شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
لا لتعزية المسيحيين المصريين فقط... الإهمال لا دين له

لا لتعزية المسيحيين المصريين فقط... الإهمال لا دين له

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتنوّع

الثلاثاء 16 أغسطس 202203:58 م

على غيار الريق، قال لي أبي مستنكراً فور رؤيتي: "شُفت عملوا إيه ولاد الكلب؟".

كنت أعرف أنه يقصد بكلامه الحادث الذي وقع في كنيسة القديس "أبو سيفين" في حي إمبابة في القاهرة، وأن أبي يتهم "الإرهابيين" بالوقوف خلف الحريق الذي التهم أجساد 41 ضحيةً، وإصابة عشرات آخرين، لا سيما أنه يتابع القنوات المسيحية الفضائية التي ربطت وقوع الحادث الأخير بمرور الذكرى التاسعة لإحراق عشرات الكنائس على يد أنصار جماعة الإخوان المسلمين، إبان خلع الرئيس الإخواني الراحل محمد مرسي من منصبه.

حتى قبل الكشف عن ملابسات الحادث وأسبابه، سارعت القنوات وصفحات السوشال ميديا إلى الإشارة إلى الانتقام الإخواني من المسيحيين طوال تسع سنوات، وفي الموعد نفسه، حتى أن رجل الأعمال المصري الشهير، نجيب ساويرس، خرج وأطلق تصريحات متشابهةً، مشككاً بطريقة فيها إصرار غريب، في أن من وراء الحادث هم "الإخوان"، بالرغم من إعلان التحقيقات الأولية، وأقوال بعض شهود العيان من المواطنين داخل الكنيسة، بأن الحادث وقع بسبب احتراق جهاز تكييف جراء ماس كهربائي، وأن التدافع والتزاحم الشديد أديا إلى اختناق الضحايا بالدخان، لا سيما مع ضيق المبنى الصغير، الذي يخلو من أدنى وسائل الحماية أو السلامة المدنية، متمثلةً في "طفاية حريق واحدة" على الأقل.

امتلأ صندوق رسائلي أيضاً بتعزية أصدقائي من المسلمين، وهو ما يثير الدهشة للتلقائية الشديدة في تعامل الأغلبية المعتدلة مع الكارثة، ووجوب تعزية "شقيق في الوطن"، في مصابه الأليم والوقوف بجواره ومواساته

في المقابل، تدفقت رسائل التعزية على المسيحيين المصريين عبر صفحات التواصل الاجتماعي، الرسمية والشعبية، من المسلمين المصريين، وامتلأ صندوق رسائلي أيضاً بتعزية أصدقائي من المسلمين، وهو ما يثير الدهشة للتلقائية الشديدة في تعامل الأغلبية المعتدلة مع الكارثة، ووجوب تعزية "شقيق في الوطن"، في مصابه الأليم والوقوف بجواره ومواساته. مشاعر نبيلة وإنسانية جداً، لكنها تأتي في سياق يكرّس بشكل ما لعزل المواطن المسيحي عن المجتمع بشكل أو بآخر، وعدّ أن له ما يخصه وحده من أعياد ومناسبات وطقوس، وضحايا وكوارث أيضاً، ويجب مشاركة شركاء الوطن في كل ذلك، حتى يكتمل النسيج الوطني الذي نأمله جميعاً.

ما لا يمكن تجاوزه والوقوف عنده هذه المرة، هو المساواة بين جرائم الإهمال الذي يطال الجميع، وبين العمليات الإرهابية التي تستهدف المسيحيين. 

يمكننا تفهّم وجهة نظر أبي و"ساويرس" التي لا تختلف عن وجهة نظر أغلبية المصريين عموماً، لا المسيحيين فقط، فثمة ارتباط شرطي طويل الأمد بين الحوادث التي تقع للأقباط في مصر، وبين الإرهاب الطائفي للجماعات التكفيرية طوال عقود مضت. لكن ما لا يمكن تجاوزه والوقوف عنده هذه المرة، هو المساواة بين جرائم الإهمال الذي يطال الجميع، وبين العمليات الإرهابية التي تستهدف المسيحيين. لذلك لا تقدّم لي التعزية والمواساة التي أقدّرها تماماً، كوني مسيحياً والضحايا مسيحيين مثلي، لأن ذلك يثير الاشمئزاز أيضاً. ولا فارق عندي بين من لا يترحم على موتى المسيحيين وشهدائهم، من المتشددين، وبين من يصرّ على وضعي في خانة التصنيف، أي تصنيف غير أني "مصري" مثل الجميع تماماً، لذلك فلنعزِّ أنفسنا جميعاً، ولنترحم على كل الشهداء والضحايا، مطالبين جميعاً بتحقيق شامل حول وسائل الحماية المدنية في المنشآت العامة وأماكن التجمعات، والفرق في مستوى التأمين ووسائل السلامة بين حيّ وآخر، ومنطقة وأخرى، في تصنيفات تقهرنا جميعاً، مسيحيين ومسلمين، ومن ليس لهم ملّة لكنهم يتقاسمون معنا الوطن والمعاناة.

لا يا "أبي"، هذه المرة ليس رصاص الإرهاب الذي حصد أرواح المصلّين الأبرياء والأطفال الملائكة، بل قنابل الإهمال هي السبب، الإهمال الذي يحصد أرواح المصريين في كل مكان، في قطارات السكة الحديد، وعلى الطرق السريعة، وفي المستشفيات غير الآدمية، وفي المدارس عبر الوجبات المسممة، أو معديات النيل وأتوبيسات الرحلات، والبلاعات المفتوحة في كل شوارع مصر. بلاعة كبيرة من الإهمال صارت تبتلعنا، حتى لو كنا نتحقق من خطواتنا ونأخذ حذرنا. صارت أرواحنا على كفوفنا وبلا أي ديّة. يقول أبي: "أوحش موتة هي الموتة الفطيس". وترد أمي: "ربنا يكفينا شر الغفلة".

لا فارق عندي بين من لا يترحم على موتى المسيحيين وشهدائهم، من المتشددين، وبين من يصرّ على وضعي في خانة التصنيف، أي تصنيف غير أني "مصري" مثل الجميع تماماً

لا يا أصدقائي، لا يمكن أن تتساوى كوارث الإهمال والجرائم الإرهابية الطائفية؛ الأولى تقصير وتقاعس من المسؤولين وتتعلق بإجراءات السلامة والحماية المدنية، وهي أولى القواعد وأبسطها لأي مكان عام، فيما تتفرع خيوط الجرائم الإرهابية وتتوزع بين أسباب عدة، أكبرها الكراهية للآخر، حتى في حالة الترحم عليه. لكن هذه الحادثة وحوادث مشابهة أخرى لا يمكن عدّها "مصاباً للأقباط"، ونعزي فيها "المسيحيين" كونه واجباً. هل إذا وقعت الكارثة في مدينة ملاهٍ أو على الطريق أو لأي سبب آخر سنعدّها كارثةً تخص طائفةً ما أو جماعةً معيّنةً، أم تخص المصريين كلهم؟ لا يمكن تحجيم الكارثة وتداولها على أنها تخص المسيحيين فقط، بمعزل عن المجتمع وبقية طوائفه من الفقراء الذين يعيشون بلا أدنى وسائل تأمين لحياتهم وحياة أولادهم أينما حلت أجسادهم، سواء عندما يذهبون للصلاة أو للسعي إلى العلم في المدارس، أو حتى للاستجمام في مصيف. أينما حلوا، الموت يبتلعهم. وفي كل مرة تمر الكارثة بتقديم التعازي والمواساة للضحايا، وجمع بعض التبرعات لهم، ونظل ننتظر وقوع غيرها وغيرها.

فلنعزِّ أنفسنا جميعاً، ولنترحم على كل الشهداء والضحايا، مطالبين جميعاً بتحقيق شامل حول وسائل الحماية المدنية في المنشآت العامة وأماكن التجمعات

من الجميل والإنساني الحديث عن بطولات الشباب والنساء في محاولاتهم لإنقاذ الأطفال؛ القس الخمسيني راعي الكنيسة الذي بذل حياته وتوفي مختنقاً بعدما رفض مغادرة الكنيسة، وحاول إطفاء النيران، والشاب المصري ابن إمبابة "محمد" الذي كُسرت ساقه وهو يقفز وسط النيران داخل غرفة ممتلئة بالأطفال، والخادمة الشابة في الكنيسة التي لقيت مصرعها وهي تساهم في محاولة إطفاء النيران والسيطرة عليها قبل تأخّر سيارات المطافي ورجال الدفاع المدني، وغيرهم كثر من الأبطال المجهولين، الذين لولاهم لكان عدد الضحايا أكبر، ويستحقون الإشادة بالفعل بما قاموا به. عشمي الوحيد ألا تأوّلوا المشهد بأكثر مما هو عليه، فما من شهامة وبطولة وتضحية مثل التي عند هؤلاء الذين ضحوا بحياتهم من أجل إنقاذ طفل. لا تصرّوا على تصوير الأمر ببعد طائفي خفيّ في داخلنا، في اللا وعي تقريباً، في محاولة لإبراز مدى الحب والتسامح بين المسلم والمسيحي في مصر، فتتحول البطولات إلى "كليشيهات سمجة" من عيّنة: شاهد "محمد المسلم" ينقذ أطفال الكنيسة، وأول حوار مع المحجبة التي تواسي جارتها "ماري". مثل هذا التناول وهذه العناوين لا تخرج إلا من ما زال يضع حاجزاً بين لمسلم والمسيحي، ويرسخ له ويكرس إلى فرض الأسوار ولو الوهمية بين الطرفين، وأطراف أخرى، حتى لو كانت نوايا من يفعلون ذلك طيبةً ومخلصةً وكانوا يحبون الوطن بحق.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image