"ما كنت بعرف شي. كنت مفكّرة الزواج فستان وضهرات"؛ هكذا استهلّت ريم (اسم مستعار)، وهي إمرأة لبنانية، حديثها وهي تروي قصّتها. "تزوّجت في الرابعة عشر من عمري. كنت تلميذةً مجتهدةً، وكم وددت لو أنّي أصبح طبيبةً أو أتعلم صناعة الدواء، ولكن...". تتلعثم ريم وتستسلم لدموعها وللحظات لا متناهية من الصمت. هي تزوّجت لتعيل أهلها بعدما شعرت بأنّها أصبحت تشكّل عبئاً اقتصادياً عليهم. تتذكّر ليلة دخلتها على أنها الليلة التي كرهت فيها جسدها إلى حدٍّ أصبحت علاقتها معه غريبةً. "غريبة" أيضاً بالنسبة لها لحظة ولادة طفلها. وبابتسامة عفويّة توصّف وضعها: "ولد عم بيربّي ولد".
هو زواج حصل قبل سنوات عدة، أي قبل بداية الأزمة الاقتصادية في لبنان. وكما كل زواج من هذا النوع، فهو يثير أسئلةً عديدةً يتعلّق أبرزها بمصير القاصرات، لا سيّما في خضمّ الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادّة التي تضرب لبنان، ووسط غياب قانون يحمي الأطفال والطفلات من التزويج.
فشلت الدولة اللبنانية في إقرار قوانين منصفة بحقّ النساء والفتيات بما فيها تلك التي تضع حدّاً لتزويج القاصرات، أي التي تمنع الزواج قبل سن الثامنة عشر. والحال هذه ليست سوى نتيجة موقف واضح اتخذته الكتل الحزبية النيابية بتكريس الطائفية وإعلائها على أيّ مشروع أو قرار أو حكم دستوري يدفع في اتجاه قانون مدنيّ موحَّد للأحوال الشخصية.
خلال الجلسة الأخيرة للجنة الإدارة والعدل النيابية، والتي ناقشت مقترح قانون حماية الأطفال والطفلات من التزويج المبكر في حزيران/ يونيو 2022، علت مصالح رجال الدين على القانون، مشكِّلةً انتهاكاً فاضحاً لاتفاقية حقوق الطفل النافذة منذ ثلاثة عقود والمصادَق عليها من قبل الدولة اللبنانية. وصدحت حينها، في قاعة المجلس، الخطابات الذكورية التي تعيد ترتيب "الحقوق" وأولويّاتها، وتهمّش حقوق النساء والفتيات بحجّة الفقر والأزمة الاقتصادية. وكأنّ من تقاعس في إنصاف النساء والإقرار بحقوقهن على مدى سنوات، سيجترح حلولاً ويكتشف مخارج لأزمة عامة راسخة الجذور بسبب نزعات فئوية وسلطوية تُعلي حسابات ضيّقة على أحقيّة قضية إنسانية وانتظام مصلحة اجتماعية.
فشلت الدولة اللبنانية في إقرار قوانين منصفة بحقّ النساء والفتيات بما فيها تلك التي تضع حدّاً لتزويج القاصرات، أي التي تمنع الزواج قبل سن الثامنة عشر
غياب القانون وآليات الحماية
في الوقت الذي تتفاقم فيه الضائقة الاقتصادية وتنهال الأزمات على أنواعها من كل حدبٍ وصوب، ترزح فتيات عديدات تحت خطر التزويج القسري وتتزايد كل ظواهر الإتجار بالبشر في ظلّ غياب إحصاءات أو أرقام تضيء على هذه الممارسات وقوانين رادعة تضبطها.
"تعرّضت كتير للضرب من زوجي وأهله". ولاء (اسم مستعار)، لاجئة سوريّة تزوّجت في عمر الرابعة عشر التزاماً بالعادات والتقاليد التي ترهن النساء لمصير محدّد سلفاً. تروي ولاء كيف تمّ استغلالها من قبل زوجها وأهله في الأعمال الزراعية وباتت تعمل في الحقول من الفجر حتى المساء، وتتعرّض للضرب في كلّ مرّة تعارض فيها زوجها أو أهله وتحاول أن تشعر بالطفلة التي في داخلها.
"في البداية كان كل شيء مختلفاً. ظننت أنّني في بيت زوجي سأكون أميرةً". تتحدّث ولاء عن ليالٍ قضتها بلا نوم من شدّة آلام ظهرها. "بدل أن أتزيّن وألعب، كنت أجلي المواعين وأنظّف المنزل وأذهب للعمل في حقول البطاطا تحت الشمس الحارقة، ثمّ أعود إلى المنزل لأقوم بفروضي الزوجيّة". وتتابع بغصّة: "كنت أشتاق إلى الطفلة التي في داخلي. كنت، في بعض الأحيان، أجلس لمشاهدة التلفاز فيصيح بي الجميع، وينعتونني بالكسولة والجاهلة. لو عاد الزمن بي إلى الوراء، لكنت تابعت دراستي ورفضت الزواج".
يدّعي البعض أنّ توافد اللاجئين/ ات إلى لبنان منذ العام 2011، يشكّل السبب الأساسي لتزايد نسب تزويج القاصرات، فيما يُرجع أخصّائيون في الملف السبب إلى عدم إقرار قانون وآليات لحماية الأطفال والطفلات من التزويج المبكر المبرَّر بحكم الأعراف والتقاليد والتشريعات الدينية.
دور المنظمات والجمعيات
في ظلّ غياب التشريعات والآليات التي تحمي الطفلات من التزويج، تعمل جمعيّات ومنظمات غير حكومية عدة، محلية ودولية، على إعداد وتنظيم العديد من حملات المناصرة بهدف الضغط من أجل إقرار قانون يحمي الأطفال والطفلات. ففي العام 2017، تقدّم "التجمّع النسائي الديمقراطي اللبناني" بمقترح مشروع قانون تحديد سنّ الزواج في لبنان، تزامناً مع عدد من حملات المناصرة والتوعية على الأراضي اللبنانية كافة، فكان التركيز على المخاطر الجسديّة والنفسيّة والاجتماعية الناجمة عن التزويج قبل سنّ الثامنة عشر، تحت شعار #مش_قبل_الـ18.
وفي عامي 2020 و2021، ومع بدء انهيار العملة الوطنية في لبنان، وتفاقم الوضع الاقتصادي، والحديث عن عدد من حالات التزويج القسري التي حدثت بداعي التخفيف من العبء الاقتصادي على الأهل، ما يمثّل بيع الفتاة لقاء مهر مادي، تحرّك التجمّع للضغط بشكل أكبر على المعنيين من خلال عقد لقاءات مع عدد من الكتل النيابية الممثَّلة في لجنة الإدارة والعدل، لإبراز الخطر الكبير الذي يحاصر كثيرات من الفتيات بسبب الأزمة الاقتصادية المتمادية. لكن، لم تثمر هذه اللقاءات إلّا عن اجتماع واحد للجنة الإدارة والعدل في العام 2021، لم تسفر عنه أي خطّة مواجهة واضحة للمستقبل. وبموازاة مساعيه القانونية، يقدّم "التجمّع النسائي الديمقراطي اللبناني"-RDFL، عبر خطه الساخن 71-500 808، الدعم القانوني والنفسي-الاجتماعي لضحايا الزواج المبكر.
تتذكّر ليلة دخلتها على أنها الليلة التي كرهت فيها جسدها إلى حدٍّ أصبحت علاقتها معه غريبةً. "غريبة" أيضاً بالنسبة لها لحظة ولادة طفلها. وبابتسامة عفويّة توصّف وضعها: "ولد عم بيربّي ولد"
من جهتها، تعمل منظمة "أرض البشر" Terre des hommes، على رفع مستوى الوعي في المجتمعين اللبناني والسوري، بما يتعلّق بالحاجة إلى حماية الطفلات، بحيث تخصّص هذه المنظمة الخط الساخن 76-014 794، لتلقّي الاتصالات بهدف دعم المراهقات المتزوّجات أو الفتيات اللواتي في طور الزواج.
وتعمل منظمة "أرض البشر" على تقديم الدعم للفتيات من خلال لقاءات تجمعهنّ بأخصّائيين اجتماعيين ونفسيين بهدف التعبير بحرية وصراحة عن مخاوفهن ورغباتهن وأحلامهن. وتلقى كل حالة الدعم المناسب عبر مجموعة من الأنشطة الترفيهية التي تُطلع الفتيات على حقوقهن، كما على المخاطر الناتجة عن الزواج في سنّ الطفولة على صحتهن ومستقبلهن.
كذلك، أطلقت المنظمة سلسلةً من القصص الواقعية المصوّرة مباشرةً من الميدان لتسرد قصص طفلات ناجيات أو معرّضات للتزويج، وذلك ضمن مشروع "نحن الفتيات، نحن القويات"، للاستجابة المتخصّصة لتزويج الأطفال والطفلات في لبنان والمموّل من قبل حكومة الولايات المتحدة الأمريكية. وسجّلت المنظمة عدداً من قصص النجاح التي يمكن تصفّحها على صفحة الفيسبوك الخاصّة بها.
"قدوة" للحماية
في العام 2020، أطلقت وزارة الشؤون الاجتماعية في لبنان خطةً إستراتيجيةً ومبادرة "قدوة" لحماية الأطفال والنساء، بالشراكة مع منظمة اليونيسف، بهدف ضمان حماية النساء والفتيات عبر التصدّي لانتهاكات حقوق الطفل ومنع العنف القائم على النوع الاجتماعي. وضمن هذه الخطة، عملت الهيئة الوطنية لشؤون المرأة، وبالتعاون مع وزارة التربية والتعليم العالي، وفي إطار مشروع "فتيات متمكّنات وقادرات: التعليم للجميع"، على تنظيم جلسات توعوية تستهدغ 3،000 طالبة، للتوعية على كل أشكال العنف التي يمكن أن يتعرّضن لها، وطرق الوقاية منها، والتعريف على آليات الحماية المتوفرة التي تؤمّنها الدولة اللبنانية من خلال وزارة التربية عبر الخط الساخن 772000 01للاستجابة لشكاوى الفتيات المعرّضات للعنف القائم على النوع الاجتماعي والذي من أشكاله تزويج الطفلات.
تشير منظمة اليونيسف إلى أنّ انتشار زواج الأطفال آخذ في الازدياد نتيجةً للضغوط الاقتصادية على الأسرة، وكذلك بسبب الأعراف الجنسانية والاجتماعية
من جهتها، تشير منظمة اليونيسف إلى أنّ انتشار زواج الأطفال آخذ في الازدياد نتيجةً للضغوط الاقتصادية على الأسرة، وكذلك بسبب الأعراف الجنسانية والاجتماعية التقليدية السائدة، والحواجز الهيكلية التي تواجه الفتيات للوصول إلى الخدمات. وفقاً لتقييم الضعف لدى اللاجئين السوريين، أو ما يُعرف بـ VASYR 2021، واحدة من كل خمس فتيات سوريات تتراوح أعمارهن ما بين 15 و19 عاماً في لبنان، متزوّجة. ووفقاً لنظام إدارة معلومات العنف القائم على النوع الاجتماعي الذي يستخدمه 13 مقدّماً لخدمة العنف القائم على النوع الاجتماعي في لبنان، لوحظ ارتفاع في حالات زواج الأطفال بنسبة 5% مقارنةً بالربع الرابع لعام 2021، وهو ما يمثل 14% من الحالات المبلّغ عنها في الربع الأول من عام 2022.
تخصّص اليونيسف وجهات اتصال (خطوط ساخنة) مختلفةً، بالتعاون مع شركائها في لبنان المتخصّصين في مجال العنف القائم على النوع الاجتماعي، بحيث يمكن للفتيات المراهقات الناجيات، كما المعرّضات لخطر الزواج القسري، السعي إلى الحصول على الخدمات المقدّمة في الأماكن الآمنة المخصّصة للنساء والفتيات.
في شمال لبنان، يمكن التواصل مع "هيئة مناهضة العنف ضدّ المرأة" LECORVAW، على الرقم 70518291 أو مع "شبكة عكار للتنمية" AND على الرقم 70261573. أمّا في البقاع، فيمكن التواصل على الرقم التالي الخاص بـ"منظمة الإنقاذ الدولية-عرسال" IRC، 71-375 527. في جنوب لبنان، يمكن التواصل مع "أرض البشر" على الخط الساخن 76-014794 ومع شبكة مجموعات شبابية-النبطية YNCA على 81-872840. كما يمكن التواصل، من جميع المناطق، مع جمعيّة "كفى عنفاً واستغلالاً"، على الرقم التالي 71-678881.
مبادرات التوعية
تتراوح مخاطر تزويج الأطفال والطفلات من الجسدي إلى النفسي وصولاً إلى الاكتئاب والانتحار. لهذا، تعمل منظمات عدة من المجتمع المدني، إلى جانب مبادرات عديدة ومختلفة، على رفع مستوى التوعية حول تزويج الطفلات، ومنها المبادرة التي أطلقتها جمعية "قيود" تحت شعار "أحلامك للتأييد مش للتقييد".
تعمل هذه الجمعيّة على تمكين الفتيات والنساء اللواتي تتراوح أعمارهن ما بين 12 و21 سنةً، وتسعى إلى تزويدهن بالأدوات التعليمية اللازمة للحصول على فهم أفضل لصحتهن الجسدية والنفسية، ولإطلاعهن على حقوقهن الاجتماعية والاقتصادية، وحمايتهن من العنف المنزلي من خلال إحالتهن إلى المنظمات غير الحكومية ذات الصلة، وتزويدهن في مرحلة لاحقة بالفرص المهنية التي تضمن استقلالهن الاجتماعي والمالي.
تتحدّث ولاء عن ليالٍ قضتها بلا نوم من شدّة آلام ظهرها. "بدل أن أتزيّن وألعب، كنت أجلي المواعين وأنظّف المنزل وأذهب للعمل في حقول البطاطا تحت الشمس الحارقة، ثمّ أعود إلى المنزل لأقوم بفروضي الزوجيّة"
أمّا مبادرة "لا تْكَبْرونا بعدنا صغار"، فهي مبادرة أطلقها أصحاب القضية في منطقة البقاع، وهي تهدف إلى توعية الفتيات بمخاطر التزويج، وهي تعمل ميدانياً لنقل المعرفة والتوعية بين اليافعين واليافعات ليعملوا على إقناع قريناتهم/ ن وأقرانهم/ ن وأسرهم/ ن برفض تزويج الأطفال والطفلات. كما يخططون للعمل على تطوير مقاربة خاصة مع دار الإفتاء لملاحقة الشيوخ العرفيين الذين يزوّجون الأطفال والطفلات بطرق غير قانونية.
تتعدّد الأسباب الكامنة وراء تزويج الطفلات ومنها العادات والتقاليد والتشريعات الدينية والتربية والفقر والأزمات الاقتصادية، إلّا أنّ السبب الأبرز الذي يعيق عمل المنظمات والجمعيّات والجهات الرسمية هو غياب قانون يحمي الفتيات، على كل الأراضي اللبنانية، من التزويج. وإن كانت الجمعيّات والمنظمات توفّر الدعم لهن في إطار محاولات لحماية الأطفال والطفلات من التزويج، غير أنّ نهج التقاعس المستمرّ الذي تعتمده السلطات الحكومية والدينية في إقرار القانون، والتغاضي عن اتفاقية حقوق الطفل كما عن أحلام الطفلات، يعيقان إقامة شبكة حماية متكاملة وفاعلة، إذ يشكّلان انتهاكين واضحين لسلامة الأطفال والطفلات، بل مصدر تهديد مباشر لحيواتهم/ ن.
لا يقتصر قانون حماية الأطفال والطفلات من التزويج وتحديد سنّ الزواج في لبنان، على كونه مجرّد قانون يقتضي إقراره لتسوية وضع لبنان بما يتلاءم ووعوده تجاه المحافل الدولية، بل هو مسألة حياة أو موت بالنسبة لآلاف الأطفال والطفلات بما أنّ مصائرهم/ ن رهنٌ به.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون