لم يكن ممكناً أن يمرّ فيلم "خيمة 56"، من دون جدَل مبالغ فيه، حتى في أوساط من لم يشاهدوا الفيلم أصلاً، فنحن شعوب غير معتادة على تقبّل فيلم قصير تعلن فيه المرأة بصوت مرتفع عن حاجتها إلى الجنس، ولا على رؤية لاجئ لديه هَمّ آخر غير إشباع بطنه، ولا حتى على التّسامح مع اقتراب فيلم روائيّ قصير من حالة إنسانيّة معيّنة من بوّابة بيئة بعينها من دون أن تستشيط تلك البيئة غضباً. فهناك بيننا من يريد للسينما أن تكون على قياسه، وعلى قياس مفاهيمه الخاصة حول الحريّة والخصوصيّة والمرأة واللجوء والعلاقات الحميمة، مهما ضاقت تلك المفاهيم. والطّامة الكبرى لدى من يضع "لِيستا طويلةً" للأفكار المهذّبة والراقية والمفيدة التي ينبغي للأفلام مناقشتها، مغلّفةً برؤيته الخاصة حول ما يحقّ للمرأة "الحرّة" في أن تبوح به أمام كاميرات التّصوير السّينمائيّة!
لكن من قال إن حق اللاجئ/ ة في ممارسة الجنس يتناقض أو يتعارض أو يقلّ عن حقه/ ها الطبيعي في الطّعام والشّراب والحياة الكريمة؟!
ينطلق الفيلم من فكرة بحث اللاجئين عن مساحة للخصوصيّة مع زوجاتهم، المساحة التي تنعدم في خيمة، فتصبح معها غاية القاطنين في المخيّم هي الحصول على دور في خيمة تحقّق ذلك الشّرط، وهي "الخيمة 56".
يطرح الفيلم جانباً مختلفاً من حاجات اللاجئ التي جرت العادة على اختصارها بحاجته إلى الطعام والشّراب والمأوى. الفيلم عن حاجات أخرى يجري تجاهلها، وكأنها تسقط من قائمة الحقوق الإنسانيّة عندما يكون اسمك متبوعاً بصفة لاجئ!
لكن من قال إن حق اللاجئ/ ة في ممارسة الجنس يتناقض أو يتعارض أو يقلّ عن حقه/ ها الطبيعي في الطّعام والشّراب والحياة الكريمة؟!
وهل هناك حاجات وحقوق إنسانيّة تافهة وحاجات وحقوق غير تافهة؟!
المشكلة الحقيقيّة لدى السّواد الأعظم ممن هاجموا الفيلم، لم تكن قصوره فنيّاً، ولا الابتذال في الطّرح والمعالجة، بل الفكرة ذاتها: أن تتناول جانباً إنسانيّاً لدى اللاجئ أبعد من الخيمة والطّعام والشّراب، وأن تشتبك مع النمطيّ والمكرّس حول اللاجئين في عقل المتفرّج، وأن تقارب جانباً من حياة اللجوء لم يسبق تناوله.
وهنا أسجّل تعجّباً في حق من وجدوا في إعلان امرأة متزوّجة رغبتها في إقامة علاقة حميمة مع زوجها امتهاناً لكرامتها، ولم يجدوا في واقع النّساء هؤلاء المؤلم في المخيّمات ما هو امتهان لكرامة الإنسان!
المشكلة الحقيقيّة لدى السّواد الأعظم ممن هاجموا الفيلم، لم تكن قصوره فنيّاً، ولا الابتذال في الطّرح والمعالجة، بل الفكرة ذاتها: أن تتناول جانباً إنسانيّاً لدى اللاجئ أبعد من الخيمة والطّعام والشّراب، وأن تشتبك مع النمطيّ والمكرّس حول اللاجئين في عقل المتفرّج، وأن تقارب جانباً من حياة اللجوء لم يسبق تناوله
الفقر والظّلم والحاجة والاستغلال هي الامتهان الحقيقيّ لكرامة الإنسان، لا تلبية حاجات الجسد. موضوع الفيلم الذي يسبح بعيداً عن الدّارج في تناول قصص اللجوء ملفت، لكنه يستفزّ جزءاً كبيراّ من الجمهور الذي يجد في الخيمة دمغةً تدمغ اللاجئ بهويّة جديدة تنخفض معها الشروط والحاجات الإنسانيّة، وتنتفي الحاجة إلى أكثر مما يسدّ الرمق ويروي العروق، فهل من نظرة أكثر انحطاطاً في مقاربة مفهوم اللجوء من هذه النّظرة؟
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فبالرغم من جرأة الفكرة التي تكسر النّظرة النّمطيّة حول حياة اللجوء، وتقفز إلى ما هو أبعد من الصّورة التّقليديّة، يسقط الفيلم في فخّ المباشرة والابتذال، وهو الأمر الذي يعطي انطباعاً للمشاهد ببذاءة الفكرة ذاتها.
الفقر والظّلم والحاجة والاستغلال هي الامتهان الحقيقيّ لكرامة الإنسان، لا تلبية حاجات الجسد.
في الفيلم، بشر يبحثون عن مساحتهم الخاصة لتلبيّة حاجات الجسد، وليس أفضل من الخيمة لتكون مسرحاً للحدث، لأنّها المكان الذي تفقد فيه تلك المساحة الخاصة المهمّة لك كإنسان.
في المبدأ، الفكرة جريئة ومهمّة، لكن بذاءة الطّرح هي التي أفسدتها. الجنس حاجة من أهم الاحتياجات البشريّة، لكنّه ليس هوساً مرضيّاً يؤرّق الإنسان ويحتّل تفكيره طوال الوقت كما ظهر في الفيلم منذ المشهد الأول حتى الأخير. فحتى في خِيَم اللجوء، بكل ما تحمل من قسوة العيش، الناس تحبّ وتتزوج وتمارس الحبّ.
ولأن الفيلم القصير يروي قصّةً ينبغي أن تلامس المتفرّج في دقائقَ معدودات، وينطوي على مقولة تتضافر عناصر الفيلم مجتمعةً للتعبير عنها، فمن المهمّ جداً لصنّاعه أن يحسنوا تقديم فكرتهم عبر صورة بصريّة مؤثّرة وبناء دراميّ متماسك وشخصيات تثير اهتمام المتفرّج. في"خيمة 56" ضعف في جميع عناصر الفيلم القصير، باستثناء الفكرة، التي لم تُخدَم جيداً حتى بمنطوق الشخصيات. تشتّت النص وشخصياته الهزيلة والحوارات المبتذلة المتظارفة في غير مكانها، ميّعت الفكرة وأسقطتها، وجرّدتها من بعدها الإنسانيّ العميق. وجاء الممثّلون، بأدائهم المبتذل والمبالغ فيه، ليكملوا ما بدأه السيناريو من عَطَب وضياع. لم يلمس الفيلم دواخلنا على الرغم من تناوله فكرةً مهمةً تحمل خصوصيّةً أكبر لدى اللاجئ الذي يجد في تلبية رغباته الجنسيّة متنفّساً له، وحاجةً طبيعيّةً جدّاً في ظرف غير طبيعيّ. الأصح أنّه طقس للتواصل مع إنسانيّته وحاجاته الطبيعيّة التي يستكثرها عليه كثيرون مهما ضاقت مساحة ممارستها.
"الخيمة 56" هي مساحة الحريّة الأبسط التي يستحقها كلّ منّا، والتي تبدو ترفاً في نظر من يشاهد الخيمة من وراء الشّاشات، فيما تتكدّس الأجساد في المخيمات في مساحة لا تتجاوز أمتاراً عدة. تلك المساحة الخاصّة مهمة لذلك اللاجئ، ولو كانت على هيئة خيمة تفسدها أمطار السّماء.
في المبدأ، الفكرة جريئة ومهمّة، لكن بذاءة الطّرح هي التي أفسدتها. الجنس حاجة من أهم الاحتياجات البشريّة، لكنّه ليس هوساً مرضيّاً يؤرّق الإنسان ويحتّل تفكيره طوال الوقت كما ظهر في الفيلم منذ المشهد الأول حتى الأخير
إذاً، الفكرة الجيّدة لا تكفي لصناعة فيلم جيّد. الأفلام الجيّدة هي الأفلام التي تخاطب ما هو أبعد من الغرائز، وهو بالضبط ما أخطأه صنّاع الفيلم. فبالرغم من جاذبيّة الفكرة، جاءت المعالجة قاصرةً وسطحيّةً. ففي الفيلم تصوير فجّ لبشر مسكونين برغبات بهائمية، من دون وجود أي مسحة إنسانيّة تحرّك مشاعر المتفرّج -كما يُفترض في أي فيلم قصير أن يفعل- وترتقي بفعل ممارسة الحبّ في خيمة عن معناه الغرائزيّ المجرّد الذي قدّمه الفيلم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون