شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
القاعدة وحلم العودة إلى أفغانستان... العلاقات المعقدة بين عناصر التنظيم

القاعدة وحلم العودة إلى أفغانستان... العلاقات المعقدة بين عناصر التنظيم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الثلاثاء 17 أغسطس 202101:43 م

تباعاً، نشرت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية مئات الآلاف من الملفات التي حصلت عليها إثر الغارة التي شنّتها على مقر زعيم القاعدة السابق أسامة بن لادن في أيار/ مايو 2011، فاسحةً المجال أمام الراغبين بالاطلاع على تفاصيل حياة بن لادن، والخلافات الداخلية بين عناصر التنظيم... ولم تحجب إلا بعض المواد والوثائق التي تضر بالأمن القومي.

بذلك فُتحت صفحة جديدة، وميدان بحثي حديث سارع إليه كثيرون من الباحثين في عالم التنظيمات الإسلامية المتطرفة، وألقت الملفات الضوء على تطور الخلاف بين القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، وكشفت المراسلات طرق تطور تنظيم القاعدة، وكيف أيصبح قائد الجهاد العالمي، كما أزاحت اللثام عن علاقاته مع إيران.

الحقيقة الضائعة

اعتمد الباحثون في عملهم البحثي حول عمل المُنظمات الإرهابية، خصوصاً في دول العالم الثالث، ولعقود بعيدة، على قراءات في عمل المنظّرين والمفكرين القابعين وراء تلك المنظمات، والبحث في معتقدات قادتها، مارّين بحقل كبير من الفرضيات، والشائعات.

وفي بعض الأحيان، ارتكز الباحثون على عمل ميداني، كالذي قام به مؤخراً المختص في الإرهاب والحَركات الجِهادية الدكتور توماس هيغهامر Thomas Hegghammer، والذي يعمل في مؤسسة بحوث الدفاع النرويجية، عندما كتب كتابه الأخير "القافلة"، عن عبد الله عزام.

عبد الله عزام

أبصر الكتاب المذكور النور عام 2020، بعد عمل حثيث دام عقداً من الزمن، بحث كاتبه خلاله في مسيرة ذلك المحارب الفلسطيني، ورحلته إلى أفغانستان، حتى مقتله بعبوة ناسفة وُضعت على جانب الطريق، وفجّرت سيارته في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989، أمام حشود من الناس المبتهجين باستقباله، بالقرب من مسجد سبع الليل في بيشاور.

اعتمد المؤلف في عمله على زيارات ميدانية، متتبعاً محطات حياة عزام، وقابل الكثير من الشخصيات التي عاصرته، وشاركته تفاصيل حياته.

يمكن للباحثين اليوم أن يجدوا الكثير من الدراسات التي بُنيت على الطرق التقليدية المرتكزة على لقاءات وبحوث ميدانية، ونادراً ما كان الباحث يجد مراسلات يرتكز عليها، للتأكد من ادعاءٍ ما.

وهناك دائماً احتمال ألا يكون المتحدث مع الباحث صريحاً. وهكذا تبقى الحقيقة ضائعة في مكان ما، أو منقوصة، وتبقى التفسيرات مرتبطة بما يعرفه الباحث من معلومات، أو ما تمكّن من الحصول عليه، بالإضافة إلى وجهة نظره الشخصية، والتي لا يعلم أحد مدى حيادها.

في لقاء مع هيغهامر، في يوم حفل توقيع كتابه "القافلة"، في العاصمة أوسلو، سألته:

ـ هل حصلت على أجوبة حقيقية وصريحة من ابن عبد الله عزام؟

ـ الحقيقة لا أعلم! سألته هل كان أبوك على حق؟ تركني، ودخل إلى البيت، وعاد بجاكيت قديمة، وقال هذه لأبي، كان يرتديها عندما استشهد. ألا تشم فيها رائحة الجنة؟

ـ كيف كانت رائحة الجنة؟

ـ جاكيت قديمة.

ما كشفته وكالة الاستخبارات الأمريكية من معلومات، وملفات المراسلات التي وصلت إلى بن لادن، أو أُرسلت من قبله في أبوت آباد، تجعل الباحث اليوم يتأكد، من مرجع موثوق، من أمور وقعت، ويستطيع مقارنة التواريخ، والقرارات، والإجراءات المتخذة في وقتها الصحيح، وهذه النقطة في حد ذاتها كانت طفرة في هذا المجال.

وجديرة بالذكر دراسة الباحث Brian Fishman عن عبد الهادي العراقي، ابن مدينة الموصل، الذي عاصر بن لادن، وكان عضو ارتباط بين القاعدة وطالبان، ومراسلاته التي ألقت الضوء على جوانب الصراع الداخلي بين قيادات القاعدة من جهة، والخلافات مع التنظيمات الأخرى من جهة ثانية.

هذه الدراسة ألقت الضوء على طرق تهميش هذه الشخصية، أو تلك، أو دعمها، أو التشهير بها داخل التنظيم، وخارجه.

توضح الدراسة كيف طُرح اسم العراقي مساعداً، ولاحقاً بديلاً لأبي مصعب الزرقاوي، من خلال المراسلات بين قيادات القاعدة، ليعيد "الجهاد" إلى طريقه الصحيح، وهو قتال العدو البعيد، ويُقصد به الأمريكيون، وإسرائيل، والابتعاد عن قتال العدو القريب، أي الشيعة، ورجال الدولة، وكذلك الشرطة، والجيش... وصل العراقي إلى أفغانستان في بدايات التسعينيات من القرن الماضي، وتدرج في العمل الجهادي هناك، واتُّهم بقضايا عدة أثارت جدلاً، وخلافاً داخلياً.

كان أسامة بن لادن ذا صوت مسموع، ومقبولية عند معظم الأطراف الإسلامية الجهادية، وله تأثير كبير على المجاميع الجهادية، وهذه نقطة جعلت قيادات التنظيم تتمسك به قائداً لها

عام 2006، أُلقي القبض عليه في تركيا، بناءً على بلاغ من شخص مجهول الهوية، وهو في طريقه إلى العراق. وكُتب عنه أنه الرجل الذي كان سيوقف ظهور الدولة الإسلامية، ويوقف حمام الدم العراقي، لو أنه وصل إلى العراق.

نشْر الرسائل المتبادلة مع بن لادن أوضح كيفية السيطرة فكرياً على صانع القرار في القاعدة، ومَن هو صاحب القرار الحقيقي في التنظيم.

هذه المعلومات منحت الباحثين إمكانية الاقتراب أكثر من الحقيقة. ومع هذا تبقى الحقيقة المطلقة مسألةً نسبية.

الترجمة والسياق

بعد الاطلاع على ترجمة الرسائل التي تم تبادلها بين شخصيات رئيسية في تنظيم القاعدة، يمكن القول إن هذه الترجمات أخفقت في إلقاء الضوء على كثير من النقاط المتعلقة برجال القاعدة، نتيجة جهل المترجمين بالمصطلحات الجهادية، وكذلك باللغة المتداولة داخلياً، على سبيل المثال "الفريضة الغائبة"، و"التمكين"، وغيرها، بالإضافة إلى بعض المصطلحات المحلية المرتبطة بمنطقة جغرافية معينة، أو مجتمع بعينه، أو كلمات عامية، أو صفات، أو أسماء شهرة.

بالإضافة إلى ذلك، لم يدرك المترجمون أن قسماً من الرسائل المرسلة من قادة القاعدة، عندما كانوا في إيران، لم تكن لغتها مباشرة، وبالتأكيد كتبوها بهذه الطريقة خوفاً من ترجمتها من قبل السلطات الإيرانية.

لو أُعيد تحليل الرسائل المتبادلة بين الشخصيات الرئيسية، لاكتشف العالم مَن هي العقول الأساسية التي وقفت وراء الأعمال الإرهابية، ومَن هي الشخصيات الثانوية، ولكُتب التاريخ من جديد، وبمنظور يلقي الضوء على أسباب "الجهاد" العالمي، وخياراته، من منظور قياداته الحقيقية.

"الكودات" اللغوية

اللغة العربية لغة ثرية، وليست سهلة، ولغة الفقه الإسلامي لغة معقدة. وعليه، عندما تتناول موضوع الجهاد، تجد الكلمة، وفق السياقات، ملأى بالـ"كودات"، والشيفرات اللغوية، مع رسائل يُقرأ ما بين سطورها، وهذا أمر تصعب ترجمته، إلا لمَن عاش مع الثقافتين. ولهذا، نرى الكثير من الرسائل المترجمة منقوصة المعنى.

على سبيل المثال، قد يكتب جهادي إلى بن لادن، ليستسمحه بالقيام بعملية انتحارية، ثم يسترعي انتباهه إلى موضوع ما، معززاً كلامه بآيات عدة تبيّن زهده في الحياة، ومن جهة ثانية حرصه على المصلحة العامة، ويُذكّر شيخه بأنَّ هناك أعمالاً مضرة بالتنظيم قد تكون مُتَعمّدة، أو عن جهالة، فسيستبعد بن لادن أي مصلحة دنيوية وراء مطالبه. وهذا أمر استغله أيمن الظواهري بطريقة مثالية، فسمح لكثير من هذا النوع من الرسائل التي تصب في مصلحة ما يرغب فيه، أن تصل إلى بن لادن، واستبعد الرسائل التي لا تدعم رأيه.

والمترجم، مهما كان متمكناً من اللغة، لن يتمكن من نقل المعنى بالترجمة المباشرة، وذلك وفقاً لأخلاقيات مهنته، إذ ليس من حقه التصرف بالنص.

امتلأت المراسلات بين القيادات بمثل هذه الـ"كودات". مثال على ذلك، عندما أمر بن لادن بتحويل ملف "التنبوليون" إلى العراقي. اسم يصعب تفسيره، ولهذا تُرجم إلى الإنكليزية بالاسم نفسه.

تغيير طبيعة "الجهاد"

ارتبط اسم بن لادن، مؤسس تنظيم القاعدة السلفي "الجهادي"، وزعيمه، بالإرهاب العالمي، وكذلك بتغيير طبيعة "الجهاد" الإسلامي، وخروجه من النمطية المعروفة، وتحويل العمليات من الطرق البدائية إلى الطرق التقنية والمبتكرة.

تخفّى بن لادن في آخر أيامه في بيت معزول عن طرق التواصل، وحدّت القيود المفروضة عليه من قدراته الميدانية على اتخاذ القرارات، وأصبح يعتمد على ما يحصل عليه من معلومات لاتخاذها

وقف العالم مذهولاً بعد تنفيذ هذا التنظيم واحدة من أغرب العمليات الإرهابية، إنْ لم تكن الأغرب على الإطلاق، في 11 أيلول/ سبتمبر 2001، عندما هاجم مواقع حيوية، وإستراتيجية، في أمريكا، منها برج التجارة العالمي، والبنتاغون، بطائرات مختطفة من قبل شخصيات عربية، تنتمي كلها للتنظيم، ما دفع الولايات المتحدة إلى إعلان الحرب على الإرهاب، تلك الحرب التي استهدفت طالبان، والقاعدة، وجعلتهما الهدف الرئيسي للحرب في أفغانستان، فلجأوا إلى حرب العصابات.

وما لا يقبل الشك، أن لبن لادن صفاتٍ، ومميزات، وقدرات قيادية مميزة، استخدمها خلال سنوات حياته، ووفقاً لمعطيات ظروفه. لكن السؤال الذي يجب أن نجيب عليه، هو ماذا تبقى من قدرات بن لادن، بعد إعلان الحرب على أفغانستان؟

بعض صفات الملياردير السعودي بن لادن أنه كان ذا صوت مسموع، ومقبولية عند معظم الأطراف الإسلامية الجهادية، وله تأثير كبير على المجاميع الجهادية، وهذه نقطة جعلت قيادات التنظيم تتمسك به قائداً لها.

ومن ناحية ثانية، كان يستمع إلى رأي "المخلصين"، ويتخذ القرارات بناء على المعلومات الميدانية التي كان يبحث عنها بنفسه، أو يجدها عن طريق رجاله، وكان يناقش الموضوع مع أصحاب الشأن بنفسه، أو عبر مَن ينوب عنه.

إذاً، هل كانت لبن لادن القدرة، والإمكانية على استخدام قدراته القيادية كلها، باستقلالية، وبالاعتماد على نفسه، بعد اندلاع الحرب في أفغانستان؟

أين اختفى؟

تخفّى بن لادن في بيت معزول عن طرق التواصل الحديثة كلها، في منطقة أبوت آباد، بعيداً تماماً عن العالم، وخصوصاً بعد المكافأة المالية المقدرة بـ25 مليون دولار، لمَن يدلي بمعلومات تقود إلى القبض عليه. خوف التنظيم عليه، جعله حريصاً الحرص كله على حمايته في مقر إقامته، وعزله عن العالم.

وما يؤكد هذا الأمر، المراسلات التي تم تبادلها بين قيادات القاعدة والتي حرصت عليه أشد الحرص، وأبلغته، باستمرار، بأخبار أقاربه في طهران، لكيلا يتحرك، أو يتواصل مع أحد مباشرةً.

وعليه، حدّت هذه القيود المفروضة عليه من قدراته الميدانية على اتخاذ القرارات، وأصبح يعتمد على ما يحصل عليه من معلومات لاتخاذها. بمعنى آخر، تحول بن لادن إلى ما يشبه تطبيقاً إلكترونياً يحتاج إلى إدخال المعلومات إليه، في مقر إقامته، ليقوم بدراستها، وتحليلها، ومن ثم إعطاء النتيجة.

الظواهري وجماعة الجهاد الإسلامي المصري

الظواهري أكبر سناً من بن لادن، وله تاريخ جهادي طويل. اعتُقل بعد انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين المحظورة في مصر، وعمره 15 عاماً، إلا أنه أكمل دراسته، وعمل طبيباً في إحدى ضواحي القاهرة، قبل أن ينضم إلى جماعة الجهاد الإسلامي عام 1973.

سلوكيات أيمن الظواهري تطابقت مع أفكاره، وهي مستمدة من فكرة الولاء والبراء، ما يبين لنا طبيعة شخصيته التي تحدد الناس بـ"إما عدو، أو صديق"، وهذا الأمر تسبب بكثير من النزاعات، والخلافات الداخلية

يُعتقد أن الظواهري من الشخصيات الأساسية وراء تأسيس جماعة الجهاد المصرية. واتُّهم عام 1981 باغتيال الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، إلا أنه بُرّئ من هذه التهمة، ولكن حُكم عليه بحيازة أسلحة غير شرعية، وحُبس على إثرها ثلاث سنوات، تعرض خلالها للتعذيب الجسدي، ويقال إن تلك الفترة هي التي تسببت بتطرفه، وتكوين شخصيته المعقدة صعبة المراس.

في المحكمة، تحدث الظواهري نيابة عن زملائه قائلاً: "نحن مسلمون نؤمن بديننا، ونسعى إلى إقامة الدولة الإسلامية، والمجتمع الإسلامي".

ما إن أُطلق سراحه في عام 1985، حتى توجه إلى أفغانستان، وأعاد تأسيس فصيل للجهاد الإسلامي، وأعلن مسؤوليته عن هجمات عدة داخل مصر في تسعينيات القرن الماضي، ومنها المذبحة التي تعرض لها سياح أجانب في مدينة الأقصر، وليصدر لاحقاً حكم عليه بالإعدام غيابياً، من قبل محكمة عسكرية مصرية، لدوره في الكثير من الهجمات الإرهابية في مصر.

يُعتقد أن الظواهري انتقل إلى مدينة جلال آباد الأفغانية عام 1997، حيث كان أسامة بن لادن يقيم. وبعد سنة، انضم تنظيم الجهاد، وخمس مجموعات راديكالية أخرى، إلى بن لادن، وتنظيم القاعدة، مشكّلين "الجبهة الإسلامية العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبيين".

وشمل إعلان الجبهة للمرة الأولى، فتوى دينية تسمح بقتل المدنيين في الولايات المتحدة، وبعد ستة أشهر، دمرت اثنتان من الهجمات المتزامنة، السفارتين الأمريكيتين في كينيا، وتنزانيا، وتسببتا بمقتل 223 شخصاً.

سلوكيات الظواهري تطابقت مع أفكاره، وهي مستمدة من فكرة الولاء والبراء، والتي ألّف كتاباً عنها، بالاسم نفسه، ما يبين لنا طبيعة شخصيته التي تحدد الناس بـ"إما عدو، أو صديق"، وهذا الأمر تسبب بكثير من النزاعات، والخلافات الداخلية.

القيادة عن بعد

ما إن بدأت الحرب على طالبان، وأصبح بن لادن الاسم الأول على قائمة المطلوبين في العالم، حتى اضطرته الظروف إلى الدخول إلى مخبئه، مجبراً، في مجمع حضري ضخم، على بعد 60 كيلومتراً من إسلام آباد، وبقيت حوله حراسات مشددة.

كانت المراسلات كلها التي تصله، تُفحص، وتُراقَب، من قبل جماعة الجهاد المصري، ومَن تعاون معهم، وعلى رأسهم الظواهري ومجموعته، وهذا وضعٌ منح الظواهري السيطرة الكاملة عن بعد، على عقل بن لادن.

لم تتمكن القوات الأمريكية من تحديد المكان الذي يختبئ فيه بن لادن بسهولة، على الرغم من الوسائل الاستخبارية والتقنية الحديثة كلها، إلا من خلال تعقب أحد مراسيله.

تم تسريب معلومات من بعض معتقلي غوانتانامو، كشفت الاسم المستعار الذي يستخدمه هذا المراسل، وبدأوا بمتابعة هذا الخيط أشهراً، ومن خلال الأقمار الصناعية، اكتشفوا كذلك أن سكان هذا البيت، الذي تقدر قيمته بمليون دولار، وتفوق مساحته ثمانية أضعاف حجم الدور في تلك المنطقة، وتحيط به أسوار عالية مع أسلاك شائكة، بالقرب من أكاديمية تدريب عسكرية باكستانية، كانوا لا يرمون الأوساخ خارج المجمع، بل يحرقونها في داخله.

كانت المراسلات التي تصل إلى بن لادن، تُفحص، وتُراقَب، من قبل جماعة الجهاد المصري، ومَن تعاون معهم، وعلى رأسهم الظواهري ومجموعته، وهذا وضعٌ منح الظواهري السيطرة الكاملة عن بعد، على عقل بن لادن

أثار المبنى، وساكنوه، الشكوك حول الشخصية المهمة التي تختفي فيه، ليكتشفوا لاحقاً، أن بن لادن يختبئ في المدينة، وليس كما كان متوقعاً، في كهف عميق، في مناطق القبائل الموالية، في أحد الجبال الوعرة النائية.

لم يجرؤ الظواهري على إعلان نفسه قائداً مباشراً للقاعدة في مرحلة مبكرة، بسبب شعبية بن لادن الكبيرة، وقدرته على التمويل التي تكشفها المراسلات، والتحويلات التي كانت تتم عن طريقه، ومن ناحية ثانية، بسبب شخصيته المملة، والثقيلة على قلوب الكثيرين من المجاهدين من داخل القاعدة، وكذلك من التنظيمات الأخرى. وما يؤكد هذا الادعاء، هو كثرة الخلافات بينه، وبين شخصيات قيادية أخرى، ومن بينها الزرقاوي.

عندما تبلورت في رأس الزرقاوي فكرة تأسيس الدولة الإسلامية في العراق، ورفض إعطاء البيعة الكاملة للقاعدة، ثار غضب الظواهري، وتفاقم الخلاف بين الرجلين حتى كاد أن يتسبب باقتتال داخلي.

وُصف الظواهري بحكيم الأمة، وهو أمر جعله ينظر إلى ما يقوله على أنه أمر سماوي، استناداً إلى مبدأ الحاكمية في الإسلام.

ولو جردنا الرسائل التي وصلت إلى بن لادن، خلال فترة هروبه من الملاحقة الأمريكية، لا نجد إلا الرسائل التي كانت تصب في صالح رغبات الظواهري، وسنجد الكثير من رسائل أعوانه، مثل خالد حبيب، وسيف العدل، وغيرهم من المصريين المرتبطين بالظواهري، وكأنهم الفصيل الولائي لجماعة الجهاد المصري.

أما رسائل رجال طالبان، وغيرهم، التي وُجدت في ملف العراقي، والتي تصب في مصلحة الرأي المعارض للظواهري، ومن المفترض أنها وصلت إلى بن لادن، فلم يتم العثور عليها بين أوراقه.

كان الظواهري رافضاً لفكرة انتقال العراقي إلى العراق، في أثناء حياة الزرقاوي، لهذا وُجدت الرسائل التي تصب في أن المصلحة العامة تقتضي تأجيل إرسال العراقي، أو وضع قيود عليه، فحسب، في الوقت الذي كانت فيه الآراء المؤيدة للفكرة كثيرة، إلا أن رسائل أصحابها، وتبريراتهم، لم تصل إلى بن لادن. بينما نجدها موجودة في ملف Fishman.

بمعنى آخر، كان بن لادن برنامجاً يتلقى المعلومات، ويصدر قراره بناء على هذه المعلومات الواردة إليه، بعد أن تكون قد مرت من تحت يد الظواهري.

يقول المحلل في شؤون الإرهاب من منظمة U-Turn النرويجية، Atle Mesøye: "من المهم أن نفهم بناء التنظيم، لنفهم طريقة أدائه. بعد اطلاعنا على أن مجموعة الجهاد المصرية كانت هي صاحبة الكلمة الفصل، علينا أن ننظر إلى صورة الجهاد العالمي بمنظور تاريخي".

السؤال الكبير

هل كانت خيوط الصراع كلها بيد التنظيم خلال تاريخه؟

أشار الباحث كول بنزل، من معهد هوفر الأمريكي، إلى حقيقة المؤشرات التي تشير إلى وجود روابط بين قادة تنظيم القاعدة، والنظام في إيران. وكان وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو قد أشار في خطاب له إلى أن القاعدة تتخذ من إيران قاعدة جديدة لها، ووُجّه الاتهام إلى إيران على أنها "بيت تنظيم القاعدة الجديد".

الاختلاف المذهبي بين الطرفين تسبب بطرح هذا الرأي جانباً. لكن ما حدث في عام 2015، في عملية تبادل محتجزين مع الجماعات الإرهابية، جعل الباحثين يفتحون الملف مجدداً بعد أن سمحت إيران لقيادات القاعدة الموجودين على أراضيها، بحرية الحركة، والحصول على الحماية من النظام، مع إدارة عمليات التنظيم من هناك.

أوضح تقرير "لجنة 11 أيلول/ سبتمبر" التي تشكّلت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2002، وقدمت تقريراً مفصلاً حول هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، أنه في التسعينيات من القرن الماضي، "سافر أعضاء، ومدرِّبون بارزون في القاعدة إلى إيران، لتلقّي تدريبات على المتفجرات، فيما تلقّى آخرون التوجيه والتدريب من حزب الله في لبنان"، وفي السنوات التي سبقت هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، "سافر عدد من مختطفي الطائرة من أتباع تنظيم القاعدة عبر الأراضي الإيرانية".

إلا أن أفراد القاعدة الذين كانوا محتجزين في إيران، شعروا بالاضطهاد، وعبروا عن استيائهم عندما فُرضت عليهم الإقامة الجبرية، وسُجن قسم منهم كذلك.

عندما نقرأ مراسلاتهم مع قيادات القاعدة، نجد أنهم أرسلوا رسائلَ تفيد بأنهم يطالبون القاعدة باختطاف شخصيات إيرانية، للتفاوض على حرياتهم، وهذا ما حدث فعلاً، واستخدمته القاعدة بطريقة ممنهجة.

كشفت إحدى الرسائل التي وجّهها المكنّى بـ"مكارم"، إلى قيادة القاعدة، عن دور الزرقاوي التفاوضي مع الحرس الثوري الإيراني، بشأن القنصل التجاري الإيراني في بغداد، والذي اختُطف بعد معركة الفلوجة في آب/ أغسطس 2004، وقال فيها: "كان اجتهاد الإخوة أن يرسلوا مع هذا الأسير رسالة شديدة اللهجة إلى إيران بشأن إخواننا الأسرى، وأن تتوقف عن الكشف عن هويات الإخوة المعتقلين لديها، عن طريق التسريب الإعلامي، فقد سربوا أسماء مثل سيف العدل، وأبو غيث، وأبو محمد، وغيرهم، وكان الزرقاوي ينوي توجيه تهديد مباشر لإيران بعدم التدخل في شؤون العراق، ومطالبتهم بإطلاق سراح الإخوة المجاهدين"، مضيفاً: "بالفعل، التزم الجانب الإيراني بعدم تسريب أسماء جديدة إلى الإعلام، عن المعتقلين لديهم، وتخفيف القيود المفروضة على الإخوة في السجن بعض الشيء".

كانت عائلة بن لادن محاطة بجماعة الجهاد الإسلامي المصري، وعلى رأسهم "أبو سهل" منسق التعاون بين القاعدة والحرس الثوري الإيراني، وهو صهر الظواهري، والشخص الذي رتّب الملاذ الآمن لقيادات القاعدة.

كان لهروب ابنة بن لادن إيمان من الحارسات الإيرانيات المرافقات لها، بينما كانت تتبضع وتشتري ملابس العيد، وللجوئها إلى السفارة السعودية، الدور الأكبر في إثارة موضوع التعاون بين القاعدة وإيران.

اتفقت إيران والقاعدة، عام 2010، على عملية تبادل المحتجزين التي شهدت إطلاق سراح عدد من أعضاء تنظيم القاعدة البارزين، بمَن فيهم حمزة نجل بن لادن، مقابل إطلاق سراح دبلوماسي إيراني اختُطف في باكستان عام 2008.

بعد سنوات عدة، وتحديداً في 2015، تمت عملية تبادل أخرى، تضمّنت دبلوماسياً إيرانياً كان فرع القاعدة في اليمن قد اختطفه عام 2013، وتُفسِّر هذه العملية الثانية سبب الحرية التي يعيشها بعض أعضاء التنظيم داخل إيران.

تناولت صحف رصينة عدة موضوع إطلاق سراح خمسة من أعضاء القاعدة البارزين من الاحتجاز الإيراني، بينهم ثلاثة مصريين هم سيف العدل، وأبو محمد المصري، وأبو الخير المصري، وأردنيان اثنان، هما أبو القسام، وساري شهاب، وذلك مقابل الدبلوماسي الإيراني المختطف في اليمن.

الخلافات تفضح ما يجري خلف الكواليس

ألقى زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري خطاباً، في تشرين الأول/ أكتوبر 2017، أدان فيه "هيئة تحرير الشام"، لأنها نكثت عهدها بإعطاء الولاء للتنظيم، وتلت ذلك حرب كتابية بين عبد الرحيم عطون، المسؤول البارز في هيئة تحرير الشام، الذي سعى للدفاع عن قرار الجماعة بالانشقاق، وبين عضوين بارزين في تنظيم القاعدة، هما سامي العريدي، وأبو القسام الأردني المشار إليه سابقاً.

وفي خضم هذه الحرب الكلامية، جذب الرجلان الانتباه إلى الصفقة التي تمت في 2015، بين القاعدة وإيران، والتي أدّت إلى إطلاق سراح قادة القاعدة الذين أشرفوا على انشقاق "جبهة النصرة" عن التنظيم الأم. سمحت إيران بسفر البعض، ولم تسمح لشخصيات أخرى بالسفر مثل سيف العدل.

يعيش اليوم عدد من قادة القاعدة في مقر إقامتهم الجديد، في قلب العاصمة الإيرانية طهران، وتحت جناح الدولة، بالضبط كما كان بن لادن في مخبئه في باكستان. كما يعيش قسم منهم في دول أخرى، بعد أن سمح لهم الطرف الإيراني بالرحيل، ومعظمهم يحلمون بالعودة إلى أفغانستان التي يعدّونها أرض الخلافة الحقيقية.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard