انتشرت خلال الأيام الماضية صور وفيديوهات لسيدة تحتضن المطرب العراقي كاظم الساهر، في أثناء حفله في دار الأوبرا المصرية. ومع وجودها في كل جانب من جوانب السوشال ميديا، عُدت بالزمن إلى 15 عاماً مضت، وحفلات ليالي التلفزيون التي كانت تحفل بها مصر، في الصيف، ويُحييها المطرب العراقي، والسيدات يملأن القاعة وهن يرددن كلمات أغنياته المُشعّة بالحب والولع بالحبيبة. كانت تظهر على ملامحهن نظرات لم أستطع نسيناها حتى الآن، وهي نظرات الوله والشوق إلى حبيب لا يمكن التصديق على وجوده في الحياة.
كانت تظهر على ملامحهن نظرات لم أستطع نسيناها حتى الآن، وهي نظرات الوله والشوق إلى حبيب لا يمكن التصديق على وجوده في الحياة.
لم تجُل في خاطري مع فيديو كاظم الساهر واحتضان السيدة له، مشاهد السيدات الناظرات والمتيمات فحسب، ولكن أيضاً اختلط الأمر بذكريات سيئة كنا نتحدث عنها نحن الفتيات في أرجاء المدرسة، وكنا قلةً نستمع إليه في ذاك الوقت، وبمعاني كلمات الأغنيات التي كنا نستمع إليها ونشعر من خلالها بأننا أفضل من البقية في عالم اللغة والمعاني، وبأننا أصحاب الطفرة في اللغة، وبنظرات الانبهار في أعين مدرّسي اللغة العربية الذين يشعرون بالفخر لأننا نعلم كلمات باللغة العربية لا يعلمها سوانا، وكانت تصاحب ذلك الفخر ضحكة ماكرة لم أفهم معناها حينها، ولكن فهمتها بعد ذلك.
اختلاس السمع
لم أنكر أننا بالرغم من حبنا الطفولي لكاظم الساهر ونظرات البريق في عيني كل واحدة منا، وللسيدات اللواتي يستمعن إليه، قالت إحدانا على حين غرة في أثناء مشاهدتها إحدى حفلاته: "حفلة لكاظم الساهر يعني مفيش ست في بيتها النهار ده كلهم هيروحوا يتفرجوا على الحفلة". بعد تفوهها بهذه العبارة أصابتها نظرة غاضبة من والدها، الذي عدّ أن ما تحدثت به خارج عن الحياء، وتذمرت الصديقة حينها ولم تفهم لماذا قال والدها ما قال أو فعل ما فعل، ولكنها شعرت بأن ربط اسم كاظم الساهر بالسيدات أمر سيئ يجب ألا تفعله بعد ذلك.
لم تجُل في خاطري مع فيديو كاظم الساهر واحتضان السيدة له، مشاهد السيدات الناظرات والمتيمات فحسب، ولكن أيضاً اختلط الأمر بذكريات سيئة كنا نتحدث عنها نحن الفتيات في أرجاء المدرسة
لم تكن تلك الصديقة هي الوحيدة التي أصابتها فوبيا ردود الفعل على الإعجاب بكاظم الساهر، بل هناك صديقة أخرى كانت تستمع إليه خلسةً بعيداً عن والدها الذي كان يتهمه بشكل دائم بأنه يثير مشاعر السيدات وبأنه قليل الحياء، وكيف له أن يختار تلك الكلمات لكي يتغنى بها. نعم، ما كنا نعدّه نحن أعظم كلمات اللغة كان يُشتَم هو بسببه، وحين تلصص عليها والدها في إحدى المرات -وهو ما تعتاد عليه بيوت عربية عديدة للاطمئنان على "شرف بناتهن" من الغرف المغلقة- وجدها تستمع إلى أغنية "يا مستبدّة"، عند مقطع يقول فيه:
"سيستدير كخاتم في أصبعي
ويشب ناراً لو رأى شخصاً معي
سترونه بيدي أضعف من ضعيف
وبين أقدامي كأوراق الخريف".
فوجئَت صديقتي وقتها بأن الأبواب المغلقة أصبحت على مصراعيها، وبحالة من الهجوم الأبوي عليها، بسبب الأغنية، واتهمها بأنها لا تفهم المعنى الخفيّ لها، وأنه يجب ألا تستمع إلى تلك الكلمات البذيئة، وقام بالحصول على شريط الكاسيت منها مُحذراً إياها من تكرار الأمر. ومع ما حدثتنا به صديقتنا في إحدى الجلسات صرنا نعرف الكلمات التي يمنعنا عنها آباؤنا.
نعم، ما كنا نعدّه نحن أعظم كلمات اللغة كان يُشتَم هو بسببه، وحين تلصص عليها والدها في إحدى المرات -وهو ما تعتاد عليه بيوت عربية عديدة للاطمئنان على "شرف بناتهن" من الغرف المغلقة- وجدها تستمع إلى أغنية "يا مستبدّة"
ولكن ظل الجميع يستمعن إلى أغنيات كاظم الساهر التي تتحدث عن الحب المُحرّم علينا بكل تأكيد، خلسةً، إما في الأوقات التي لا يتواجد خلالها آباؤنا في المنزل، أو بصوت خفيض وخافت جداً حتى لا يستمع أحد إلينا.
البحث عن كاظم
مع إثارة آبائنا لفضولنا تجاه كلمات كاظم الساهر، وكأنه الوحش المفترس الذي سيأتي ليحصل على شرف بنات المدينة، بدأت ما كان يُطلق عليها "الفئة المثقفة" من الطالبات بالبحث عن المعاني التي أصبح ممنوعاً علينا سماعها، لنجد أن أغلب الكلمات التي كان يتغنى بها في تلك الفترة، هي للشاعر نزار قباني. وبالبحث عن المعاني، بدأنا باكتشاف عالم آخر لم نكن نعلم عنه شيئاً، ومعانٍ لم يقم أحد بتعليمنا إياها في المدرسة، مع أنها كُتبت بلغتنا الأم.
كانت طفولتنا تأخذنا إلى معرفة معنى كلمة "نهد"، ولماذا سيتساقط كاظم الساهر بين أقدام محبوبته، ولماذا قام والد صديقتي بنهرها حينها؟
كانت طفولتنا تأخذنا إلى معرفة معنى كلمة "نهد"، ولماذا سيتساقط كاظم الساهر بين أقدام محبوبته، ولماذا قام والد صديقتي بنهرها حينها؟ وبدأنا ندرك شيئاً فشيئاً لماذا كانت السيدات ينظرن إلى كاظم الساهر بهاتين العينين العاشقتين المتيمتين، وما تفتقده كل واحدة منهن من كلمات تصف محاسنهن أو على أقل تقدير مفاتنهن.
نزار قباني والتحريم
في رحلة البحث حول كاظم الساهر، وجدنا أن الشاعر نزار قباني هو من أطلق كل هذه الكلمات التي تميزت في وصف المرأة ومشاعرها والعلاقة بين الرجل والمرأة، ولكن قراءة الشعر الخاص به محرّمة أكثر من سماع أغنيات كاظم الساهر، فهو "إباحي ووقح وحرام" الاستماع إليه، لأنه يصف جسد المرأة؛ تلك هي المبررات الأبوية لرفض شاعر كبير مثله.
مع انتقالنا كفتيات إلى مرحلة القراءة، بدأ يتم إبعادنا من خلال الرقابة الأبوية عن عدد من الكتّاب، فمنهم من يُرى على أنه مُلحد يهاجم الله، كالراحل العالمي نجيب محفوظ، وبالطبع نزار قباني الفاحش البذيء، والذي أراهن أن آباءنا لم يقرأوا له يوماً قصيدةً أدت إلى تهميشه في دولة، أو أخرى عادى بها نظاماً سياسياً ظالماً، ولكن ما أُخذ عليه هو الفحش ووصف جسد النساء.
مع وصولنا إلى مرحلة النضج، وانتشار قنوات السلفية الدينية، أدركنا حق الإدراك والمعرفة لماذا كنا نُمنع من الشعر والغناء وانتقاء أفلام بعينها لمشاهدتها، والسبب أن شيوخ السلفية تفوّهوا بأن نزار قباني زنديق لا يمكن سماعه
مع وصولنا إلى مرحلة النضج، وانتشار قنوات السلفية الدينية، أدركنا حق الإدراك والمعرفة لماذا كنا نُمنع من الشعر والغناء وانتقاء أفلام بعينها لمشاهدتها، والسبب أن شيوخ السلفية تفوّهوا بأن نزار قباني زنديق لا يمكن سماعه ولا تسمحوا لأبنائكم وبناتكم بأن يستمعوا إليه أو يقرأوا له، فكتاب الله أفضل من هذا، وليحصّلن ثقافتهن من القرآن، وهذا ما سمعته ورأيته من دون "عنعنة"، من أكثر من شيخ سلفي، كان يظهر على التفاز نهاراً ويخطب في العامة ليلاً في المساجد، ويأتي إليه الناس من كل حدب وصوب.
مع تذكّرنا مشهد السيدة التي صعدت على المسرح لتحتضن مطربها المفضل، نعرف بالتأكيد أن الآباء قد انهزموا، وانتصرت أغاني كاظم الساهر
انتصر القيصر
ومع كل عمليات منعي ومنع جيل كامل من الحق في المعرفة وفي سماع ما نحب، أجد أن القيصر كاظم الساهر، قد انتصر، فنحن الفتيات لم نتوقف يوماً عن سماع أغنياته، القديمة منها والحديثة، بل بمنطق أن الممنوع مرغوب، ازدادت شعبيته بشكل أكبر، فأحببنا كاظم الساهر وأحببنا نزار قباني واستمتعنا بالاستماع إلى الأول والقراءة للأخير، من دون النظر إلى الأشياء كما أرعبنا منها آباؤنا. ومع تذكّرنا مشهد السيدة التي صعدت على المسرح لتحتضن مطربها المفضل، نعرف بالتأكيد أن الآباء قد انهزموا، وانتصرت أغاني كاظم الساهر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...