بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وُجّهت الكثير من الانتقادات القاسية إلى إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، والذي لطالما وُصف بالرئيس الضعيف. ربما لذلك، سعى إلى تحقيق إنجاز في محاربة الإرهاب، لاستعادة بعض من الشعبية التي خسرها، خاصةً أنه لا يمر بأفضل أوقاته في الداخل الأمريكي، على وقع ارتفاع أسعار النفط والغذاء داخلياً وعالمياً.
وليس أفضل من "صيد الظواهري الثمين" لتحقيق ذلك، فهو أحد كبار الجهاديين، ومقتله مفيد لبايدن وإدارته سياسياً وإعلامياً، وقد يساعده في رفع من رصيده ورصيد حزبه في الانتخابات القادمة، إذ يبدو أن خطاب الحرب على الإرهاب ما زال يحظى باهتمام الجمهور الأمريكي.
غنيمة حرب
يبدو أن زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري كان يعتقد أنه بأمان في المنزل الذي كان يتحصن فيه في العاصمة الأفغانية كابول، وبالتحديد في منطقة شيربور، في "الحي الدبلوماسي"، وهي منطقة تشهد تدابيرَ أمنية مشددة، وتُعتبر من أكثر المناطق أماناً في العاصمة، إذ تبتعد عن قصر الرئاسة حوالي 500 متر، وهي أيضاً مليئة بمكاتب المسؤولين الحكوميين، ومكاتب المؤسسات وسفارات الدول الأجنبية. لكن الجهادي المصري لم يمكث في منزله الجديد سوى بضعة أشهر، قبل أن يعاجله صاروخان من طراز هيل فاير أطلقتهما طائرة بدون طيار، وقتلاه وهو يقف على الشرفة.
لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ ببنية استخباراتية قوية في أفغانستان، وما كانت عملية مقتل الظواهري لتنجح لولا ذلك. ووفقاً لمحللين ومراقبين، خلّف الخروج العشوائي للقوات الأمريكية من أفغانستان تغييراً في استراتيجية واشنطن تمثل في الاستعاضة عن وجود قوات عسكرية بالعمل الاستخباري.
وفي الثاني من آب/ أغسطس، أعلن بايدن نجاح وكالة الاستخبارات المركزية بتصفية ثاني أكبر قائد لتنظيم القاعدة، وتحدث عن مقتله بالقول: "بعد البحث بلا هوادة لسنوات عن الظواهري، حدّدَت استخباراتنا موقعه في وقت سابق من هذا العام، وكان قد انتقل إلى وسط مدينة كابول للم شمل أفراد أسرته، وبعد التفكير بعناية، سمحتُ بضربة دقيقة من شأنها أن تزيحه من ساحة المعركة مرة وإلى الأبد".
ينظوي توقيت عملية تصفية الظواهري على رمزية كبيرة، فقد نُفّذت قبل أسبوع من الذكرى السنوية لانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، والذي كان شكله مهيناً، وبالتالي أتت كنوع من إنجاز سياسي واستخباري استراتيجي يُعيد إلى إدارة بايدن شيئاً من التوازن، كما يسمح للرئيس الأمريكي بأن يزهو ويفتخر أمام الشعب الأمريكي بحزمه في محاربة الإرهاب، مثله مثل الرؤساء الذين سبقوه.
معضلة طالبان والقاعدة
لم تقم حركة طالبان بتصدير نفسها في يوم من الأيام على أن مشروعها جهادي عالمي، كما الحال مع تنظيم القاعدة، بل كان كل عملها، سواء السياسي أو العسكري، منحصراً داخل الحدود الأفغانية. وحتى مع الوجود الأمريكي في أفغانستان، لم تقم طالبان بأي هجمات خارج الحدود. أما احتضانها لتنظيم القاعدة، فلم يكن في الحقيقة انصهاراً واندماجاً فكرياً كاملاً، بقدر ما كان إيواء وجيرة بحكم ما تقتضيه الأعراف والعادات القبلية الموجودة هناك.
يعرف تنظيم القاعدة أن مصير مفاوضات طالبان مع واشنطن ستؤدي إلى إنهاء وجوده من أفغانستان، وبالتالي يواجه معضلة: كيف يبايع حركة طالبان ويقبع تحت ولائها، وهي تتحاور مع العدو الرئيسي له، ولا تؤيد مشروعية الجهاد العالمي؟
يعرف تنظيم القاعدة أن مصير مفاوضات طالبان مع واشنطن ستؤدي إلى إنهاء وجوده من أفغانستان، وبالتالي يواجه معضلة: كيف يبايع حركة طالبان ويقبع تحت ولائها، وهي تتحاور مع العدو الرئيسي له، ولا تؤيد مشروعية الجهاد العالمي؟
في المقابل، ورغم أن اتفاق طالبان مع واشنطن لم يتضمن أي إشارة واضحة عن علاقة طالبان بتنظيم القاعدة، إلا أنه ينصّ على عدم استخدام الأراضي الأفغانية من قبل أي جماعة أو فرد لشن هجمات ضد الولايات المتحدة وحلفائها. وبالتالي، تواجه طالبان أيضاً معضلة تتمثل في كيف تقبل بوجود عناصر تنظيم القاعدة على أراضي أفغانستان، وكيف تقبل بيعة التنظيم بشكل غير مباشر، فالبيعة معناها أن التنظيم جزء من الحركة، أو أن طالبان تشرف بطريقة غير مباشرة عليه.
ويشير البعض إلى أن البيت الذي كان يقبع فيه الظواهري كان مملوكاً لأحد كبار مساعدي سراج الدين حقاني، وزير داخلية حركة طالبان. هذا يعيد الحديث عن وجود انقسامات داخل طالبان، وهي انقسامات تعود إلى مرحلة ما قبل مفاوضات الدوحة، ففي الحركة تشكيلات وتيارات مختلفة.
يعتبر بعض السياسيين الأمريكيين أن طالبان خرقت التزاماتها في الامتناع عن فتح المجال للإرهابيين، إذ أعلن وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن انتهاك طالبان لاتفاق الدوحة، بسبب ما اعتبره استضافة الحركة للظواهري. وفي الجهة الأخرى، نددت طالبان بالهجوم الأمريكي واعتبرته انتهاكاً صريحا لسيادة أفغانستان، وخرقاً واضحاً لاتفاق الدوحة، لأن افغانستان لم تستخدم أراضيها تحت حكم طالبان لاستهداف الولايات المتحدة.
من المبكر جداً الحديث عن أن تنظيم القاعدة مات. ما على الورق لا يتحقق دائماً على الأرض، وقتل الرأس لا يقتل التنظيم. ومن المؤكد أنه سيكون هناك زعيم جديد للتنظيم، وقد يكون أكثر حيوية وقوة من الظواهري
إذن، اتهامات متبادلة، وكل طرف يتهم الآخر بأنه لم يفِ بالتزاماته تجاه اتفاق الدوحة... لكن في حقيقة الأمر، هذه ليست المرة الأولى التي تستهدف فيها الولايات المتحدة مناطق في أفغانستان منذ توقيعها على اتفاق الدوحة، بل إنها أيضاً قتلت مدنيين أفغان بطائراتها المسيّرة.
تلاشي التنظيم؟
يُعَدّ الظواهري (71 عاماً) من أواخر القياديين التاريخيين المتبقين من الجيل المؤسس لتنظيم القاعدة. وبالتالي، كان وجوده يحافظ على المظلة التاريخية للتنظيم، فهو كان يتبوأ مكانة أوجدت له نوعاً من القدسية والهالة، بحكم تاريخه الطويل في العمل الجهادي، ولذا يلقبه اتباعه بـ"حكيم الأمة".
كان القيادي الجهادي المصري بارعاً في الاختفاء، فقد استطاع الإفلات من عمليات أمريكية عدّة طيلة فترة وجوده في الساحة الأفغانية، بالرغم من تعهد واشنطن بدفع مكافأة قدرها 25 مليون دولار لمَن يدلي بمعلومات تؤدي إلى معرفة مكانه.
بعد مقتل أسامة بن لادن، أصبح الظواهري الشخصية الأولى في التنظيم، وتولى رئاسته في فترة حساسة جداً، لكنه لم يستطع إحكام إدارته مثل سلفه الذي كان يجمع بين العديد من الصفات، القوة والأبوة الروحية والكاريزما، وهي صفات افتقدها. لكنه مع ذلك قاد التنظيم في أصعب أوقاته، في فترة الربيع العربي وصعود تنظيم الدولة الإسلامية، واستطاع إبقاءه على قيد الحياة.
عملية الاتفاق على تعيين زعيم جديد لتنظيم القاعدة ليست بالأمر السهل، خصوصاً مع وجود خلافات واتجاهات فكرية متباينة بين مكوناته، خاصة حول: هل يكون القتال معولماً أم محلياً؟
ومع الوقت، تراجعت قدرات الظواهري إلى حد كبير على مستوى القيادة، ولم يعد رقماً كبيراً داخل التنظيم، والأهم أنه فقد السيطرة نسبياً على الأفرع، وغابت قدرته على التأثير في المجموعات الجهادية الأخرى، وهو ما أسفر عن انشقاق تنظيم الدولة وجبهة النصرة عن التنظيم الأم. وبدلاً من أن تكون القاعدة مظلة إيديولوجية لكل التنظيمات الجهادية، صارت هناك تنظيمات ومظلات أخرى، وبالتالي حدث صراع على الأفكار والاستراتيجيات نفسها، وقد يكون هذا راجعاً ليس إلى ضعف شخصية الظواهري بقدر ما يرجع إلى واقع أن التنظيم المركزي صار محاصراً.
من المبكر جداً الحديث عن أن تنظيم القاعدة مات. ما على الورق لا يتحقق دائماً على الأرض، وقتل الرأس لا يقتل التنظيم. ومن المؤكد أنه سيكون هناك زعيم جديد للتنظيم، وقد يكون أكثر حيوية وقوة من الظواهري. ووجود قيادة قوية على رأس التنظيم قد يحييه مرة أخرى، ويعيد إليه دوره الذي خفت منذ 2011.
سيكون تأثير مقتل الظواهري موجعاً لمعنويات التنظيم، لأنه شخصية رمزية أكثر من كونه قيادياً أو عسكرياً، ولكن مقتله لن يغيّر من الفاعلية والتواجد شيئاً. ورغم أن قوة تنظيم القاعدة وفاعليته في أفغانستان شبه انتهت، لكن ما زالت هناك فروع عديدة له في إفريقيا والشرق الأوسط، فهو يعتمد في المقام الأول على إيديولوجيا عقائدية لا تموت بموت شخص.
وتجدر الإشارة إلى أن الاستراتيجية الأمريكية المعروفة بـ"استراتيجية حصد الرؤوس"، والتي تستند على مقاربة عسكرية وأمنية فقط، هي استراتيجية عديمة الجدوى على المدى الطويل، لأن الإرهاب وظهور التنظيمات الجهادية هما انعكاس طبيعي لفشل الأنظمة العربية، وما زالت الأجواء المشحونة بالظلم والبيئة السياسية المقيَّدة والظروف الاجتماعية الهشة والمتهالكة في بعض البلدان العربية مواتية جداً لصعود تنظيمات مثل القاعدة وغيرها.
الملاذ الأخير
عملية الاتفاق على تعيين زعيم جديد لتنظيم القاعدة ليست بالأمر السهل، خصوصاً مع وجود خلافات واتجاهات فكرية متباينة بين مكوناته، خاصة حول: هل يكون القتال معولماً أم محلياً؟
على الأرجح، سيأخذ التنظيم وقتاً في ترتيب بيته الداخلي أولاً، واستشارة الفروع الإقليمية والتي قد ترشّح شخصية جديدة للقيادة من خارج القيادات التاريخية. لكن يبدو أن التفكير في مقر التنظيم هو ما سيشغل قيادة التنظيم: هل سيبقى في أفغانستان؟ أم سيرحل إلى مكان آخر؟
خسر التنظيم في العام الماضي أبو محمد المصري، نائب الظواهري، وخسر في 2019 حمزة بن لادن، وقُتل من مجموعة السبعة الذين أوصى بهم أسامة بن لادن ستة أشخاص وتبقى شخص واحد. ولذلك، ووفقاً للكثير من المحللين والمراقبين، من المتوقع أن تنتقل زعامة التنظيم إلى الشخصية الأكثر حظاً وشهرة: سيف العدل، باعتباره أحد القلائل الباقين ضمن هيكل القاعدة التاريخي، إضافة إلى أنه رئيس اللجنة الأمنية في التنظيم.
يمتلك سيف العدل قدرات أمنية عالية، فقد كان ضابطاً سابقاً في القوات الخاصة المصرية، وشارك مع تنظيم القاعدة في قيادة العديد من العمليات العسكرية الميدانية، وله تواصل مع كافة الجهاديين في أنحاء العالم.
من غير المعروف على وجه الدقة موقعه، لكن البعض يذهب إلى أنه ما زال تحت الإقامة الجبرية في طهران. وإذا كان لا يزال في إيران، فبالتأكيد لن تسمح الأخيرة للتنظيم بالعمل انطلاقاً من أراضيها... فيما يرى البعض أنه في حالة تعثر الاتفاق النووي الإيراني، فإن طهران ستدعم القاعدة كي ينشط ضد مصالح الولايات المتحدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون