13 عاماً كانت هي المدة الفاصلة بين المرة الأولى لرؤيتي كاظم الساهر والمرة الثانية. أشياء كثيرة تغيّرت، وتجارب عديدة خضتها حوّلتني من الفتى المفتون بالقيصر وهو يدندن "هل عندك شك"، إلى الرجل الذي يخفق قلبه بسبب "سلمتك بيد الله"، وهي رحلة يُمكن لمحبّي الساهر أن يعرفوا كيف كانت.
لكن بعيداً عمّا حدث لي، كان السؤال الذي شغلني على طول الطريق من القاهرة إلى الساحل الشمالي، حيث حفلة كاظم الساهر الأولى بعد غياب أكثر من عقد عن مصر: تُرى ما الذي تغيّر في هذا الفنان الذي لم يجد محبّوه مشكلةً في قطع 400 كم من أجل سماع صوته؟ ذكريات الحفلة الأولى التي حضرتها له في العام 2009 ما زالت عالقةً في ذهني، فهل ستكون العودة نسخةً مطابقةً لما سبق؟
كان السؤال الذي شغلني على طول الطريق من القاهرة إلى الساحل الشمالي، حيث حفلة كاظم الساهر الأولى بعد غياب أكثر من عقد عن مصر: تُرى ما الذي تغيّر في هذا الفنان الذي لم يجد محبّوه مشكلةً في قطع 400 كم من أجل سماع صوته؟
الحقيقة أن الإجابة أتت أسرع مما تصوّرت، فبمجرد دخولي إلى المسرح وتأمّلي في الجمهور؛ لهجاتهم وملابسهم وأعمارهم، أدركت أول الفروق، وتذكرت الحفلة الأولى وقت كان من الممكن تصنيف الحاضرين كطبقة واحدة ليس فقط مادياً بل ثقافياً وعمرياً أيضاً، فمعظمهم فوق الثلاثين ولا سيدة ترتدي الحجاب بينهم. أما في حفلة العام 2022، فكان الجمهور ينتمي إلى كل الطبقات والأعمار، بدءاً من سيدة في السبعين وصولاً إلى فتاة في العشرين، وبدءاً من المحجبة التي لا تظهر سوى يديها ووجهها وصولاً إلى الفتاة التي لا تغطّي سوى صدرها وردفيها، ناهيك عن مجمع اللكنات العربية الذي كان في الحفلة، وإن كان حضور النساء أقوى بكثير كما هي العادة مع الساهر.
هذا التنوع بالحضور يعني أن كاظم الساهر خلال عشر سنوات، وبالرغم من قلة ألبوماته خلالها، استطاع على الأقل أن يُمدد جماهيريته في مصر ويصل إلى كافة الأذواق.
هذا التنوع يعني أن كاظم الساهر خلال عشر سنوات، وبالرغم من قلة ألبوماته خلالها، استطاع على الأقل أن يُمدد جماهيريته في مصر ويصل إلى كافة الأذواق متمسكاً بالطريق الذي اختاره منذ البداية، سواء قصائد الفصحى أو الموسيقى الكلاسيكية وحتى أغانيه الغزلية باللهجات العربية المختلفة، وأن يصبح هو الصوت الذي يُجمع عليه كل هؤلاء بخلفياتهم المتنوعة.
وبالرغم من أن الحفلات التي أحضرها يكتفي المطربون فيها عادةً بعازفين أقلّ مقارنةً بالمهرجانات الموسيقية، إلا أن هذا لا يحدث مع كاظم الذي حضر مع فرقته كاملةً. وبمجرد بدء الحفلة وتوالي الأغاني، ظهرت ثاني التغيّرات في "القيصر"، والتي باتت تتعلق أكثر باختياره أغانيه حسب ذائقة جمهور كل دولة، وهو أمر لم يفعله سابقاً، على الأقل حسب متابعتي، إذ كان يغني أحدث أغانيه ثم ما يريد بعد ذلك. أما الآن، فلا. في حفلات الرياض ودبي رأيته ينتقي الأغاني ذات اللهجات العربية أكثر، والتي تتماشى مع الذائقة هناك، وهو عكس ما فعله في حفلته الأخيرة في لبنان، إذ غنّى فيها أغانيه التي أنجزها خلال فترة عيشه في بيروت، بجانب بعض القصائد مثل "الرسم بالكلمات" التي لم يغنِّها منذ سنوات، ثم أكمل الأمر حين جاء إلى مصر ليشدو "باشكيك لمين" و"أحبيني"، وهما من أقرب ما قدّمه إلى الجمهور المصري، كما ابتعد كثيراً عن أغانيه ذات اللهجات التي لا يتقنها المصريون. أما الفرق الثالث، فكان رفضه غناء "أنا وليلى" بالرغم من المطالبات الكثيرة بها، وبالرغم من أنه كان يهرب خلال السنوات الأخيرة من أداء تلك الأغنية. لكن في جولته الأخيرة، صار أكثر وضوحاً في الرفض، ولا أعرف هل هذا يتعلق بقرار شخصي أم أنه لا يريد أن يصبح أسير تلك الأغنية التي كانت أيقونة كل حفلاته، ما جعلها تتربع على عرش الساهريين، أو ربما ملّ من غنائها.
في حفلة العام 2022، كان الجمهور ينتمي إلى كل الطبقات والأعمار، بدءاً من سيدة في السبعين وصولاً إلى فتاة في العشرين، وبدءاً من المحجبة التي لا تظهر سوى يديها ووجهها وصولاً إلى الفتاة التي لا تغطّي سوى صدرها وردفيها
أما صوت كاظم فهو أحد الألغاز التي رأيتها، ولا أنكر تخوّفي من خفوت حنجرته التي لطالما أطربنا بها بآهات متصلة، فالعمر له أحكامه، وهو على أعتاب السادسة والستين، لكن كل مخاوفي تبددت حين سمعته كما هو، قوياً وقادراً على غناء أربع قصائد طويلة مدتها وحدها ساعة إلا ربع، من دون أن يرتجف، ناهيك عن تأكدي من أنه على المسرح أقوى بكثير منه في أي تسجيلات مسموعة، وهي صفة لم أرَها إلا في علي الحجار، وهي إشكالية لأن سماعه بعد ذلك خارج الحفلات أمر مرهق.
يبقى جمهور كاظم الساهر في مصر ركناً أساسياً من رؤيتي له في المرة الثانية، وكم من قصص رواها معجبوه له يوضحون فيها كيف أثّر على حيواتهم. ولأن المشهد الأبرز كان احتضان فتاة له في دار الأوبرا، لم أجد أفضل مما كتبته زميلتي شيماء جلهوم، عبر حسابها على فيسبوك لأختم به المقال، وقد أخذت موافقتها على استعارة ما كتبت: "يحتفظ كاظم وحده بهذا النوع من المعجبات، من يتنصتن على أبواب الأوبرا التماساً لصوته، الذي حال فقرهم دونه، ومن يعتلين المسرح للتعبير عن هوسهن بمطربهن المفضل، الهوس الذي انتهى عصره مع قفزة الموت لمعجبة عبد الحليم حافظ في أثناء جنازته، تلك الحالة التي تتجاوز الإعجاب بالمطرب، وتتجاوز الغناء نفسه، متوحدةً مع الحالة ومع العمر ومع الحلم... الحلم الذي جعل امرأةً ناضجةً تتخلى عن وقارها لتحتضنه، ليس احتضان عاشقة بل تمسك بالحلم وبالعمر وباللحظة التي ودّت ألا تنتهي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...