"هذا جيل البسكويت، ليكي أمهات هالأيام ما خرجهن شي"؛ هذه العبارة ترددها الأمهات والجدات، عندما تلد الفتاة وخصوصاً إذا رفضت أن ترضع ابنها أو ابنتها بشكل طبيعي، عادّين أن غذاء الجيل الجديد من الأمهات غير كافٍ ليقدمن حنان الحليب الطبيعي.
تصرّ الجدات على مصطلح "الحنان الذي يقدّمه حليب الأم"، وتحكي المرويّات التي تنقلها الجدات إلى الحفيدات، أن طريقة حمل الطفل/ ة وشدّه/ ها نحو الصدر للرضاعة، يعطي المولود/ ة حناناً وقوةً فيكبر بسرعة. هذه هي المعلومات التي حفظتها الجدات عن جداتهن من دون تبرير علمي أو منطقي، يبرره ويطبقه اليوم مفهوم "الأم الكنغر".
تقول الدراسات الطبية إن الأطفال حديثي الولادة ممن يعانون من نقص في الوزن، معرضون لخطر الوفاة بنسب كبيرة، وفي دراسة نُشرت عام 2019، لخبير مشارك في منظمة الصحة العالمية، أشارت إلى أن 80% من وفيات الأطفال حديثي الولادة سببه نقص الوزن، وكان لسوريا حسب الدراسة من 10 إلى 14% من نسبة عدد الأطفال الذين توفوا بعد الولادة.
تبدو عبارات هذه المقدمة غير متناسقة، فيها من نصائح الجدات وأعداد الوفيات بسبب نقص الوزن، وكلمة لم تكن عابرة أبداً: "الأم الكنغر"، أسوةً بحيوان الكنغر، وهي تجربة جديدة يطبّقها بعض الأطباء والطبيبات في سوريا، على الأطفال والطفلات ممن يولدون ناقصي/ ات وزن، ولا تتجاوز أوزانهم/ ن الكيلوغرامين.
إذاً، هل تكون "الأم الكنغر" بديلاً من الحواضن الصناعية؟ وهل يكفي حضن الأم ليزيد وزن الطفل/ ة المولود/ ة بوزن تحت المعدل الطبيعي؟ في هذا التحقيق تفاصيل وتجارب عن "أمهاتٍ كناغر".
التحول إلى كنغر
استفاد العلم من تجربة حيوان الكنغر لرعاية الأطفال والطفلات ممن يولدون بأوزان قليلة، أي أقل من كيلوغرامين، لتزيد أوزانهم/ ن من دون الاعتماد كلياً على الحواضن الصناعية، ويخلق حيوان الكنغر كائناً هلامياً، يدخل في جيب أمه ويتغذى ويعيش آمناً إلى أن يتحول إلى مخلوق قادر على العيش.
تقوم الفكرة على وضع الطفل/ ة على صدر الأم، بحيث يكون كل منهما عاري الصدر تماماً، أو ما يسمى "الجلد على الجلد"، ويُثبت في الصدّارة، بحيث يشبع الطفل حناناً، وأماناً وغذاءً، لنحو 7 إلى 8 ساعات يومياً
تقول الدكتورة منال الحمد، وهي متخصصة في طب الأطفال، لرصيف22: "أكبر تحدٍ للأطباء وللأهل هو وجود الطفل/ ة في الحاضنة، خوفاً عليه/ ها من أي تعرض للأمراض وغيرها، فأتت فكرة الأم الكنغر حتى يخفف الأطباء من قبول الأطفال والطفلات في الحواضن، وهي فكرة ليست جديدةً، بدأ تطبيقها في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي في كولومبيا".
تضيف: "في سوريا، بدأ تطبيق الفكرة على مستوى ضيق عام 2017، إلى أن أصبح اليوم على مستوى جيد في المشافي الحكومية تحديداً، وتقوم الفكرة على وضع الطفل/ ة على صدر الأم، بحيث يكون كل منهما عاري الصدر تماماً، أو ما يسمى "الجلد على الجلد"، ويُثبت في الصدّارة، بحيث يشبع الطفل حناناً، وأماناً وغذاءً، كما تشجع هذه الطريقة على الإرضاع الطبيعي، وأثبتت المنظمات والباحثون فعالية هذه الطريقة وأهميتها ودعوا إلى تطبيقها، إذ تضع الأم طفلها/ تها نحو 7 إلى 8 ساعات يومياً بهذا الشكل، وتلاحظ زيادة وزنه بطريقة مباشرة".
تطبق وزارة الصحة السورية هذه الطريقة بالتعاون مع اليونسيف، ضمن برنامج يضم عشرات الطبيبات والأطباء، والممرضات والممرضين، وتطلق عليه اسم "برنامج الإناب"، وهو اختصار لجملة (every new born action plan)، أي خطة عمل خاصة لكل طفل/ ة حديث أو حديثة الولادة.
تجربة بتول
بتول السلوم (25 عاماً)، أتى ابنها إلى الحياة في شهره الثامن، بوزنٍ يبلغ كليو و900 غرام فقط. كان وضعه خطيراً حسب وصفها، فما كان من الطبيبة إلا أن قدّمت لها طريقة الأم الكنغر. ترددت في البداية، لكنها قبلت بعد أن شعرت بأن هذه الطريقة في الرعاية ستنقذ ابنها.
تتحدث عن تجربتها إلى رصيف22: "رفضت في البداية، وتساءلت ماذا يعني أن يبقى صدري عارياً كل النهار، لكن كرمى لابني ولحياته، قررت أن أجرب وعددت هذه التجربة طوق نجاةٍ، وفعلاً ابني اليوم عمره 4 أشهر ووزنه 4 كيلوغرامات".
بقيت الممرضة تعلّم بتول كيف تضع طفلها بطريقة آمنة، وعندما تشعر بالتعب كانت تعيده إلى الحاضنة، وهي طبقت هذه الطريقة بعد الخروج من المشفى في المنزل، وتقول: "هناك شعور مختلف تعيشه الأم بهذه التجربة، لا يمكن ترجمته، ويجب على كل أمّ أن تطبّق طريقة "الأم الكنغر" حتى لو لم يكن وزن ابنها قليلاً".
قصص وتجارب
حمل شهر تموز/ يوليو الماضي، إلى الوجود ملاكاً صغيراً جداً لا يتجاوز وزنها 1،800 غرام، أسمتها أمها "ملاك". الطفلة التي كانت مهددةً بالموت، نجت عندما تحولت "إلى طفلة لأم كنغر"، وتروي والدتها (21 عاماً) كيف خافت على طفلتها من الحاضنة، فعرضت عليها طبيبة الأطفال هذه التجربة، وتقبّلتها خوفاً على ابنتها التي عاشت معها في غرفة خاصة، ووضعتها لساعات طويلة على جسدها العاري. تقول: "كنت أعتقد أن هذا الموضوع خرافة طبية وأن الأطباء يواسونني فحسب، لكنني اكتشفت أنني كنت مخطئةً، وطفلتي اليوم بألف خير".
تصرّ الجدات على مصطلح "الحنان الذي يقدّمه حليب الأم"، وتحكي المرويّات التي تنقلها الجدات إلى الحفيدات، أن طريقة حمل الطفل/ ة وشدّه/ ها نحو الصدر للرضاعة، يعطي المولود/ ة حناناً وقوةً فيكبر بسرعة
تتحدث جهينة (33 عاماً)، وهي ممرضة في قسم الحواضن، عن تجارب النساء من "أمهات الكنغر"، وتقول: "واجهت الفكرة في البداية رفضاً من قبل الكثير من الأمهات والمرافقين/ ات لهن، من باب الخجل أولاً، ومن جهة أخرى من عدم اقتناعهن بالفكرة"، ومهمة جهينة أن تعلّم الأم كيف ترعى ابنها وتضعه بطريقة "طفل الكنغر"، وترافقها في المراحل كلها.
تشير جهينة إلى أنه "باتت هناك نسبة كبيرة من الأهالي يستغنون عن الحواضن وإن بطريقة جزئية"، وهذا هو الهدف الذي تحدثت عنه منال الحمد، التي أشارت أيضاً إلى أنه ليس بالضرورة أن يكون وزن الطفل تحت الـ2،000 غرام، بل يمكن أن يكون 2،500 أو 3،000 غرام، لكن الأولوية في التطبيق لمن هم/ هن تحت الـ2،000 غرام".
تدريب ونتائج
بتول غنامة، طبيبة أطفال مختصة في أحد المشافي الحكومية في مدينة حماه، وتعمل ضمن برنامج "إناب"، تتحدث عن تجربتها مع الفريق، إذ تدربت في دمشق ضمن وزارة الصحة لثلاثة أشهر، تعلم خلالها الأطباء والطبيبات والممرضون والممرضات على كل المهارات اللازمة، وكل 3 أشهر يخضعون لتدريبات جديدة، ويتحدثون عن تجاربهم/ ن والصعوبات التي تواجههم/ ن، وخصوصاً أن هذه التجربة جديدة نسبياً وقبولها اجتماعياً حتى اللحظة يُعدّ بطيئاً نسبياً لعوامل عدة، أهمها الأعراف والعادات الاجتماعية وخجل الأمهات.
هناك شعور مختلف تعيشه الأم بهذه التجربة، لا يمكن ترجمته، ويجب على كل أمّ أن تطبّق طريقة "الأم الكنغر" حتى لو لم يكن وزن ابنها قليلاً
تقول غنامة، إن "قرار تحويل الطفل إلى تجربة حضانة الأم الكنغر يأخذه طبيب الأطفال مع الطبيب/ ة النسائي/ ة، بحيث تكون صحة الأم جيدةً أيضاً، وهذه العملية لا تعني تخلّي الطفل/ ة عن الحاضنة بالمطلق، إنما بحسب درجة تحمّل كل أمّ، ويستطيع بعض الأطفال/ ات التخلي عن الحاضنة كلياً".
ربط مع الماضي
تشير إحدى الجدّات إلى أن هذه القصة ليست جديدةً، إذ ربطتها مع الماضي، وتحديداً نهايات التسعينيات وبداية الألفية الثانية، حتى تاريخ السنة التي سبقت الحرب في سوريا، إذ كانت تزور بعض الأرياف في سوريا "القرباطيات، أو النوريات"، كما يسمَّون باللهجة المحلية الدارجة، وكل منهن تضع طفلها الرضيع في "الشقبان"، وهي قطعة قماش ربطتها بطريقة محكمة، تلصق طفلها بصدرها، وتقيه من كل الظروف والعوامل الجوية، في الحر وفي البرد الشديد، وكلما جاع/ ت، وضعته/ ها على ثديها ليشبع من حليبها الطبيعي.
والفعل نفسه كانت تمارسه النساء في أثناء الحصاد منذ زمن بعيد نوعاً ما، وفي هذا الذي يُسمّى "شقبان"، ينام الطفل، ويشبع حناناً. أيضاً لم يكن يعرف الأهل حينها أن لهذا الشقبان فوائد صحيةً كثيرةً، تزيد من وزن الطفل، وتشبعه حناناً وأماناً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...