كان لا بد أن أتهرب من المأزق الذي وجدت نفسي فيه مع الصاعدة بأن أقول لها إن تسكين الأدوار في الفيلم ليس من اختصاصي، وأن عليها كبطلة أن تتحدث مع المخرج والمنتج في ذلك، وأنني سأكون سعيداً إذا أسندوا لها أي دور، أما دوري أنا الذي انتهى بالكتابة، فلم يبق من متطلباته إلا مناقشة الشخصيات مع المخرج والممثلين وتفسير أفعالها والتفكير في تاريخها ودوافعها، وهو ما سيسعدني أن أفعله دائماً، معرباً عن استغرابي من رفضها لدور البطلة الذي لا أرى أنه يحتوي على ما يخيف أو يقلق، وقد قدمت السينما المصرية ما هو أجرأ منه بكثير في أفلام لم تزعج الجمهور ولم تدفعه لرفضها أو كراهية أبطالها.
قبل أن ألحق هذا "البُقّ" الطويل الحازم بآخر مقتضب أستأذن فيه لكي أنصرف، عادت الصاعدة لتسألني عما إذا كنت مستعداً لتغيير شخصية البطلة، ليكون لديها منذ البداية موقف رافض لشرب المخدرات والخمور، أو حتى موقف متحفظ لا ينغمس في الحفلات والسهرات التي يحضرها أصدقاؤها، لكي أساعدها على دخول قلوب الجمهور، فلم أجد في رصيد صبري ما يسمح بإجابة دبلوماسية، فقلت لها إن ذلك سيغير شكل دراما الفيلم ويضعف تأثيرها المرتبط بتلك التفاصيل، وهو ما لن أقبل به بأي شكل من الأشكال، متسائلاً عما إذا كان قد حدث بينها وبين المنتج كلام في هذا التفكير، فنفت لي ذلك بشكل قاطع وأقسمت أنها لم تفاتحني في الموضوع إلا لأنها استبشرت بي خيراً، وأدركت أنني سأتفهم رغبتها في أن تسير فيما وصفته بأنه "سِكّة فاتن حمامة" في السينما، لأن هذه السِّكّة هي التي ستجعلها تطيل البقاء في قلوب الجمهور على حد تعبيرها.
قبل أن ألحق هذا "البُقّ" الطويل الحازم بآخر مقتضب أستأذن فيه لكي أنصرف، عادت الصاعدة لتسألني عما إذا كنت مستعداً لتغيير شخصية البطلة، ليكون لديها منذ البداية موقف رافض لشرب المخدرات والخمور
لم يكن مجدياً أن أواصل إنفاق المزيد من الوقت في حديث لا طائل منه عن الاختيارات السينمائية التي ترغب فيها الصاعدة، وقول كلام كان يمكن أن يقال في الأربعينات والخمسينات عن الفرق بين شخصية الممثل في الحياة والشخصية التي يلعبها في السينما، لذلك قلت لها إنني سأدعمها لو اختارت لعب الدور الصغير، لأنني لن أكون مستعداً لعمل أي تغييرات في شخصية البطلة، وحين رجتني أن يظل كل ما دار في الجلسة بيننا ولا يصل إلى أحد، اعتذرت لها وقلت إنني وعدت فريق العمل بنقل ما دار بيننا فور خروجي من عندها، وأنني سأخرج من عندها رأساً إلى مكتب المنتج، وشجعتها على أن تكون صريحة في إخبار الجميع بما تفكر فيه تجنباً لضياع الوقت والجهد، وهو ما اعتبرَته إشارة سلبية إلى لقائي بها، فظهرت على وجهها ملامح الامتعاض، وجاهدت لكي تكون لطيفة معي ونحن ننهي جلستنا التي طالت وبوّخت، لكن ذلك لم يمنع والدتها من توديعي بمنتهى اللطف وهي تشد على يدي وتدعو لي ولكل الذين جعلهم الله سنداً من أجل ابنتها التي لم تجد من ينصفها في لبنان وباريس، ولذلك جاءت إلى مصر أم الدنيا بحثاً عن الإنصاف والنجاح والبعد عن ولاد الحرام.
أدركت أنني سأتفهم رغبتها في أن تسير فيما وصفته بأنه "سِكّة فاتن حمامة" في السينما، لأن هذه السِّكّة هي التي ستجعلها تطيل البقاء في قلوب الجمهور على حد تعبيرها.
لم أفهم ما حفل به كلام الأم الختامي من مرارة أثارت ارتباك ابنتها، إلا حين عدت إلى المنتج والبطل والمخرج لأخبرهم بما دار في الجلسة، وأعبر عن رفضي القاطع لعمل أي تعديلات في شخصية البطلة بالشكل الذي تقترحه الصاعدة، وهو ما لم يختلف معي فيه أحد، خصوصاً المنتج الذي قال إنه يريد أن يؤكد لنا للمرة الألف أن ما يهمه هو مصلحة الفيلم قبل كل شيء، وأن ترشيح أي موزع خارجي أو داخلي لأي ممثلة أو ممثل لن يكون أبداً على حساب الفيلم، ثم قال باستياء إنه كان يتوقع أن تقدّر "بسلامتها" فرصة مثل هذه بدلاً من أن تتعامل معنا بوصفها نجمة ذات حسابات عريقة، وتصورنا كأننا نطلب منها أداء مشاهد خارجة وفاضحة، مع أن كل المشاهد التي يفترض أن ترقص فيها البطلة في حفلات مع زملائها الذين يشاركونها شرب المخدرات، لا تختلف كثيراً عما تقوم بأدائه في كليباتها.
تحت تأثير انزعاجه مما جرى، بدأ المنتج في حكاية معلومات عن الصاعدة، عرفها الناس بعد ذلك حين جاءت سيرتها في كل برامج التوك شو بعد ذبحها من الوريد إلى الوريد، فقال إنها جاءت إلى مصر قبل أشهر، لا لكي تبحث عن فرصة فنية فقط، بل لكي تنفد بجلدها من سطوة منتجها ووكيل أعمالها اللبناني الذي كانت تغني لحسابه لفترة في ملهى ليلي في باريس، والذي كان قد قام بتوقيع عقد احتكار معها بعد أن لمع نجمها في أشهر برنامج تلفزيوني عربي لاكتشاف المواهب، ويقال إنه دفع الشيء الفلاني لكي يفسخ العقد الذي كانت قد قامت بتوقيعه مع مخرج ومنتج برنامج المواهب، وارتبط معها باتفاق مدته 15 سنة بشرط جزائي يصل إلى خمسة ملايين دولار، ملتزماً بتطوير موهبتها الغنائية والاستعراضية على أيدي متخصصين.
حين رجتني أن يظل كل ما دار في الجلسة بيننا ولا يصل إلى أحد، اعتذرت لها وقلت إنني وعدت فريق العمل بنقل ما دار بيننا فور خروجي من عندها، وأنني سأخرج من عندها رأساً إلى مكتب المنتج
بعدها بفترة وجيزة، تحول ارتباطهما الفني إلى ارتباط شخصي وعاطفي، زعمت الصاعدة المحيّرة أنه حدث عن طريق الخداع، فمع أنها ضعفت وارتبطت به عاطفياً، إلا أنه كما قالت لمنتجنا جعلها توقع على ورقة بيضاء، قام بتحويلها بعد ذلك إلى وثيقة زواج، مع أنها كانت لا تزال على ذمة زوجها الأول، زميل دراستها الذي ارتبطت به بعد أن هربت من بيت أبيها في نهايات مراهقتها، ولم نكن نعلم وقت استماعنا إلى هذه الحكايات أن الخلاف الذي قالت للمنتج إن محكمة مصرية على وشك حله لمصلحتها سيتطور ويتعقد، وفي حين كنت متشوقاً لمعرفة تفاصيل جديدة من المنتج عن تلك الصاعدة التي أوحت لي قبل ساعات أنها في قمة النضج والعقل، بعكس ما بدا من سيرتها الصاخبة، فرملني المخرج حين طلب بشكل قاطع أن نقفل ملفها عديم الجدوى، ونبدأ في التفكير في اسم بطلة مناسبة لكيلا يتعطل التصوير، فرجاه المنتج أن يعطيه فرصة أخيرة لحسم الموقف معها، لأنه لا زال يعتقد أنها الأنسب لفيلمنا، الذي كان حظه أحسن بكثير من حظها.
لكن ذلك لم يمنع والدتها من توديعي بمنتهى اللطف وهي تشد على يدي وتدعو لي ولكل الذين جعلهم الله سنداً من أجل ابنتها التي لم تجد من ينصفها في لبنان وباريس
بعد أن انتهت جلستنا في مكتب المنتج، عرض بطل الفيلم أن يوصلني إلى بيتي القريب بعض الشيء من بيته، وبعد أن ودّعنا المخرج وركبنا سيارة البطل، شعرت أنه أصرّ على توصيلي لأن لديه ما يقوله لي. كانت صداقتنا التي صارت وثيقة فيما بعد لا زالت في طور التجدّد بعد أن انقطعت لفترة بعد أزمة أعقبت فيلمنا الأول معاً، وبعد أن بدأ بمقدمة عن ضرورة ألا أفهم كلامه خطئاً لأنه حريص على صداقتنا واستمرار نجاحنا السابق، قاطعت استرساله وطلبت منه أن يتحدث دون مقدمات لأنني أرغب في الاستفادة من خبرته السينمائية التي بدأت قبل أن يحترف التمثيل بسنوات، نظراً لكونه من عائلة فنية عريقة، فضلاً عن عمله كمساعد مخرج بعد دراسته للسينما، فقال إنه فكر بالأمس أن يتصل بي لينصحني بالاعتذار عن مشوار بيت الصاعدة، حتى لو أغضب اعتذاري المنتج، وقال إنني كان يجب أن أصرّ على أن تتم أي لقاءات مع أي ممثلات في مكتب المنتج وبحضور فريق العمل، وأنها إذا كانت قد عدّت على خير هذه المرة، واتضح أن الصاعدة أطيب وأغلب مما تخيلنا، فإن ذلك يمكن ألا يحدث مع أخريات، ومن يدري ربما يوقعني الحظ العاثر مستقبلاً في سكة غير مأمونة، فيساهم حسن ظني بالناس في إساءة سمعتي لدى كل الناس.
شكرت البطل على رأيه ونصيحته المهمة التي كانت حجر زاوية في صداقتنا التي ظلت تتطور من فيلم لفيلم، ثم قلت له إنني لاحظت أنه على غير عادته لم يبد أي رأي فيما قلته، والتزم الصمت طيلة جلستنا مع المنتج، برغم أن مشاعر القلق بدت جليّة على وجهه حين استمع إلى ما قلته عن طلبات الصاعدة الغريبة، وفاجأني رده الذي أظهر لي في تلك الليلة عن وجه محنّك لم أكن قد رأيته منه في فيلمنا الأول، ربما لأن أغلب لقاءاتنا كانت تتم في حضور فريق العمل، أو ربما لأنه لم يكن قد اكتسب بعد ثقة النجاح التي تحققت بعد أن نجح فيلمنا وكسّر الدنيا، وإن كان فيلمه التالي الذي كتبه مؤلف آخر قد تعثر في الإيرادات كثيراً، لكنه زاد من خبرته الفنية وجعله أكثر حرصاً وحذراً في خطواته وقراراته.
طيب، ما الذي سيحدث يا صديقي لو فشلت محاولاتي لعرقلة الاستعانة بممثل أو ممثلة أعلم أنهما سيكونان سبباً في الإضرار بفيلمي إما بسبب ضعف موهبة التمثيل أو قوة موهبة إثارة المشاكل والخلافات، هل أقف ملجوم اللسان دون أن أبدي رأيي؟
أسداني البطل النصيحة الثمينة الثانية في تلك الليلة والتي استقاها من خبرة العاملين بالسينما في عائلته، ومفادها ألا يصدر عنك أبداً رأي معلن فيما يخص ترشيحات الممثلين والممثلات، حتى إذا كنت تعلم شيئاً عن الاسم الذي تم ترشيحه، ليس فقط لأن رأيك يمكن أن يكون سبباً في قطع الأرزاق، ولكن لأن رأيك حتماً سيصل مهما ظننت العكس، وسيكون سبباً في عداوة أكيدة من باب "يا قاطع قوتي يا ناوي على موتي"، وأن أقصى ما يمكن أن تفعله حين تسمع اقتراحاً باسم ممثل أو ممثلة، أن تثني على اختيار الاسم، ثم تطرح اسماً آخر يكون أقدر وأفضل ويا سلام لو كان أوفر بالنسبة للمنتج، وعندها لن يمسك عليك أحد غلطة، وستكون قد أحسنت إلى فيلمك دون أن تسيئ إلى أحد.
طيب، ما الذي سيحدث يا صديقي لو فشلت محاولاتي لعرقلة الاستعانة بممثل أو ممثلة أعلم أنهما سيكونان سبباً في الإضرار بفيلمي إما بسبب ضعف موهبة التمثيل أو قوة موهبة إثارة المشاكل والخلافات، هل أقف ملجوم اللسان دون أن أبدي رأيي؟ ألا يمكن أن يفسر سكوتي علامة رضا يحدث بعدها ارتباط بعقد ملزم مع الممثل فيستحيل إبعاده عن الفيلم حتى بالضالّين؟ ما الذي سنفعله لو عاد المنتج إلينا في الغد وقال إنه أسمع الصاعدة كلمتين بائختين اعتذرت بعدهما عن الفتي والبَمْبَكة، ورضت بما هو مكتوب وتعهدت بأدائه على أكمل وجه، وهو ما نعرف جيداً أنه لن يحدث، ما الذي سنفعله حينها؟
...
نختم الحكاية الأسبوع القادم بإذن الله
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...