المضطرب
في مسرح كبير، أجلس لأستمع لمطرب المراهقة المفضل عندي. إنه الحفل الأول الذي أحضره له، حدث حلمت به طويلاً. أرتدى فستاناً مريحاً يتناسب مع أغسطس القاهرة الحار، وأتنازل عن الآخر الأكثر أناقة لأنه أثقل. أترك خلفي في المنزل حذائي ذا الكعب، العالي للغاية والمؤلم بذات الدرجة، أختار ما أضمن معه أني لن أعود لمنزلي بقدمين متورمتين وأصابع متألمة.
في منتصف الحفل يسألني زوجي: "أين هي الدباديب التي كانت تلقى على كاظم الساهر؟". أجيبه: "من كنّ يرمينها هن مثلي. أصبحن اليوم في نهايات الثلاثينيات. كبرن ولا يشترين الدباديب لإلقائها على كاظم، بل لإسكات أطفالهن حتى يتركوهن يذهبن للحفل بسلام!".
أتطلع إلى كاظم: لماذا يبدو شاباً كما لو أن الوقت لم يمسّه، بينما خط الشيب شعري، وأصبح لي ابنة في العاشرة من عمرها؟ كيف لم يمرّ عليه الزمن مثلما مرّ علي؟
تخبرني زميلة في الحفل أن التجاعيد تملأ وجهه، لكن أنظر له فلا أراها. يبدو بهياً مثلما كان في صورته العملاقة على جدار غرفتي في منزل أهلي قبل الزواج، هل صنعت النوستالجيا مرشحاً مثالياً على وجهه يمنعه من التقدم في العمر في عينيّ وحدي؟
عندما علّمنا أن نصبح خطرات
كوني امرأة خطرة
كوني امرأة خطرة
كوني القوة كوني النمرة، كوني كوني...
لا أرغب في أن أكون غاضبة، أتمنّى لو عشت في مجتمع آخر متساوية مع زملائي من الذكور، لا تختلف قيمتي كفرد حسب أعضائي التناسلية، لا أحصل على مكتسبات ناقصة، أو أحارب بضعف القوة في كل مرحلة، لا أصرخ حتى يُسمع لي صوت، في حين همس الرجل بجواري يسمع كأنه جلجلة سماوية... مجاز
تُجمع الصديقات على أن كاظم الساهر كان "كراش" المراهقة لهن، فهو الحب الأول. أتساءل لماذا كان هو؟ بالنسبة لي لأنه أول من أخبرني أن أكون "امرأة خطرة"، ليس فقط بأغنيته بذات العنوان الحديثة الصدور للغاية، لكن بشكل عام قدّستْ أغانيه المرأة القوية، تلك التي تسحق الرجل، سواء بالوصل أو الخصام، لا تخجل من قوة حبها، ولا تأثيرها على الآخرين، امرأة لها يد كيد حمامة، ولكن تشبه غابات الزيتون ولها طعم الثلج وطعم النار.
بنظرة حولي في الحفل، وبدون مبالغة كبيرة، تسعون بالمائة من الحاضرين هن من النساء. أخريات مثلي ومثل صديقاتي جئن لمقابلة فتى أحلام المراهقة لأول مرة، وقد عركتهن الحياة، بعضهن صرن زوجات محبطات، أو أمهات منهكات، أو عاملات قرّرن دفع راتب شهر كامل كثمن لتذكرة تطل بهن على ماضٍ، سعيداً كان أو حزيناً.
كونى صيفاً إفريقياً
كونى حقل بهار يلذع
امرأة لها يد كيد حمامة، ولكن تشبه غابات الزيتون ولها طعم الثلج وطعم النار
كونى الوجع الرائع
إني أنزف حباً إذ أتوجع.
لكن أي منهن امرأة خطرة؟
هل تلك المرأة التي قفزت على المسرح لاحتضانه بقوة؟ أم هؤلاء الجالسات في الخلف يستعدن شبابهن بقول "بحبك يا كاظم"، متأخرة عشرين عاماً؟ أم أنا؟ هل أنا امرأة خطرة الآن يا كاظم؟
يعتبرني الآخرون امرأة خطرة، فأنا أقرّر وأفعل. لا أنتظر الموافقة أو القبول. أحلم وأنفذ. قد أنجح أو أفشل، لكني أؤمن أن الندم على المحاولة الفاشلة أهون من الندم على عدم القيام بفعل.
البعض يراني خطرة فيخافون مني على نسائهم، من زوجات وبنات وحبيبات، يزعمون أنهن يتأثرن بي ويصبحن خطرات مثلي، لا يعلمون أن المرأة الخطرة لا تحتاج للتأثر، هي فقط تنتظر اللحظة المناسبة لتظهر وجهها الآخر.
في وطننا، الرجال يخشون النساء الخطرات، وكالمثل الشعبي الرائج "اللي يخاف من العفريت يطلع له"، يرزقن بنساء خطرات رغماً عن إرادتهم. أبي أراد بنات مدجّنات، يضعهن في متحف، وراء حاجز زجاجي، حتى يأتي الرجل المناسب للزواج، يقول له: "تفضّل، لقد احتفظت بابنتي في السوليفان حتى أتيت لأخذها. لا يهم ماذا ستفعل بها بعد ذلك، لكن لقد أتممت مهمتي".
أعلم أن خطورتي خيار شخصي، بالنسبة للبعض وصمة أدفع ثمنها لأني أرغب في ألا أذل أو أدجّن أو أظل حبيسة الفاترينة الزجاجية في بيت أبي ثم زوجي، لكنه خيار أتخذه بمنتهى الرضا كل صباح حين استيقظ، وأشكر نفسي على نعمته قبل النوم... مجاز
بالنسبة لأبي، أنا امرأة شديدة الخطورة، يخبر نفسه أمامي كل مرة يراني أني لم أكن كذلك في الماضي، يبرّئ نفسه من تربية من هي مثلي، يلقي التهمة الضمنية على زوجي، فهو من أطلق العنان لي حتى صرت "هكذا". مغتاظة أخبره إني كنت دوماً كذلك. تعزّز أختي ما أقول. تذكره بحوادث عبّرت خلالها عن نفس أفكاري الحالية بكلمات أخرى، لكنه يختار النسيان المتعمّد، فهو لن يسمح لنفسه بقبول إنه ربى امرأة خطرة.
هم جعلوني خطرة
كوني، كوني
كوني رعداً، كوني برقاً
كونى رفضاً، يا سيدتي
كوني غضباً.
هناك اقتباس شهير للمخرجة النسوية أنياس فاردا، قالت فيه: "كنت أرغب في أن أكون نسوية سعيدة، لكني كنت غاضبة للغاية".
ينظر إلي أبي أحياناً ويفكر من أين أتى الخطأ، أي جين مضطرب هذا الذي جعلني على هذه الشاكلة كما لو كنت مصابة بمرض عضال ليس له علاج، وفي أحيان أخرى ينظر متعجباً: لماذا أنا غاضبة لهذه الدرجة؟
في الماضي قال لي مراراً إنه يحمد الله على أني بنت، فلو كنت ولداً لكانت علاقتنا عاصفة لا تخلو من برق ورعد. كنت أراها كذلك بالفعل، هو فقط المطمئن في هذه العلاقة لأني لا أملك عضواً ذكرياً يعطيني الحق في أن ألقي كل شيء وأخرج هاربة، ينسى عندما أخبرته وأنا في العشرين من عمري إني لو أملك خيارات أخرى لتركت المنزل بالفعل.
لأبي ذاكرة انتقائية، ترسم له صورة وردية عن الماضي، أتمنى لو كنت أحمل مثلها، ربما لفقدت نصف غضبي، أو على الأقل لم أصبح خطرة لهذا الحد.
مثل أنياس فاردا، لا أرغب في أن أكون غاضبة، أتمنّى لو عشت في مجتمع آخر متساوية مع زملائي من الذكور، لا تختلف قيمتي كفرد حسب أعضائي التناسلية، لا أحصل على مكتسبات ناقصة، أو أحارب بضعف القوة في كل مرحلة، لا أصرخ حتى يُسمع لي صوت، في حين همس الرجل بجواري يسمع كأنه جلجلة سماوية.
لا أرغب في أن أصبح خطرة كما أنا الآن، أتمنى أن أصبح خطرة كنساء كاظم الساهر، اللواتي تتمثل خطورتهن في حياة عاطفية ملتهبة. لا أرغب في معارك تبدأ في الصباح مع منشور على فيسبوك حول قتل فتاة لمجرد أنها فتاة، وتنتهي بمحاولة إقناع البعض أني لا أكره الرجال لأنهم رجال، لكن لأنهم يحصلون على مكتسبات بلا سبب سوى الصدفة التي جعلت كروموسوماتهم مختلفة عن تلك الخاصة بأخواتهن من نفس الأب والأم، فيحصلون على نصيب أكبر من كل شيء، بدءاً من قطع اللحم على مائدة الغداء إلى الميراث.
أعلم أن خطورتي خيار شخصي، بالنسبة للبعض وصمة أدفع ثمنها لأني أرغب في ألا أذل أو أدجّن أو أظل حبيسة الفاترينة الزجاجية في بيت أبي ثم زوجي، لكنه خيار أتخذه بمنتهى الرضا كل صباح حين استيقظ، وأشكر نفسي على نعمته قبل النوم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...