شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
تساؤل على هامش الاعتداء على سلمان رشدي: هل هنالك جدوى من العنف؟

تساؤل على هامش الاعتداء على سلمان رشدي: هل هنالك جدوى من العنف؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

عادةً ما يجري تناول موضوع العنف في سياق علاقة المجتمع السياسي بالسلطة بما هي هيئة حاكمة وناظمة للمجتمع، أو على مستوى الحروب والعلاقات بين الدول، فتُطرح في هذا الصدد أسئلة كثيرة ومختلفة حول جدواه وحدوده وتبريراته وعلاقته بالسلطة ودوره في إزاحتها أو تثبيتها... أسئلة كثيرة تتفاوت الأجوبة عليها وتتباين إلى حد التناقض.

وهي تناقضات تتجاوز القسمة الثنائية بين يمين ويسار وتخلق حدوداً جديدة للاختلاف الأيديولوجي تدفعنا إلى إعادة النظر مراراً في ما تعنيه مقولتيْ "اليمين" و"اليسار" كمقولتين شديدتي المرونة والتعقيد، لا كهويات ثابتة وجامدة، كما تدفعنا أيضاً للتفكير في العنف نفسه، أو في ما يعنيه العنف في علاقته بالسلطة، ذلك أن الخلط الشائع بينهما ليس تفصيلاً على الإطلاق، بل يبدو على قدر لا بأس به من الخطورة كما تقول الفيلسوفة الألمانية حنّة أرندت.

النظرة إلى العنف

في حين ينحو البعض إلى رفض العنف مطلقاً أو يرفض المبادرة إليه، يذهب آخرون مذهباً ينظر إلى العنف لا كوسيلة لتحقيق جملة من الغايات فقط وإنما كغاية تختزن بحد ذاتها أو بداخلها طاقة تحريرية للإنسان المقهور، حتى وإنْ لم تسفر عنها أية نتيجة مأمولة تُذكر.

في كتابها "في العنف" (ترجمة إبراهيم العريس، دار الساقي، بيروت، 2015)، تعرض حنة أرندت وجهات نظر طيف واسع من الفلاسفة وعلماء السياسة والاجتماع والأنثروبولوجيا وآراء قادة عسكريين متخصصين بالعلوم العسكرية والحربية في ما خص مقولتيْ "العنف" و"السلطة"، وتتساءل: "كيف يمكننا أن نفهم أن كافة المؤلفين، يساريين أو يمينيين من برتران دي جوفينيل إلى ماو تسي تونغ يتفقون في ما بينهم حول مسألة طبيعة السلطة؟ فيعرّفون العنف بوصفه لتجلي الأكثر بروزاً للسلطة؟".

خلاصة ما تريد أرندت قوله هو أن ثمة فرق حاسم يجب وعيه بين العنف والسلطة، فـ"السلطة تكمن، حقاً، في جوهر كل حكومة، لكن العنف لا يكمن في هذا الجوهر، العنف بطبيعته أدواتي، وهو ككل وسيلة، يظل على الدوام بحاجة إلى توجيه وتبرير في طريقه إلى الهدف الذي يتبعه. ويحتاج إلى تبرير يأتيه من طرف آخر، لا يمكنه أبداً أن يكون في جوهر أي شيء"، وهو "الملجأ الأخير الذي يمكّن من الإبقاء على السلطة غير ممسوسة بوجه المتحدين الأفراد".

وبرأيها، "العنف لا يعزز من شأن القضايا، ولا من شأن التاريخ ولا من شأن الثورات، ولا من شأن التقدم والتأخر، لكن بإمكانه أن يفيد في إضفاء طابع درامي على المطالب وإيصالها إلى الرأي العام للفت انتباهه إليها (...) والحقيقة أن العنف، على عكس ما يحاول أنبياؤه أن يقولوه لنا، يمكن اعتباره سلاح إصلاح أكثر مما هو سلاح ثورة (...) وإن تكتيكات العنف والشغب تكون ذات جدوى بالنسبة إلى أهداف المدى القصير فقط (...) هذا بينما يتبدى العنف غير ذي جدوى بالنسبة إلى أهداف المدى الطويل والتبدلات البنيوية".

كما تنبّه إلى حقيقة أن واحداً من أهم التمييزات وضوحاً بين السلطة والعنف يكمن في أن "السلطة قد ارتكزت على الدوام إلى العدد، أما العنف فإنه إلى حد ما يستطيع تدبير أمره مستغنياً عن العدد، لأنه يستند إلى الأدوات"، لتخلص إلى أن "الشكل الأكثر تطرفاً للسلطة هو ذاك الذي يعبّر عنه شعار ‘الجميع ضد الواحد’، أما الشكل الأكثر تطرفاً للعنف فهو الذي يعبّر عنه شعار ‘الواحد ضد الجميع’".

مع ذلك، يمكن للعنف في حالات محددة كالحرب أن يقوّض السلطة ويحل محلها. وفي حالات أخرى، عندما تكون الحكومة السياسية مستعدة وحائزة على طاعة زمرة من الأفراد، وعندها من أن أدوات العنف ما يكفي لسحل كل مَن يقف في وجهها مهما بلغ عدد هؤلاء أو حجمهم، لا تعود فاعلية العنف معتمدة على العدد، إذ بإمكان رامٍ واحد يملك رشاشاً أن يُخضع مئات الناس المنظمين.

السخرية من رفض العنف

غالباً ما تواجَه الأفكار المناهضة للعنف والرافضة لممارسته بشكل مطلق، كفعل سياسي ذي غايات محددة، بالسخرية، إذ تنطلق الانتقادات للعنف من موقع أخلاقوي بحت يحسب أن مجرد الدعوة إلى السلام هي دعوة كفيلة بتحقيق ذلك في الواقع، ويعتبر أن العمل السلمي وحده مشروع لتحقيق التغيير السياسي أو لتحقيق جملة مطالب.

لكن ماذا عن موقف آخر يرى أن بإمكان العنف إخضاع السلطة لا بما هي هيئة سياسية أو إدارية وحسب، بل بما هي رأي عام أيضاً، وذلك من خلال ممارسات فردية إرهابية أو حتى تنظيمية؟ نحن هنا أمام ادّعاء غير مطروح أو مفكَّر فيه من قَبل، يريد من خلال العنف الفردي أو الميليشيوي إخضاع الهيئة الحاكمة والرأي العام معاً.

"الآن ثمة مَن يدعو للاحتكام إلى العنف فيصلاً في حسم ما يصفه بصراع هويات لا يرحم مع الغرب، فيرفض الالتزام بشرعة حقوق الإنسان في خضم هذا الصراع بدعوى أن ذلك إنما هو من باب الالتزام بقواعد لعبة وضعها الخصم وهو الطرف الأقوى لصالحه"

عادة، يجري توجيه العنف من قبل السلطة الحاكمة ضد المعترضين عليها لإخضاعهم، أو يقوم المعارضون بتوجيه العنف صوب أدوات ومواقع السلطة الحاكمة بغية إزاحتها أو إضعافها أو من باب اليأس لا أكثر. وفي كلتا الحالتين، يقدّم كل طرف أمام الرأي العام تبريرات مختلفة لممارساته العنفية بغية كسب تأييده. حتى الاغتيالات، بعض النظر عن جدواها والموقف منها، فهي تكون لأغراض سياسية محددة وموجهة إما للرأي العام أو لشريحة محددة منه أو للهيئة الحاكمة، لكنها لا تكون على الإطلاق موجهة للنيل من أمة أو حضارة بأسرها بهدف تأديبها كما يطرح البعض ممّن يصنفون أنفسهم "نخباً" في المجتمع، تصريحاً أو تلميحاً.

العنف في صراع الهويات

والآن ثمة مَن يدعو للاحتكام إلى العنف فيصلاً في حسم ما يصفه بصراع هويات لا يرحم مع الغرب، فيرفض الالتزام بشرعة حقوق الإنسان في خضم هذا الصراع بدعوى أن ذلك إنما هو من باب الالتزام بقواعد لعبة وضعها الخصم وهو الطرف الأقوى لصالحه. وثمة مَن يحمّل قيم الحرية "المفرطة" في الغرب المسؤولية أيضاً عن طعن سلمان رشدي ومحاولة قتله لأنها سمحت لأحدهم بأن يشعر بالمهانة!

لكن بغض النظر عن هذا التصور الاستيهامي للغرب، والذي يرى فيه كياناً واحداً متجانساً، لنتصور أن الغرب يفكر فعلاً على شاكلة بعض الإسلاميين السراطيين عندنا، أي أنه يفكر في الصراع بناءً على منطق هوياتي لا نفعي، وأنه رأى في شخص رشدي تجسيداً له، أي للغرب، وفي هادي مطر لا أقول تجسيداً للأمة الإسلامية بأسرها، إنما لفئة واسعة من المسلمين المؤيدين لما ارتكبه، من رجال دين وعلمانيين، فقرر الاقتصاص والنيل منهم بوصفهم مسؤولين عن هذه الجريمة، وردعاً لأي كان عن إصدار فتوى مشابهة في المستقبل أو تأييدها أو تنفيذها في نطاق الغرب الجغرافي والحضاري: مَن كان سيجرؤ على تأييد هذه الفتوى ساعتئذ؟ وكم من الشجعان الذين يريدون الاحتكام إلى العنف اليوم سيبقون ثابتين عند موقفهم؟

بدل أن نشرّق بعيداً، فلنغرّب قليلاً: ماذا لو اعتبر الغرب أن كافة المسلمين في بلاده مسؤولون عن جريمة محاولة قتل رشدي وأنهم إلى جانب ذلك يشكلون خطراً على قيمه وهويته وتاريخه الحضاري، يستدعي اجتثاثهم والتخلص منهم؟ أي مجازر كانت لتحل إذّاك بهذه الفئة وأي مصائب وفظاعات كانت لتتكبدها وتقاسيها؟

"ماذا لو اعتبر الغرب أن كافة المسلمين في بلاده مسؤولون عن جريمة محاولة قتل رشدي وأنهم إلى جانب ذلك يشكلون خطراً على قيمه وهويته وتاريخه الحضاري، يستدعي اجتثاثهم والتخلص منهم؟ أي مجازر كانت لتحل إذّاك بهذه الفئة؟"

لولا أن هناك رأياً عاماً يرفض العنف الجماعي بحق المسلمين ويتبنى المنظومة الحقوقية التي يراد التبرم منها في المواجهة الهوياتية "الطاحنة" المزعومة مع الغرب، ما كان لشيء أن يمنع التنظيمات اليمينية المتطرفة في أوروبا والولايات المتحدة من أن تباشر أعمالاً إجرامية بحق المسلمين منذ زمن بعيد ولكان حال مسلمي الدول الغربية أشد قساوة وقتامة ربما من حال الأقلية المسلمة في الهند.

بل أكثر من ذلك، لو أن سلمان رشدي نفسه كان من أصول هندية هندوسية ومتحدر من إحدى الطبقات العليا في نظام الطبقات الاجتماعية الهرمي المعروف بنظام "الكاست"، ألم تكن محاولة قتله سترتد جرائم كراهية بحق مسلمي الهند والبنغال الغربية لا مسلمي نيويورك أو الولايات المتحدة؟

مَن يريد للخلافات الهوياتية أن تحل بواسطة العنف هل العنف برأيه هو الحل الأمثل لهذه المسألة الهوياتية بامتياز إذا كان يستهدف المسلمين؟ ترى أهو مستعد لأن يذهب ويذود عن إخوانه في الدين في أقاصي شبه القارة الهندية؟ أم أنه يريد من مسلمي "ديار الكفر" في الهند والصين وفي البلاد الأوروبية والأمريكية أن يخوضوا معركة الهوية التي يتخيّلها نيابة عنه فيما يكتفي هو بالرثاء والبكاء على وسائل التواصل الاجتماعي؟

على أن لهذه السردية دلالات إيجابية بقدر ما لها من دلالات سلبية كثيرة، فصحيح أن الاحتفاء بالعنف يصدر عن أساتذة جامعيين وصحافيين وشخصيات تعتبر نفسها أو تُعتبر من النخب في المجتمع ويعكس بشكل ما انحسار مساحة التسامح في المجتمعات الإسلامية العربية، إلا أنها تحمل أيضاً شيئاً آخر بالغ الدلالة: لم يعد بوسع التبرير الفقهي الشرعي وحده الاستمرار في أن يكون مقنعاً بالنسبة إلى شرائح واسعة من أبناء هذه المجتمعات لممارسة العنف، بل ينبغي تقديم تبريرات وحجج تحلل الأغراض والنتائج لقبول فعل العنف.

يطرح هذا تساؤلات جادة عن موقع الشريعة بصيغتها الفقهية المؤسساتية الأورثودوكسية أو السراطية كمرجعية شاملة لحياة ونمط عيش وتفكير الأفراد والمجتمع في البلاد الإسلامية، ويشي بتغيير سيّال، لكن لا ينبغي أن يجرنا هذا إلى إفراط في التفاؤل.

فمع أن درجة التسامح بين الجماعات المتباينة إثنياً و دينياً وعرقياً ارتفعت نسبياً مع الحداثة، وإنْ بنسب متفاوتة بين مكان وآخر وبحسب الجماعات، فإن التقدم التقني الذي وصل إليه الإنسان أتاح لأي شخص يتوفر له الحد الأدنى من أدوات العنف، إلى جانب توفره على الحد الأدنى من الذكاء، أن يُلحق أذى وضرراً ما كان ممكناً لجماعة منظمة أن تحققه في عهد غابر، أي صار بإمكان اللاتسامح أن تكون له مفاعيل أخطر بكثير من أي وقت مضى. وهذا في الواقع يبعث على التشاؤم حيال الوضع الإنساني المعاصر عامة، لأن العنف يجر معه عنفاً مضاداً و"ممارسة العنف، مثل أي فعل آخر، من شأنها أن تغير العالم، لكن التبدل الأكثر رجحاناً سيكون تبدلاً باتجاه عالم أكثر عنفاً"، كما تقول أرندت.

يبقى أنه ضمن مصفوفة التبريرات التي راحت تبرر الاعتداء على رشدي، هناك خطاب واحد فقط على تعاسته وفجاجته متسق منطقياً ومنسجم مع نفسه، هو الخطاب الذي يقول إن دم رشدي مباح لأن الشريعة أباحت دمه وكفى. فإذا سأل أحدهم من باب المنافحة أو لإحراج خصمه: وما الغاية من قتله؟ هل يعود ذلك بفائدة على الإسلام والأمة؟ ألا ينعكس ذلك سلباً على أوضاع المسلمين في بلاد الغرب؟ كان الجواب بسيطاً وسهلاً: هذا أمر لا يعنينا، فإطاعة الشارع وتنفيذ الأحكام والتكاليف الشرعية أمر غير مشروط بمعرفة الحكمة الكامنة وراء الحكم. أما تخبط الخطابات الأخرى وانفراط عقدها منطقياً، بما يتجاوز بكثير ما وصفه جورج طرابيشي، في كتابه "هرطقات عن العلمانية الديموقراطية والممانعة العربية" بأنه "إضراب عن التفكير"، فهو أبلغ تعبير عن أزمة الهوية التي تعيشها المجتمعات التي لم تنخرط تماماً في مشروع الحداثة وعن حالة المراوحة المزمنة بين عدم نضوج الشروط اللازمة لإنجاز الانخراط الكامل في ركب الحداثة واستحالة العودة إلى الوراء أو النكوص الكامل إلى مرحلة ما قبل الانخراط بالحضارة الحديثة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

لا سلطان على الإنسان إلّا عقله

أُنزِلت الأديان رحمةً للعالمين، لكن هل كنّا نعلم أنّها ستُستعمل لمآرب متطرّفة لا تُشبه غايتها السامية؟ هل كنّا نعلم أنّها ستُستخدم ضدّنا، وعلينا، لتصبح خنجراً في الخاصرة، ليس بإمكاننا انتشاله كي لا يتفاقم نزفنا؟

بالإيمان الصوري، والتدين وجاهيّاً، والذكورية الصفيقة، والقداسة الموزعة "غبّ الطلب"؛ استعملت السلطات الدين، وسلّحته ضدّنا في العالم العربي، لتفريقنا، والسيطرة علينا وقمعنا.

"هذا ممنوعٌ وهذا مسموحٌ وذاك مرغوب، هذا حرامٌ وهذا حلال". لكن في رصيف22، شعارنا الوحيد هو "لا للعيش وفق تفسيرات الآخرين". 

Website by WhiteBeard
Popup Image