شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
كل سوري مُتهم حتى يثبت العكس

كل سوري مُتهم حتى يثبت العكس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 16 أغسطس 202211:17 ص

في كل مرة كنت أزور باريس (لأن أسرتي تسكن فيها) وحتى قبل 2011، كانت تنتابني حالة من هياج القلق قبل عودتي إلى سوريا بأيام، ويمكن استعارة تعبير طبي هو "تناذر"، أي مرض يصيب عدة أجهزة في الجسم، وغالباً غير معروف السبب، لذا كانت تنتابني حالة تناذر قبل العودة إلى سوريا، فيضطرب نومي وأصبح عصبية ويتشوش تفكيري، وأبدأ بالاتصال بالعديد من الأصدقاء في الداخل السوري، وأرجوهم أن يسألوا عن اسمي على الحدود السورية وفي قسم الجوازات، حتى أطمئن أنني لستُ متهمة بأية تهمة، وما أدراك ما التُهم التي تُفبرك ضدك.

الكل مُتهم حتى يثبت العكس

ويحضرني مقال كتبته ذات يوم بعنوان "مُتهم حتى يثبت العكس" وكان مقالاً ساخراً أحكي فيه أن كل سوري يشعر أنه مُتهم، وبأن عليه أن يقدم براءة ذمة للحكومة العتيدة بأنه مواطن صالح ولا ينتقد الدولة بأية كلمة.

 "المواطن السوري خائف وأنا خائفة، وكل مقال أكتبه أبقى أيام بحالة مزرية من القلق"

نشرت المقال في جريدة الحياة، بعد يومين استدعاني جهاز أمن الدولة، وكان المحقق شديد الغضب من هذا المقال، واعتبر ما كتبته إهانة وسخرية وتقليلاً من هيبة الأجهزة الأمنية، فالموطن السوري ليس خائفاً! ويومها امتلكت الجرأة وقلت له: "المواطن السوري خائف وأنا خائفة، وكل مقال أكتبه أبقى أيام بحالة مزرية من القلق، وأنتم تعرفون ذلك، وتتعمدون إهانة المواطن، خاصة المثقفين، حين تستدعونهم للتحقيق وتجعلونهم ينتظرون ساعات طويلة في غرفة مغلقة لا أحد فيها. ننتظر ساعات طويلة حتى نصل لحالة الانهيار العصبي، عندها يتم استدعاؤنا للتحقيق". لم يرد على كلامي المحقق، بل رشقني بنظرة سخرية كمن يقول لي: "لا يحق لك أن تسألي".

ولم أستطع أن أفهم أي مقال يُغضب أجهزة الأمن في سوريا وأي مقال يمر بسلام (أزعم أنهم لم ينتبهوا له) لماذا مقالي عن الخوذ البيض أطاش صوابهم بعد أربع سنوات من كتابته، لأن "شبيحاً" كتب تقريراً كيدياً بي، وطبع العديد من مقالاتي، وتكلف مبلغاً كبيراً كي يُقدم مقالاتي لجهاز الأمن العسكري، وقبل جهاز الأمن العسكري قبل تقريره الكيدي ومنعني من السفر.

يضطرب نومي وأبدأ بالاتصال بالعديد من الأصدقاء في الداخل السوري، وأرجوهم أن يسألوا عن اسمي على الحدود السورية، حتى أطمئن أنني لستُ متهمة بأية تهمة، وما أدراك ما التُهم التي تُفبرك ضدك

واحتجت لوساطات كثيرة من قبل محامين أصدقاء كي يتدخلوا لإلغاء منع السفر، حتى وصلت الواسطة إلى أحد أهم الألوية في المخابرات الجوية، وطُلب منه المحامي الوسيط ألا يذلونني بالانتظار خمس ساعات في غرفة مغلقة حتى يستدعيني فخامة العقيد أو العميد، وطلب اللواء أن أتصل به شخصياً لأطلب منه بترجّ ألا أنتظر، وضحك قائلاً بسخرية ونوع من الشماتة: "عجيب دكتورة لماذا يزعجك الانتظار إلى هذا الحد، فها هي ابنتي انتظرت أربع ساعات البارحة في عيادة طبيب". طبعاً لم أستطع أن أرد.

وجدتني أضع يدي على فمي وأضغط كيلا تنفلت مني كلمات: "وهل الانتظار في الأمن العسكري مثل الانتظار في عيادة طبيب؟". ثم بدأت بذرة تمرد تتنطط بخبث في روحي، وأردت أن أسأله: "سيادة اللواء، أين هو الدكتور عبد العزيز الخير؟ ألا تعرف وأنت لواء في المخابرات الجوية". وشعرت أنني إن سألت هذا السؤال فستهبط علي طاقية الإخفاء وأختفي. لماذا مقال أشبه بوصف صادق بدون تزويق عن يوم في اللاذقية يتسبب بمنعي من السفر، ويجن جنون عدة أجهزة أمنية، وتستدعيني للتحقيق، وأنا لم أكتب شيئاً سوى أنني وصفت حياة الناس في اللاذقية.

لم أستطع أن أفهم أي مقال يُغضب أجهزة الأمن في سوريا وأي مقال يمر بسلام. 

حكيت عن الأطفال المتسولين والازدحام على الأفران والازدحام الفظيع في البالات بسبب الفقر، وكانت كتابتي أقرب للنثر الشعري وطافحة بالشجن. هذا المقال أثار غضب الأجهزة الأمنية، بينما مقالي "الشاحنة" المقال المُروع والأقسى الذي كتبته مر دون أي استدعاء، وفيه أحكي عن شاحنة عملاقة عبرت شوارع اللاذقية طافحة ببقايا جثث لمن يسمونهم إرهابيين، وكانت الجثث مكشوفة وغير مُغطاة بغطاء، ورأيت أطفالاً مُروعين وهم يرون هذه الشاحنة تتجول في طرقات اللاذقية.

أي درس سيتعلمه هؤلاء الأطفال، أيه ندبة وتشويه ستترك في أرواحهم؟ ولم يتم استدعائي لأي جهاز أمني بسبب هذا المقال. عشقي لبحر اللاذقية لا يمكنني وصفه، أحسه شريكي في الحلم والسر، كتبت معظم قصصي القصيرة ومقالاتي في مقاهيه البحرية المتواضعة. ألم الانسلاخ الذي أعيشه في باريس يشبه الحرق، باريس على عظمتها لا تخصني، روحي في وطني مع الناس الطيبين الخائفين الذين كانوا يوقفونني في الطريق ويقولون أنت تكتبين وجعنا، لكن نخاف أن نضع لكتاباتك لايك. أقول والله أعذركم بل أنصحهم ألا يضعوا لايك.

ألم الانسلاخ الذي أعيشه في باريس يشبه الحرق، باريس على عظمتها لا تخصني، روحي في وطني مع الناس الطيبين الخائفين الذين كانوا يوقفونني في الطريق ويقولون أنت تكتبين وجعنا، لكن نخاف أن نضع لكتاباتك لايك

الأمكنة أرواح

الأمكنة أرواح، وأنا روحي في بحر اللاذقية وأزقتها، حتى أنني أشتاق لمتسولي الشوارع وللأصدقاء. باريس لا تخصني، أشبهها كالزواج من غير حب، لكن السؤال الأهم: هل أستطيع العودة الآن إلى سوريا والنظام يدعي أنه فاتح ذراعيه لاستقبال العائدين؟ هل أستطيع العودة دون أن يستقبلني أحد الشرطة على الحدود بقصاصة ورق أن أراجع فرع الأمن الفلاني؟ كنت قد قبلت أن أعيش وحيدة في اللاذقية مخيبة أمل أهلي وابنتي بأنه أكثر أماناً لي أن أعيش في باريس.

الأمكنة أرواح، وأنا روحي في بحر اللاذقية وأزقتها، حتى أنني أشتاق لمتسولي الشوارع وللأصدقاء. 

كنت أقول لنفسي: أي ثمن تافه أدفعه مقارنة بأصدقائي الذي قضى كل منهم زهرة شبابه في سجون سوريا (صيدنايا وعدرا وتدمر) بين عشرة سنوات وخمسة عشرة سنة سجن أصدقائي، فأين معاناتي من معاناتهم؟ لقد سحقوا مستقبلهم، ما الضير أن أتحمل منع السفر من حين لآخر، ما الضير أن يتم استدعائي إلى أجهزة أمن الدولة بسبب مقالاتي، أي ثمن تافه أدفعه مقابل السنوات الطويلة التي قضوها في السجن، أغلى الأصدقاء وأحب أن أذكر أسماء بعضهم، الدكتور راتب شعبو والصديق الغالي بدر زكريا ومحمد حبيب (الذي سجن تسع سنوات لأنه يدافع عن حقوق المعتقلين) وسُجن أخوه ثلاث سنوات لأنه لم يُبلغ عن أخيه، أي لم يكن واشياً ويعترف للأمن بأن أخاه كان يعمل مع المنظمة التي تدافع عن حقوق الإنسان.

مئات الأسماء لأصدقاء سجنوا ومات بعضهم تحت التعذيب، فأين معاناتي من الثمن الباهظ الذي دفعوه؟ أين النوايا الطيبة للحكومة العتيدة التي تدعو كل السوريين، حتى المعارضين للعودة، والعديد من المعارضين في الداخل ممنوعون من السفر؟

كيف سأعود إلى سوريا؟ كيف سيعود ملايين السوريين الذين يكويهم الحنين إلى سوريا، وكل سوري مُتهم حتى يثبت العكس... ولن يثبتوا العكس لأنهم لا يريدون

وشعب الطابور العالق على الحدود عليه أن يدفع 100 دولار ليعود إلى أنقاض بيته، وغالباً تنتظره تقارير أمنية كيدية. وثمة كتاب يندى لهم الجبين خجلاً من مواقفهم الضبابية المائعة. هم لا يريدون أن يخسروا شيئاً وألا يكون لهم أي موقف مما يجري في سوريا، والعديد منهم يُكرّم من قبل مؤسسات النظام الثقافية، ويصدرون روايات لا تقول شيئاً، أشبه بمواضيع تعبير في استحضار الذكريات والتحدث عن العائلة والعادات، يعني مجرد كلام، وأحياناً يعتقدون أنهم في قلب الحدث، فيصفون طائرات تقصف وقذائف تتطاير في كل مكان، لكن لا يذكرون لمن تعود تلك الطائرات، ومطر القذائف في أيه مناطق يتساقط. والأهم أنهم يقاطعون كل من يملك شجاعة الجهر بالحقيقة.

 أين النوايا الطيبة للحكومة العتيدة التي تدعو كل السوريين، حتى المعارضين للعودة، والعديد من المعارضين في الداخل ممنوعون من السفر؟

إحدى الكاتبات، وكانت تقول أمام الجميع إني الأغلى والأحب إلى قلبها نبذتني. صارت تريد أن تنحي نفسها من شهادة حق أقولها في مقالاتي. نسفت حتى الأساس الإنساني لصداقتنا. لن أقول يا للعار، بل أقول ثمة من اختار الصمت والصمت خيانة. والآن السؤال الذي يبدو ساذجاً: كيف سأعود إلى سوريا؟ كيف سيعود ملايين السوريين الذين يكويهم الحنين إلى سوريا، وكل سوري مُتهم حتى يثبت العكس، ولن يثبتوا العكس لأنهم لا يريدون.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image