شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
بعد ذكرى تفجير المرفأ: هل نعيش فصاماً جماعياً أو محاولة تخطٍّ؟

بعد ذكرى تفجير المرفأ: هل نعيش فصاماً جماعياً أو محاولة تخطٍّ؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 23 أغسطس 202201:56 م

لم أكتب عن التفجير بعد. أستذكر اليوم، بعد مرور أسابيع على الذكرى السنوية الثانية لتفجير مرفأ بيروت، بعض انعكاسات ذلك اليوم الذي شاركتُ فيه ولم أشأ أن أشارك.

قبل ليلة من الذكرى هذا العام، وصلت إلى حساباتي على مواقع التواصل الاجتماعي، مشاهد من الانفجار الرهيب لتتقاطع مع اللقطات الصيفية لبعض الأصدقاء من بحر البترون وصيدا وصور. بين تكرّر الفيديوهات التي انتشرت بعد الانفجار، والقصص التي لم تُروَ والجروح التي لم تُداوَ، اخترت فوراً إغلاق حساباتي، خوفاً من مواجهة المشاعر التي رافقتني بعد الانفجار قبل عامين، وكأنني تخلّصت منها أصلاً.

ربما لن أشهد أي عنف أو قمع اليوم، فغضب المتظاهرين/ ات هذا العام مختلف عن غضب العام الماضي.

لم أتخلّص منها طبعاً، لكنني رفضت أن أرى الواقع مجدداً، وكأنني أرفض أن أصدّق أن عامين قد مرّا من دون حساب أو مداواة أو ترميم. 

إنّها الذكرى الثانية. يحضّر جسدي نفسه لاستقبال هذا اليوم، وتتصاعد عوارض القلق ودقّات القلب السريعة. على عكس العام الماضي، لم أكن جاهزةً للتعبير عما أشعر به هذا العام، ووجدت أن الكثيرين في محيطي يرفضون التعبير مثلي. لم أشأ أن أفكر كثيراً، لكن التفكير وجد سبيله نحوي بعد المشاركة في مسيرة الذكرى. 

من الأفضل أن أغادر بيروت اليوم

قرَرت أن أغادر بيروت يومها. أريد أن أثور، لكني أريد أيضاً أن أحمي نفسي من مشاهد الألم والغضب في عيون أهالي الضحايا، ودموع المتظاهرين/ ات، جرّاء رمي القنابل المسيلة للدموع في اتجاههم/ نّ، وقمع السلطة القاتلة، وصدى الصراخ البائس والمحاولات الفاشلة. 

أريد أن أثور، لكنني أتخبط بين دوامة من الشعور بالغضب والشعور بالاستسلام البائس.

إنّها الذكرى الثانية. يحضّر جسدي نفسه لاستقبال هذا اليوم، وتتصاعد عوارض القلق ودقّات القلب السريعة. على عكس العام الماضي، لم أكن جاهزةً للتعبير عما أشعر به هذا العام، ووجدت أن الكثيرين في محيطي يرفضون التعبير مثلي

ربما لن أشهد أي عنف أو قمع اليوم، فغضب المتظاهرين/ ات هذا العام مختلف عن غضب العام الماضي. أخبرتني صديقاتي بأنهن أيضاً أرِدن مغادرة بيروت يومها.

أكتب وكأنني أبرّر لمَن تضرّر أكثر: معظمنا لا نمتلك القدرة على التكلم اليوم، أو النزول إلى الشارع أو البحث عن الأمل. معظمنا نريد فقط أن نختبئ بعيداً ونغادر هذا المكان، رافضين أن نصدّق أن الوضع قد أصبح مروعاً إلى هذه الدرجة من دون أي حساب. 

تقترب الساعة السادسة، نتحدث مجدداً أنا وإحدى صديقاتي، لنجد أننا لم نستطع أن نغادر بيروت كما كنّا قد اتّفقنا. "أشعر بأنه لا جدوى من مشاركتي اليوم في المسيرة، لكنني أشعر أيضاً بالذنب"، تقول إحداهنّ فأردّ بأننا جميعاً ضحايا، ويحق لنا أن نحزن كما نشاء، ثم أجد قدماي تقودانني نحو المسيرة من دون وعي.

ماذا يفعل بائع البوظة هنا؟ من يركب حصاناً وسط الحشد؟ "مش مهمّ".

كأننا في فيلم سينمائي 

لا نريد أن نذهب إلى مسرح الجريمة، لكننا نحضر لمشاركة القليل من الاستياء مع الآخرين. 

أشارك في المسيرة من دون رغبة في التعبير عن الغضب. أحضر وأشاهد من دون التفوّه بأي كلمة. فور وصولي، يسقط جزء من إهراءات القمح التي يُتوقع سقوطها كلياً في أي لحظة. أنظر حولي، وأحدّق في عيون الناس: لا أرى سوى جثث حية تطالب بالعدالة من "لا أحد"، وصور الضحايا ودموع الحزن في كل مكان. أستمع قليلاً: موسيقى وطنية وثورية هنا، وبيانات أهالي الضحايا المتعبة هناك، وصوت موسيقى يصدر من شاحنة بائع البوظة في الوسط. وكأنه مشهد سينمائي من فيلم عن نهاية العالم. ماذا يفعل بائع البوظة هنا؟ من يركب حصاناً وسط الحشد؟ "مش مهمّ".

أستغرب نفسي وسط المشهد المغبّش، وأحاول تنشّق الهواء، فأتنشّق رائحة الغبار الخانقة والدخان المتصاعد الذي يذكّرنا بمشهد "دخنة" الانفجار. أفقد القدرة على التحليل والتفكير وأغادر مسرح الجريمة.

انفصام أو محاولة تخطٍّ؟

أغادر المكان، وأفكر في الأعداد التي شاركت هذا العام، وأشعر أنها المرة الأخيرة التي قد أشارك فيها في مسيرات ذكرى الانفجار. ربما معظم المشاركين اليوم لن يحضروا العام القادم أيضاً... وكأن الرغبة في حماية أنفسنا من مواجهة الحقيقة تزداد مع الوقت. ينتهي هذا اليوم البائس، ونتابع الأسبوع في اليوم التالي.

نعود إلى العمل ومشاركة صور البحر الصيفية وتتلاشى تدريجياً الفيديوهات والمقالات المتعلقة بالتفجير. نعود إلى حيواتنا اليومية، فيما ننتظر الإهراءات لتتساقط من دون التكلم عن مشهد سقوطها المماثل لمشهد الانفجار، أو عن غرابة ذاك اليوم... من دون التكلّم حتى عن بائع البوظة. 

بالعودة إلى بائع البوظة ومشاهد البحر، أسأل نفسي إن كنا نعيش فصاماً جماعياً عندما نختنق ونسهر في اليوم التالي، أم أننا نحاول البقاء والاستمرار ونسيان هذه الذكرى المؤلمة؟ 

بالعودة إلى بائع البوظة ومشاهد البحر، أسأل نفسي إن كنا نعيش فصاماً جماعياً عندما نختنق ونسهر في اليوم التالي، أم أننا نحاول البقاء والاستمرار ونسيان هذه الذكرى المؤلمة؟ 

البعض منا استطاع أن يغادر بيروت يومها، والبعض الآخر فشل مثلي، فشارك في المسيرة من دون الرغبة في ذلك. بين من لا يزال يحاول الوصول إلى العدالة لأنها الطريقة الوحيدة للنسيان، ومن يحاول النسيان عبر الهروب، تشابه كبير. تجمعنا في الحالتين محاولة البقاء والتخطي، إمّا من خلال حماية النفس، أو من خلال المقاومة.

يصف الكثيرون من يحاول التخطّي بالانفصال عن الواقع، لكنني أجدها تهمةً سطحيةً بعض الشيء. تتجاهل هذه التهمة أن من يحاول التخطّي يعلم ببساطة أن الوصول إلى العدالة مستحيل، فيما تقتلنا السلطة يومياً، وتحاول محو ذاكراتنا وتغفل عن سقوط الإهراءات وتعرقل التحقيقات وتحصّن نفسها عبر الإفلات من العقاب، وأتكلم عمن لا يبرّر لأحزاب السلطة كلها حصراً.

بين من لا يزال يحاول الوصول إلى العدالة لأنها الطريقة الوحيدة للنسيان، ومن يحاول النسيان عبر الهروب، تشابه كبير.

فصام في حب بيروت

هل يحق لنا أن نتخطى ونفقد الأمل ونكره بيروت شيئاً فشيئاً من دون الشعور بالذنب؟ بصراحة، لم أعد أريد أن أحاول كثيراً. لم أعد أعرف بيروت حيّةً وسعيدةً وسليمة.

بصراحة، لم أعد أكترث لها كثيراً، وكأن الخوف على أحبائي قد حاز المساحة الأكبر بعد الساعة السادسة من ذاك اليوم.

أفكّر في مستقبلي وأحلامي. لم أحلم يوماً بالابتعاد أو الهجرة بعيداً. لم أحلم يوماً بالانشقاق عن وطني بهدف البحث عن نفسي. لكن بيروت أرهقتنا، وقتلت أحلامنا، وصادرت أموالنا، وقطعت شرارة الكهرباء في قلوبنا. صعب التعرّف على بيروت اليوم؛ أصبح جمالها حلماً وهمياً من الماضي. أكرهها يوماً بعد يوم، فيما أعلم بأنها الضحية.

بعد التفجير، رغبت في ألا نلجأ إلى المرونة السامّة والتأقلم اللذين "يتميز" بهما الشعب اللبناني. فعلاً، لم نستطع أن نكون مرنين ونتخطى سريعاً، لكنني أنظر اليوم إلى مشاهد البحر والمطاعم والملاهي الليلية، وأجد أن البعض عاد إلى المرونة إذ توفرت معه بعض الأموال للرفاهية، فيما لجأ من لم تتوفر معه الأموال إلى التأقلم. وكأننا تعلمّنا هذا العام كيف تتحمل الوضع مقارنةً بالعام الماضي.

تنقص الأعداد في شوارع بيروت، فأفكر في مراحل تخطّي الحزن السيكولوجية، وأتساءل: هل سنلجأ إلى الغضب بعد تخطّي اليأس في العام القادم؟ أم أننا سنختار جميعاً أن نهرب من مسيرة البؤس؟

هل سنبقى في بيروت، لنشارك في الفيلم السينمائي؟ أم أننا سنغادرها خوفاً من أن نواجه الحقيقة المرّة: ستمرّ أعوام كثيرة بعد من دون الوصول إلى العدالة.

أفكر في المتضررين أكثر، وأختار ألا ألوم أحداً على طريقة التعبير عن الاستسلام، فلكل متضرر وسيلة. لكنني أغادر المكان وآمل أن نصل يوماً إلى مرحلة الغضب والاستيعاب بالتساوي، بالرغم من فجوة التفاوت الطبقي التي تتضخم مع الوقت. أغادر المكان وأفكر في أنني لم أعد أريد أن أحلل آليات مواجهة شعب مقتول، فأفضّل الهروب لأجد نفسي على البحر في اليوم التالي، رافضةً أن أصدّق أنني إحدى شخصيات هذا الفيلم السينمائي البائس.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image