على مستوى السياسة يرمز جناح اليمين إلى المجموعات "التقليدية" أو التيار المحافظ، بينما يمثل اليسار المجموعات التي تنادي بالتغيير الجذري، وأول ما عُرف هذا المصطلح كان في فرنسا عقب الثورة في عام 1789، فكان المحافظون يجلسون جهة اليمين من المنصة في البرلمان، وعلى يسارهم يجلس المعارضون.
لم تأت الرمزية السياسية بجديد هنا، فاليمين دائماً رمز إلى الاتفاق مع السائد، واليسار دائماً رمز إلى الاختلاف معه، سواء كان هذا السائد المتوراث ديناً أم عرفاً وتقليداً أم قانوناً.
عربياً وإسلامياً
في البلاد العربية جرى العرف أن ندخل البيوت بالرجل اليمنى لإدخال البركة إلى المنزل، وأن نصافح باليمين، فالمصافحة باليسرى تعتبر ضرباً من الإهانة، كما يعتبر الأكل والشرب باليسرى غير محمود.
يأتي ما سبق على سبيل المثال لا الحصر. كثيرة هي العادات اليومية والمناسباتية التي تحدّد استخدام اليمين وصولاً إلى الدخول إلى "الحمّام" والخروج منه.
في البلاد العربية جرى العرف أن ندخل البيوت بالرجل اليمنى لإدخال البركة إلى المنزل، وأن نصافح باليمين، فالمصافحة باليسرى تعتبر ضرباً من الإهانة
التياسر هو عكس التيامن، وهو في المجمل مذموم دينياً لارتباطه بواجبات أخرى كاتقاء النجاسة وأعمال النظافة الشخصية، وهذا ما يوصف بـ"فضل اليمين"، فإسلامياً يدخل المؤمنون الجنة من جهة اليمين، والكفار يمشون بحسرة إلى جهنم من جهة اليسار.
في حديث عن النبي محمد، رواه مسلم، يقول فيه: "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فيلشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله"، لذلك يعد الآكل بشماله، في المفهوم الإسلامي، متشبهاً بالشيطان.
في شرح الأحوذي للحديث ما يثير العجب والطرافة. فالشِمال برأيه، ينبغي أن يُترك لإزالة "المستقذرات" من الاستنجاء والاستمخاط، ويقول متسائلاً:" كيف يجعل الإنسان أداة إزالة القاذورات والنجاسات هي أداة طعامه الذي يدخل فمه؟".
على مستوى الأمثال الشعبية ، تحمل اليد اليمنى هذا التفضيل المجحف على نظيرتها اليُسرى كذلك، فيقال "لا تعلم شِماله ما تجود به يمينه". فاليمين هي التي تعطي وترمز إلى الكرم والجود هنا، وإذا ما أراد شخص أن يرفع من مكانة أحدهم لديه يقول له: "أنت يدي اليمنى".
وعلى مستوى اللغة العربية ومعانيها نقول اليسار أي الأخرق والشرير والضعيف في مقابل اليمين الذي يمثل الاستقامة والبراعة والحق الجليّ.
احتقار اليد اليسرى عنصرية عابرة للزمان والمكان
هذا الاستقطاب "المقدس" الذي يمايز بين طرفي جسدنا كمبدأ ثقافي صارم ليس حكراً على الثقافة العربية الإسلامية إذ يكاد يشكّل توافقاً شبه عالمي.هذه الرمزية الشيطانية نجدها لدى المسيحية واليهودية والإغريق والهندوسية، فقد كانت محاكم التفتيش في إسبانيا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر تدين المتهمين والمتهمات بالسحر والشعوذة بالاستناد إلى استخدام اليد اليسرى.
على مستوى الأمثال الشعبية ، تحمل اليد اليمنى هذا التفضيل المجحف على نظيرتها اليُسرى كذلك، فيقال "لا تعلم شِماله ما تجود به يمينه". فاليمين هي التي تعطي وترمز إلى الكرم والجود
كذلك، انطبق هذا الإجراء المجرّم على إعدام ماري باركر حرقاً عندما لم تجد محكمة الساحرات في ماساتشوستس الأميركية عام 1692 ما يؤكد اتهامها بالسحر إلا كونها عسراء.
كما كان بعض أساتذة المدارس الكاثوليكية حتى خمسينيات القرن الماضي يضربون طلابهم العسر بشدة، ويجبرونهم على استخدامهم أيديهم اليُمنى، إذ ارتبط العسر لديهم بالشيطان، ولاحقاً بالفكر الشيوعي.
تتكرر مشاهد الاحتقار والتنكيل باليد اليسرى في الحضارات والديانات القديمة على عمومها، إذ ساد اعتقاد جندري لدى كثير من الثقافات القديمة بأن الجزء الأيمن يرمز للقوة والذكورة والأيسر للضعف والأنوثة، إلى الحد الذي كان يتهم به الرجل الأعسر بالمثلية الجنسية.
هذا الفصل المتعسف نجد شبيهه لدى قبائل الماوري من سكان نيوزيلندا الأصليين، فيرمز اليمين لديهم للحياة، واليسار للموت.
أمّا عند بعض قبائل أفريقيا كقبيلة الزولو، فكان أفرادها يضعون يد من يولد أعسر في الماء المغلي ليصبح عاجزاً عن استخدامها، وفي القبائل المستوطنة على ضفاف نهر النيجر كانت تجبر النساء على الطه باليد اليمنى، ومن كانت عسراء، تُطرد من بيت زوجها.
ساد اعتقاد جندري لدى كثير من الثقافات القديمة بأن الجزء الأيمن يرمز للقوة والذكورة والأيسر للضعف والأنوثة، إلى الحد الذي كان يتهم به الرجل الأعسر بالمثلية الجنسية
هذا المشهد القاتم الذي يكاد يكون عابراً للأزمنة والأمكنة تُستثنى منه قبائل الإنكا التي عاشت في القارة الأمريكية في العصر ما قبل الكولومبي، فقد كان الأعسر لديهم يتمتع بمكانة تصل حد التقديس، ويحمل قدرات خارقة على شفاء المرضى بلمسة من يده اليسرى، ويعود السر في هذا التقديس المبالغ به إلى أن ملكهم "لويوبانكي" كان أعسر، ويلقب لديهم بالأعسر المُعظم.
العلم يقول كلمته
في الثالث عشر من آب/أغسطس يحتفل العالم باليوم العالمي للعسر، ليصبح العالم "يسارياً" بالمعنى المجازي مدافعاً عن "طبيعية" أن تكون أعسر بالنيابة عن أقلية بشرية لا تتجاوز نسبتها 12% من سكان الكوكب.كان دين آر كامبل مؤسس المنظمة العالمية للعسر أول من احتفل بهذا اليوم في العام 1976، وهي منظمة معنية بالتوعية بإيجابيات وسلبيات أن تكون أعسر في محاولة منه لتحسين النظرة تجاه هذه الفئة واعتبار التمييز ضدها مجحفاً وظالماً، وهو تمييز قد يراوح بين أمر بسيط كصعوبة استخدام المقص وعدم تخصيص مقاعد لهم في المدارس والعقاب البدني الشديد.
كثير من التمييز الذي راح أصحاب اليد اليسرى ضحيته في السابق كان نتيجة أعراف مسلّم بها في العالم، يكفي أن يقول لك أحد أتباع المذاهب الباطنية: "الجيل الجاي مارح تاكل بإيدك اليمين" جراء ذنب يعتقد أنك ارتكبته لنفهم عمق هذا التوصيف المسيء وارتباطه بالرمزية الأخلاقية.
يأخذنا العالم البريطاني كريس مكمانوس في كتابه المثير (Left hand ...Right hand) (يد يمنى... يد يسرى) في رحلة عبر التاريخ، وحول العالم، أخذاً في الاعتبار الأدلة من الانثروبولوجيا، وفيزياء الجسيمات، وتاريخ الطب، ودفاتر ليوناردو دافنشي ليستنبط أن الفروق بين اليمين واليسار كانت ذات مغزى عميق مشبع بالبعدين الأخلاقي والديني.
يتسق هذا الطرح مع ما يقوله مايكل أنجلو: "اليد اليسرى هي المكان الذي أتينا منه، واليد اليمنى هي المكان الذي حيث نحن ذاهبون إليه". هذا القول الذي يحمل انطباعاً وحدانياً وانسجاماً بديهياً يلغي ذلك الاستقطاب المزيف والقسري بين طرفي جسدنا.
فوفقاً لتقرير نشره موقع (لايف ساينس) البريطاني في العاشر من نوفمبر/ تشرين الأول 2019 تُرجع بعض الدراسات الحديثة مسألة ولادة أحدنا أعسر إلى حالات نفسية تتعرض لها الأم في فترة الحمل كالتوتر الزائد الذي يجعل جنينها يلمس وجهه باليد اليسرى أو يمص إبهامه الأيسر.
يمتلك الشخص الأعسر حزمة من الخلايا العصبية التي تساعده على الربط بشكل أفضل بين نصفي الدماغ، وبالتالي فهم أكثر موهبة وتحكماً
أما الدراسة التي نُشرت في العام 2005 في مجلة (Neuropsychologia)) فتقول إن الأجنة تظهر تفضيلًا ليد دون أخرى في الرحم (عن طريق مص إبهام يد واحدة)، وهي نزعة تستمر بعد ولادتهم، على الرغم من عدم وجود جين يمين أو يسار لكن يبدو أن الحمض النووي يلعب دوراً في التفرد.
وفي دراسة حديثة نُشرت في (Brain: A Journal of Neurology) نظر الباحثون في جامعة أكسفورد في الحمض النووي لنحو 400 ألف شخص في المملكة المتحدة ووجدوا أن أربع مناطق من الجين مرتبطة عموماً بالعسر، ثلاث من هذه المناطق الأربع كانت متورطة في نمو الدماغ وبنيته، فالجانب المؤثر على حركتنا هو الأيسر من أدمغتنا، لذلك نقوم باستخدام أطرافنا اليمنى بشكل أفضل.
أما بالنسبة للعُسر فيحدث العكس ويأخذ الأمر الجانب المعاكس. فالطرف الأيمن للدماغ هو المسيطر لديهم. وبالتالي، يستطيع العسر استخدام أطرافهم اليسرى بمهارة أكبر، ولأن الطرف الأيمن هو المسؤول عن الإبداع والخيال سيمتلك الشخص الأعسر حزمة من الخلايا العصبية التي تساعده على الربط بشكل أفضل بين نصفي الدماغ، وبالتالي فهم أكثر موهبة وتحكماً.
لذلك نجد أن نسبة المشاهير ممن يستخدمون أيديهم اليسرى تفوق نسبة العسر في العالم: فمنهم رؤساء دول كـ"رونالد ريغن" و"بيل كلينتون" أو زعماء تاريخيون كـ"ونستون تشرشل" وفنانون عظماء مثل "بيكاسو" و"بيتهوفن" و"مايكل أنجلو"، ومن الرياضيين "دييغو مارادونا" وابن جلدته الأرجنتيني "ليونيل ميسي" والنجم المصري "محمد صلاح".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...