه هو وليس الغير، واحد قرأه هو والغير، واحد لا هو قرأه ولا الغير. أنا ذلك الخط الثالث". (شمس الدين التبريزي)- صفحة تحررها مريم حيدري
ليلة أمس وليلة أمس الأول، رآها في الشاطئ.
ربما رآها من قبل أيضاً. لكنه لم يتذكر.
منذ ليالٍ عدة لم تذق عيناه طعم النوم بسبب ضيق صدر وانقباض لم يعرف هو أيضاً سبباً له. وفي الحقيقة فقد كانت الرغبة في النوم تستبد به، وكانت عيناه مرهقتين، لكنه مع ذلك لم يجد سبيلاً إلى النوم.
وضع جانباً الكتابَ، الذي انكبّ على مطالعته منذ أيام عديدة دون أن يستوعب سطراً منه، مما سبب له صداعاً أليماً. ولأجل أن يستعيد بعضاً من عافيته، مسح وجهَه، تمطى في سريرِه قليلاً، ثم نهض بهدوء.
حمل ولاعتَه وعلبة الدخان، وخرج.
كانت الدنيا مظلمةً في الخارج. منتصف الليل، والقمر مختفٍ وراء العمارات المتناثرة. تلك الساعة لم يكن أحد خارج بيته.
لو رآه الناس حينئذٍ لظنّوه أحد المجانين، وكانوا سيحيدون عن طريقه.
في يده لفافة تبغ، مطرق الرأس، مرهق، محني الظهر قليلاً، أشعث الشعر.
تماماً هكذا.
حينما مال إلى جهة البحر، لم ير شيئاً منه بسبب الظلام الدامس. وحده القمرُ كان يلقي بأشعته من بعيد على بقعة محدودة جداً من الماء. لم تظهر النجوم. كانت الدنيا تبدو وكأنها لوحة قاتمة أو سجناً يدخله نورُ القمر من نافذة صغيرة عالية جداً لا تصل إليها الأيدي، مخترقاً ستارةَ العتمة، متسللاً إلى الداخل.
ما كان أحد، لو لم تكن له معرفة بالبحر ورائحته وهدير أمواجه، ليعرف أن بحراً يمتد أمامه.
كانت الأمواج تتهادى مثل بساط أسود، تعلو وتهبط وكأنها في حلقة رقص. مذكِّرة المرءَ بالنساء الرائحات الغاديات في حفلة عرس. كانت تلك الأمواج تتقدم لتلعق اليابسة، ثم تعود القهقرى.
حتى الذي لم يُضيّع شيئاً يجدُّ في البحث عن بعض الأشياء. دائماً وأبداً توجد أشياء يفتقدها المرء... قصة قصيرة للكاتب الكردي إبراهيم سيدو آيدوغان
لم يعِرْ صندله أيّ اهتمام. لم يأبه بما سيحدث له. خاض في البحر سائراً بمحاذاة الشاطئ، محاصراً باليابسة من جهة، وبالأمواج من جهة أخرى. كانت الأمواج حين تصدم قدميه، تعلو لتصل إلى ركبتيه، ثم تهبط عائدة إلى الوراء.
كانت أنوار مصابيح الكافيتريات تتلألأ من بعيد.
مشى هكذا برهة من الزمن إلى أن أحسّ بالحجارة الصغيرة تحت قدميه فتوقف. نظر بيأسٍ صوب المنازل.
ليلة أمس كان قد رآها هناك.
كانت الدنيا ليلة أمس أكثر إشراقاً من هذه الليلة. وكان القمر يلوح في عينيها قمريْن. كانت مستندة إلى الحائط، وتبدو كأن أحداً أسندها. ترنو إلى البحر، متعبةً، مرهقةً، ملقيةً رأسَها على ركبتيها المضمومتين إلى بطنِها وقد أحاطتهما بيديها.
يبدو أنها لم تأت اليوم! ربما كانت مستندةً كليلةِ أمس إلى الحائط، لكن الظلام يمنعه من رؤيتها. أخذ نفساً من سيجارته، ومضى يركل الأمواج بقدميه.
الريح. الأمواج. رائحة جسمه المتصبب عرقاً.
آلمه رأسه. عدم لقائها لعب دوراً في الصداع.
هل خرج لملاقاتها؟
لا! لكن حتى لو كان الأمر كذلك لما اعترف.
صوتٌ:
"هيه! يا أنت!".
صوت امرأة. صوت لطيف ومرتعش.
حانت منه التفاتة على عجل من فوق كتفه. نظر في ما حوله، وبحث متلهفاً عن مصدر الصوت.
لم يرَ المتحدثة. ربما لم تكن تناديه أصلاً.
"أنا هنا!".
التفت إلى جهةِ الصوت، وأصاخ السمع بانتباه. استوعب الأمر هذه المرة بشكل أفضل. كان الصوتُ القادم إليه مرتعشاً.
شاهد شبحَ امرأة جالسة هناك. كان يراها بالكاد.
أجاب الرجلُ بخوف:
"أنا؟".
من جديد، الصوت الناعم نفسه، ربما كانت امرأةً أو فتاةً جميلةً، أو ربما لأنه تمنى ذلك خطرت في باله تلك الخيالات.
"اعذرني!".
توقف الشبحُ، ثم واصل الكلام:
"ألديك لفافةُ تبغٍ لأجلي؟".
كان صوتُها يرتعش فعلاً.
ترى أكانت تشعر بالبرد؟
ولماذا لا يقدم لها لفافة تبغ! كان هو يبحث عن فرصة كهذه أصلاً.
في هذه الساعة. إنها هي بالتأكيد.
ليتها تكون تلك المرأة.
توجه إليها. رفعت الفتاة رأسَها، وحدقت فيه.
قدّم لها سيجارة، وأشعلها. أضاءت النارُ وجهَها.
وجه لطيف لا يستطيع المرء أن يرى فيه أيَّ قصور. الفم، الأنف، العينان البراقتان اللتان تحدقان إلى الرجل الواقف على رأس المرأة، العينان المحاطتان بأجفان طويلة مبللة.
مبللة؟
ترى هل كانت تبكي؟
أخذت نفساً من اللفافة، ونظرت إليه بزاوية عينها، وقالت بصوت يلفّه التعبُ، وبنبرة ترجٍّ:
"شكراً".
شعر الرجل بخدرٍ لذيذ. تمنى أن يتوقف الزمن عند تلك اللحظة. تمنى أن تصبح اللحظة التي تحدِّق فيها تلك الفتاة إليه آخرَ صورة في هذا العالم. ماج البحر في قلبه.
"لا شكر....".
رغب في أن يدنو منها ويجلس بقربها.
أكان ذلك عيباً لا يجوز!؟
توقّفتْ. كانت ستبكي هذه المرّة بالتأكيد. عصرت يدَه بين يديها كأنها تمسح على صدره بيديها الناعمتين الساخنتين. أصاب الدوار رأسه. ثم، سحبت يديها فجأة. بقيت يد الرجل قابضة على الفراغ... مجاز الخط الثالث
رغب في ذلك كثيراً. لم يستطع مقاومة تلك الرغبة رغم كل شيء.
عضّ شفتيه (تألم كثيراً)، ثم عاد إلى طريقه.
أخذت المرأة نفساً آخر، وأطلقت سحابة دخان. وضعت رأسَها على ركبتيها، وتابعته بنظراتها.
رجل رشيق، لطيف، يمشي وحيداً تحت جنح الليل في هذه الساعة التي يغطّ فيها الجميعُ في النوم.
لم يكن قد ابتعد عنها سوى بضع خطوات.
"البارحة أيضاً كنتِ هنا. أليس كذلك؟".
صوتها. لا شك أنها كانت تبكي قبل قليل. كأن نبرةَ البكاء تلفُّ ذلك الصوت، فبدت فيه بحة واضحة. كانت تتحدث إليه.
توقف الرجل. لم يتكلم.
أكان البارحة هنا أم أن صاحبة الصوت أرادت أن تقول: "أمس، كنّا كلانا هنا".
عاد إليها، بابتسامة يلفها الكرب، بإجابة مخادعة.
"نعم. فالليل جميل".
أشارت الفتاةُ بيدِها إلى المكان.
"ألن تجلس؟".
دنا الرجل وجلس بقربها. وافق ذلك هوىً في قلبِه. حدّقت الفتاةُ في البحر، وصمتت.
أمعن هو النظر إليها. رمى السيجارة التي كانت في يدِه، وأشعل أخرى تلقائياً. انحنى على النار، ودنا منها. أضاءت النارُ قسمات وجهِه هذه المرّة.
شعره طويل، متموّج كالبحر. بشرة وجهِه بيضاء. رجل حليق الشاربين. عمرُه بين الخامسة والعشرين والثلاثين.
قالت الفتاة بنفس الهدوء والسكينة التي بدت عليها قبل هنيهة:
"إنك تتجوّل هنا وتبحث عبثاً".
واصلت حديثها:
"لن يأتي أحد".
ما الذي كانت تقوله؟ من كان يبحث؟ عمَّ؟ أكانت الفتاة تبحث أم الفتى؟
ربما كان يحدث نفسه.
قال: "من أين أتيت بهذا الكلام؟" وأضاف:
"لستُ في انتظار أحد".
هراء.
كانت الفتاة واثقةً من نفسها. كأنها تعرفه عن كثب. وربما كانت تعرف نفسها جيداً.
"إذاً عم تبحث؟".
(هذه مواضيع غريبة. يوجد مثيل لها في القصص الخيالية. حوارات كهذه؛ كلمات ليس في مستطاع كلّ أحد التفوه بها).
"أنا لا أبحث عن شيء. لم أضيّع شيئاً".
لم ترفع الفتاة رأسَها عن ركبتيها. لكنها أجابته بنفس السكينة والهدوء. بدت وكأن لا رغبة لها في الحديث. ضيق صدر.
"حتى الذي لم يضيّع شيئاً يجدُّ في البحث عن بعض الأشياء. دائماً وأبداً توجد أشياء يفتقدها المرء".
في اليوم التالي، في الصباح الباكر
ظهرت جثةُ رجلٍ عالقة في شباك صيادي الأسماك.
ترتسم على شفتيه ملامح سعادة غامرة وابتسامة حزينة
توقفت بالطريقة ذاتها. كان صوتها هو نفسه حتى ولو تغير الموضوع الذي تخوض فيه. طريقتها في الحديث، ونبرة صوتها كانا يرسمان ملامحَ وجهِها الذي لم تكن معالمُه تبدو بوضوح بسبب الظلام. كان وجهها يبدو أجملَ خلال الحديث.
كان الرجل يريد الوقوف مواجهاً إياها واضعاً رأسه مثلها على ركبتيه، متأملاً جمالها، وناظراً إلى عينيها لحد الارتواء.
هذه المرة تحدّث الرجل.
"أنا أيضاً أفكر في هذا الأمر. لكنني لا أستطيع تسمية شيء".
ابتسمت الفتاة هذه المرة. ربما لأنها عرفت أنه سيلفظ تلك الكلمات.
طيبت خاطرَه.
"يجوز".
رفعت رأسها هنيهة، ونظرت باهتمام إلى الرجل. ثم حدقت مرة أخرى في المكان الذي أشارت إليه قبلاً، وقالت:
"لست من هنا؟".
كان ذلك صحيحاً. ولكن كيف عرفت؟ أكانت هي من قاطني تلك المنطقة؟
"لا أنتمي إلى أي مكان".
(لم يكن يكذب. لم يكن للفتى موطن. ما كان يعرف حتى اسمه).
نظرت الفتاة إليه. أرادت أن تستوعب الأمر. لا! لقد كانت تستوعبه.
كانت تقرأ تقاطيع وجه الفتى. كان الفتى يأسى كلما نظر إليه أحدٌ تلك النظرة.
امرأة جميلة، يكاد وجهها يروي حكاية حزينة.
أوشكت الفتاة على البكاء. كاد الرجل يجنّ.
هام بها.
همٌّ آخر.
ترى لو قال لها حينذاك: "تعالي لكي تصبحي حبيبتي" أكانت ستغضب؟
مدت الفتاة يدها، وأمسكت بيده.
حين كانت الكلمات تخرج من بين شفتيها المرتعشتين، كانت تتلعثم.
"أرغب في النوم بحضنك هذه الليلة".
توقفتْ. كانت ستبكي هذه المرّة بالتأكيد. عصرت يدَه بين يديها كأنها تمسح على صدره بيديها الناعمتين الساخنتين. أصاب الدوار رأسه.
ثم، سحبت يديها فجأة. بقيت يد الرجل قابضة على الفراغ.
تألّم قلبه. أطرقت الفتاة برأسها.
"اعذرني!".
ظهر أثر الدموع في عينيها دون أن تبكي. لماذا لم تكن تبكي؟
"لم أسألك إن كنتَ أنت راغباً بذلك أم لا؟".
الريح. ارتعش الرجل. ربما لم يكن ذلك بسبب الريح.
هذه المرة، أمسك هو بيدها. لم تسحب الفتاةُ يدها. لكنها بقيت مطرقةَ الرأس.
عصر أحدهما يد الآخر. سحب الرجل يده بهدوء، وضعها على كتف الفتاة، وجذبها ناحيته. وضع رأسها في حجره. مسد ظهرها. راحة.
ثم رفعت الفتاة رأسها. فتعانقا.
وضع أحدهما شفتيه على شفتي الآخر، وغابا عن الوعي. كان أحدهما يعري الآخر أثناء اللثم.
حرارة جسدين. نعومة بدنين.
الظهر. الخاصرة. الأرداف. السيقان.
شفاه على شفاه. دخان يعلو رأسيهما، ونحريهما.
اتحد الجسدان المحترقان.
تمازجا وبقيا هكذا.
...
في اليوم التالي
في الصباح الباكر
ظهرت جثةُ رجل عالقة في شِباك صيادي الأسماك.
رجل رشيق. قامته مديدة. شعره طويل. متموّج مثل البحر. بشرة وجهه بيضاء. رجل بائس، حليق الشاربين.
عمره بين الخامسة والعشرين والثلاثين.
ترتسم على شفتيه ملامح سعادة غامرة وابتسامة حزينة.
ترجمها من الكردية: جان دوست
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين