في كتاب التحولات، يحكي الشاعر الروماني أوفيد حكاية عذراء جميلة تدعى ميدوسا، "أغواها" الإله بوسيدون، إله البحار في الأساطير اليونانية القديمة، وتمكن من الإيقاع بها في معبد الإلهة أثينا، إلهة الحكمة وإحدى آلهة الحرب، ما أغضب الإلهة التي لم تقدر على شقيق رب الأرباب، فقررت أن تلعن العذراء البشرية وتحولها إلى مسخ ينبت من رأسها الثعابين، وتحيل عيونها الساحرة من ينظر إليها إلى حجر، وقضت الفتاة "ميدوسا" حياتها مسجونة في لعنتها حتى قتلها بريسوس وهي بين شقيقتيها اللتين أصابتهما نفس اللعنة.
يحفل "مسخ الكائنات" بحكايات العذارى اللائي أصابتهن اللعنات وتحولن إلى مسوخ مُطاردة ومكروهة بعد أن اعتدى عليهن أحد الآلهة، فيما ينصرف الإله بعدها إلى ضحية جديدة. أشهر تلك "المسوخ" التي تعرضت للتشويه ثم القتل بعد "غواية" الإله لها، ميدوسا الحسناء
كتاب التحولات Metamorphoses الذي ترجم للعربية تحت عنوان "مسخ الكائنات"، وضعه أوفيد خلال القرن الأول الميلادي، وجمع فيه خليطاً من الحكايات والأساطير اليونانية والرومانية، حافل بحكايات العذارى والنساء اللائي أصابتهن اللعنة وتحولن إلى مسوخ بعد "غواية" الآلهة الشبقة بحسب الترجمة العربية التي وضعها وزير الثقافة المصري الأشهر ثروت عكاشة. لكن بعيداً عن الترجمة العربية التي ارتكزت على مصطلح الغواية، فإن للحكايات ومنها حكاية ميدوسا بعد أكثر قتامة، لم تتعرض ميدوسا وغيرها من النساء للإغواء، بل تعرضن للإكراه المعروف قانوناً ب"الاغتصاب".
ميدوسا كما رسمها كارافجيو - 1595
ميدوسا تتجدد
في كل الحكايات التي حواها الكتاب، تتعرض النساء للوصم، أو فقد أسرهن والنبذ من قراهن "مجتمعاتهن" بعد اعتداءات الآلهة أو "غوايتهم" التي تقع بعدها اللعنات على أولئك النساء، بينما يصرف الإله المعني نظره إلى ضحية أخرى جديدة، ولأن اشهر "الملعونات" في الأساطير اليونانية هي ميدوسا، باتت الأخيرة رمزاً لما يلاقيه المتعرضون والمتعرضات للاعتداء الجنسي من "انمساخ" وتشويه ونبذ اجتماعي، كما ظهر في تريند جديد بدأ على منصة التواصل تيك توك، التي تحظى بشعبية وانتشار كبيرين بين الفئات العمرية الصغيرة، إذ تبلغ الفئة العمرية من 9 إلى 29 عاماً 47.4% من مستخدميها، وكانت تلك الفئة هي الأعلى مشاركة في هذا الترند.
جاءت المشاركات من مصر في هذا الترند العالمي صادمة، إذ كانت حكايات كثيرة يقع المعتدي فيها في نطاق الأسرة أو الجيران والأصدقاء المقربين لأسرة ضحية الاعتداء
في الترند الذي انتشر على تيك توك، ترفع فتيات وشباب صغار السن شعار ميدوسا واللوحات المرسومة التي تعبر عنها، أو إظهار صورة وشم لصورة تعبر عن الكائن الأسطوري على أجسادهم، وتجرأت بعضهن/ بعضهم على الحكي عن اعتداءات تعرضن/تعرضوا لها، وجاءت المشاركات من مصر في هذا الترند العالمي صادمة، إذ كانت حكايات كثيرة يقع المعتدي فيها في نطاق الأسرة أو الجيران والأصدقاء المقربين لأسرة ضحية الاعتداء.
هذه الحكايات التي يستمر نشرها حتى اللحظة عبر وسم #ميدوسا، سرعان ما أثارت حفيظة مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي في مصر الذين انقسمت مشاركتهم بين قليل متعاطف وكثير إما يشكك في صحة الحكايات ويتهم أصحابها "بركوب الترند" أو مخالفة قاعدة شرعية بالستر، مطالباً الضحايا بستر أنفسهن/ أنفسهم وستر المعتدين. وازدادت تلك التعليقات الرافضة مع انتقال الوسم إلى فيسبوك وتويتر، واتساع نطاق مشاركة الحكايات عوضاً عن الاكتفاء بإعلان وضع الوشم.
في وسط تريند #ميدوسا شوفت كومنت من واحدة بهيمة بتخاطب البنات اللي بيحكوا تجاربهم مع الاغتصاب والتحرش إن ربنا أمرنا بالستر و ازاي تخرجي تقولي حاجة زي كده حرام ! ما إنتي يا بنت الوسخة انتي واللي زيك اللي وصلوا المجتمع للغابة دي بالسكوت .. ستين داهية تاخدكم
— ?️ (@AyaAbdElWahed20) August 28, 2022
ان بنت تطلع تحكي عن تجربة اعتداء اتعرضت ليها ده مسموش جهر بالمعصية لان هي ( ضحية) واذا بليتم فاستتروا ده لما يكون ليا ايد ف الموضوع يعني واحدة زنت وغلطت ف تستتر لكن لو كل واحدة تم الاعتداء عليها سكتت بالحجج بتاعتكم دي يبقى كل البنات هتتبهدل ومفيش حد هيجيب حقهم
— D.R watermelon (@ammaorymo7amed) August 28, 2022
#ميدوسا
سنوات من التواطؤ والإنكار
من اللافت أن حملة البوح تحت اسم وصورة ميدوسا جاءت تزامناً مع صدور تقرير حقوقي في مصر عن مؤسسة "قضايا المرأة" تحت عنوان "الاغتصاب بعلم المجتمع... سنوات من التواطؤ والإنكار"، أجراها الباحث معاذ محمد، وحصل رصيف22 على نسخة منها.
تناولت الدراسة ما أسمته "حالة الصمت والتكتم على جرائم الاغتصاب والتحرش"، وخاصة ما يتم تسخير الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في تسهيلها، لافتة إلى أن وسائل الإعلام التقليدية، ساهمت في تعزيز تجاهل المجتمع لتلك الاعتداءات ولم تتعامل بمسؤولية مع الظاهرة كخلل اجتماعي، في حين سمحت وسائل التواصل الاجتماعية - على جانب آخر- للضحايا بمخاطبة المجتمع مباشرة من دون حوائل، ما سهَّل من مناهضة لوم الضحية وتحدت مناخ تبرير العنف والأحكام الاجتماعية الانتقائية.
ويوضح الباحث أنه خلال السنوات الثلاثة الماضية، انتشرت الأخبار التي تتناول الاغتصاب بشكل أوسع، مستدلاً على ذلك بأخبار الاعتداءات الجنسية والاغتصاب في الصحف المصرية خلال الفترة من يناير 2018 إلى نوفمبر 2021، بغرض ملاحظة أنماط وسلوكيات متشابهة لمعتدين وضحايا من بيئات مختلفة وبعيدة جغرافياً كعينة بحثية للدراسة. وهو ما يعده الباحث تغيراً في نمط تعامل المجتمع، وخاصة النساء مع الاعتداء الجنسي، وليس تغيراً في نسبة وقوع تلك الاعتداءات.
مع صدور تقرير حقوقي في مصر عن مؤسسة "قضايا المرأة" تحت عنوان "الاغتصاب بعلم المجتمع... سنوات من التواطؤ والإنكار" رصدت أنماطاً مختلفة للاعتداءات الجنسية التي تطال النساء في مصر، ومن بينها اعتداء ذوي القربى
كيف تحدث الاعتداءات الجنسية؟
رصدت الدراسة ما وجه الباحث أنماطاً متكررة تسم جرائم الاعتداء الجنسي في مصر، منها؛ أنه في كثير من الأحوال يكون للمعتدي علاقة سطحية بالضحية؛ فيكون قريب جغرافياً من محل سكنها أو الأماكن التي تتردد عليها باستمرار، ما يمنحه الفرصة لرصدها ومراقبة تحركاتها، فقد يكون جار أو صاحب مشروع تجاري أو عامل يؤدي مهام داخل أو خارج المنزل أو مدرس للضحية أو سائق أو مدرب رياضي، ويستغل الوقت الذي تكون فيه الضحية بمفردها، أو عندما يجد ظروفاً مواتية. وغالبية ضحايا هذا النمط يكونون من الأطفال وذوي الإعاقات الذهنية، حيث يستدرج المعتدي الضحية إلى محل عمله أو سكنه، أو سطح منزل بالتحايل ويتحول سلوكه إلى العنف العشوائي في اللحظة التي تبدأ الضحية فيها مقاومته وقد يصل للقتل أو قطع جزء من أعضاء الضحية لمنعها من التحدث. وإذا لم يقتل الضحية، غالباً ما يفر بعد فشله في إسكاتها أو رؤية آثار الاعتداء كالدماء أو شكوى الضحية بعد الاغتصاب من آلام، خوفاً من ملاحقة أهل الضحية وذويها.
وتتطرق الدراسة إلى اغتصاب المحارم؛ حيث يستطيع المعتدي التواجد حول الضحية ومراقبتها من دون الحاجة للتبرير، وفي هذه الحالة يكون للمعتدي سلطة تخوله تهديد الضحية أو ابتزازها، بجانب التشويش العاطفي الذي يجعل الضحية غير مدركة للاعتداء.
حسب الرصد البحثي، يكون المعتدي في هذه الحالة هو الأب أو الأخ أو الخال أو العم أو الجد أو أبو الزوج أو ابن العم، وقد يستمر الاغتصاب لسنوات تصل إلى خمسة عشر عاماً، ويحدث أحياناً بالتواطؤ مع فرد آخر من العائلة بالصمت أو المشاركة.
أما في حالات الخطف والاستدراج، فالمعتدي يمارس عنف ضد الضحية منذ اللحظة الأولى عبر اختطافها والاعتداء عليها جنسياً والذي قد يستمر لأيام، وتكون الضحايا إناث بالغات أو قاصرات ولكن بنسب أقل، وعادة لا تكون هناك صلة بين المعتدي والضحية، بحسب الدراسة.
مقاومة المعتدي
وأحياناً يتحول الأمر إلى عنف مضاد بحيث تقاوم الضحية من خلال المراوغة فتوهم المعتدي بالتجاوب حتى يترك أداة التهديد ثم تستخدمها ضده كحادثة فتاة العياط في يوليو/ تموز 2019 .
بحسب الدراسة؛ يعد التبليغ والتحدث عن الاعتداء نوعاً من المقاومة، وهو "الهاجس الذي يحرك المعتدي لممارسة التهديد والتخويف والابتزاز"، ويأتي إيثار الضحية للصمت نتيجة "ضريبة مجتمعية" تدفعها الضحية أو الناجية وحدها، وتتمثل في الوصم الاجتماعي والتشكيك في قصتها، واقتران الإبلاغ أو البوح بالفضيحة التي يستتبعها تشويه سمعة الضحية/ الناجية وعزلها مجتمعياً، وهو ما ظهر في ردود الأفعال على المشاركات في ترند ميدوسا، وكما ظهر في حكاية الشخصية الأسطورية نفسها.
باحثون: كثرة أخبار الاعتداءات الجنسية لا تشير بالضرورة إلى زيادة تلك الظاهرة، وإنما هي نتيجة للسوشال ميديا والمدونات التي تصدت لإدانة الضحايا وواجهت التكتم على الجرائم
الأسرة تساهم في الحصار
تتراوح ردود أفعال الأهل بين إدانة الضحية ولومها والخوف من الفضيحة وبين اعتماد روايتها وبدأ إجراءات التبليغ وملاحقة المعتدي قانونياً، وغالباً يكون رد الفعل الأول لأسرة ضحية الاعتداء أو الناجية منه، هو إجراء كشف طبي لاكتشاف مدى تضرر غشاء البكارة، لأن فقدانه بالنسبة للمجتمع يساوي سمعة المرأة وتدمير مستقبلها. ولا تلتفت الأسرة في الغالب إلى الرعاية النفسية وتقديم الدعم النفسي والقانوني للمُعتَدى عليها.
وتبيّن الدراسة تهديد وتخويف الضحايا، وخشية رد فعل الأسرة والأقارب، والمسارعة إلى الاطمئنان على "صحة جسد الضحية" والتهديد بالإدانة المجتمعية للأنثى وتدمير سمعتها "كأن يتم تسريب فيديو جنسي لها"، وانعدام الحماية والخيارات للضحية داخل العائلة، كلها عوامل تعزز من صمت ضحايا الاعتداءات وبالتالي استمرار تلك الاعتداءات واتساع نطاقها، في وقت تتواضع فيه الملاحقة القانونية للمعتدين، كما تتواضع الإحصاءات الراصدة لتلك الظاهرة فلا تعكس حجمها الحقيقي.
المجتمع شريك في تلك الجرائم
ويوضح معاذ محمد لرصيف22، أنه لاقى صعوبة في الوصول إلى الأخبار والمعلومات المتعلقة بحوادث الاغتصاب، والتي يصعب الاعتماد عليها في بناء قاعدة بيانات، مشيراً إلى أن التناول الإعلامي لم يتحل بالمسئولية الاجتماعية بقدر سعيه إلى التفاعل الرقمي والترند.
ويرى الباحث أن المجتمع شريك في تلك الجرائم عبر منح الثقافة الشعبية "غطاءً شرعياً يمد المعتدين بشعور بالاستحقاق، يدفعهم للاعتداء على ضحاياهم"، لافتاً إلى أن تلك الثقافة هي التي تلوم الضحية وتوجه الغضب نحوها، داعياً المجتمع إلى المراجعة والنقد الذاتي.
فيما تعتبر نورا محمد، مديرة برنامج مناهضة العنف بمؤسسة قضايا المرأة المصرية، أن كثرة أخبار الاعتداءات الجنسية لا تشير بالضرورة إلى انتشار وزيادة تلك الظاهرة، وإنما جاء نتيجة للسوشال ميديا والمدونات التي تصدت لتواطؤ وتضليل وسائل الإعلام التي كانت تدين الضحايا وواجهت التكتم على الجرائم وقدمت الدعم للضحايا.
وتشير نورا إلى حالتي أمل عبدالحميد التي حملت نتيجة الاغتصاب وبسنت ضحية التحرش الجماعي، وكان رد فعل الأهل الخوف والإنكار والعار ولوم الضحية وكشف العذرية وقد يتبرأون منها، وأحياناً ينتقلون من محل سكنهم، وقد يتعرضون للتهديد من الجاني وأهله، داعية لتوفير مساحات آمنة لضحايا الانتهاكات الجنسية وتقديم الدعم النفسي والقانوني لهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 16 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 22 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com