شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
شخص نقف أمامه عراة تماماً من الداخل... عن الصديق/ ة والصداقة

شخص نقف أمامه عراة تماماً من الداخل... عن الصديق/ ة والصداقة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 2 أغسطس 202210:29 ص

"مالك غير فلان"، هكذا أجابني أحدهم عندما سألت في المكتبة عمن يساعدني في البحث عن مصادر ومراجع لإتمام بحثي الجامعي. تعرفت على ذلك الشخص الذي سرعان ما غدا "صديق العمر" ورفيق رحلة الدراسة والحياة، و"الشقاء والتعتير" ولطالما تحدثت عنه بلغة يساري كـ "مخاض ثوري"، لا بد أن يفضي في نهايته إلى حصاد ما.

شريك التسكع والمرح والهزل الساخر، ولحظات التمرد والمغامرات الفكرية. أسرار الحب وعذاباته السعيدة المريرة. والأحلام المستحيلة في بلاد لا تؤمن بالأحلام. شريك الأعمال الوضيعة من عتالة الباطون إلى سوق الهال. وكوب القهوة (تلاتة بواحد) البلاستيكي الرخيص في كافيتريا كلية الآداب. نديم كأس العرق والنبيذ "المزّ" في ليالي الشتاء الباردة. رفيق السير في شوارع المدينة لأننا لم نكن نمتلك أجرة طريق العودة إلى بيوتنا. ولذلك، كثيراً ما يضحك عندما أقول له: إن ما جمعنا حقاً هو القدر المنحوس ذاته، والحياة المريرة ذاتها.

عيد الصداقة

يحتفل الناس على هذا الكوكب الشقي في الثلاثين من حزيران/يونيو من كل عام بيوم الصداقة العالمي. وعلى غرار مفاهيم عظيمة أخرى، كالحب، والحرية، تبدو أن أي قيمة شعورية إنسانية وجمالية، يتم تكريسها وتخصيصها في يوم احتفالي كرنفالي، تتجه كالكثير من صور حيواتنا كبشر، نحو الاندثار والاختفاء في زحمة ما يعانيه إنسان اليوم المعاصر من العزلة والاغتراب الاجتماعي في زمن وسائل التواصل والعوالم الزرقاء. وغدا، هذا الكائن الروبوت المحاط رغماً عنه بتكنولوجيا العصر الذكية مهمّشاً، لا تجري في عروقه دماء الحياة الطبيعية، ولا تضج في نفسه القلقة أرواح الفطرة التي جبل عليها. 

قد تلاشت تلك الأيام التي كان فيها التفاعل والتواصل بين الناس مباشراً وعفوياً لا تكتنفه حواجز أو يعلوه جليد صناعي، لا يتخفى فيه المرء وراء شاشة هاتف محمول، أو إيقاع لوحة مفاتيح باهتة، وتعبيرات وجه سخيفة وقلوب ملونة

فقد تلاشت تلك الأيام التي كان فيها التفاعل والتواصل بين الناس مباشراً وعفوياً لا تكتنفه حواجز أو يعلوه جليد صناعي، لا يتخفى فيه المرء وراء شاشة هاتف محمول، أو إيقاع لوحة مفاتيح باهتة، وتعبيرات وجه سخيفة وقلوب ملونة. وما يرافقها من عواطف ألكترونية باردة.
تصاب علاقتنا الطبيعية بمن نحب بالتصدّع لأسباب عديدة، منها الإهمال والتجاهل والتخلّي بدعوى ضيق الوقت واختلاف الظروف وزحمة المشاغل. وذلك في ظل زمن السرعة الذي بتنا "متبسمرين" أو متعلقين فيه أمام وسائل الاتصال الحديثة من كمبيوترات وانترنت وهواتف ذكية، باحثين عن علاقات بعيدة، قد تكون مجدية إنسانياً، ولكنها بالمقابل، مدمّرة لمحيطنا الاجتماعي القريب، ودائرة أصدقائنا المقرّبين.

الصديق الوفي

"مُمازَجة نفسيّة، وصداقة عقليّة، ومُساعدة طبيعيّة، ومؤاتاة خلقيّة". هكذا يخبرنا الفيلسوف والأديب الإيراني أبو سليمان محمّد بن طاهر السجستاني، في معرض سؤال عن علاقته بصديقه. وأما الفيلسوف المتصوف أبو حيان التوحيدي فيجيب عن أطول الناس سفراً، بقوله: الرحيل إلى الصديق. من هذا "السفر" الذي قد لا يعرف وصولاً، نستطيع أن نقول إننا غالباً ما نقضي حياتنا باحثين عن توأمنا الروحي، ونصفنا الآخر. قد نلتقيه، وقد لا نلتقيه، فإذا ما وجدناه امتلأنا به، كأنه وضع الوجود كله في قبضة يدنا. فلا نطلب بعد ذلك شيئاً.

الصديق الند هو الذي لطالما يشكل لدينا غيرة إيجابيةً وحسداً تغلفه الرغبة في منافسته دون تحطيمه، أو تدمير جوهر نجاحه.

الصديق الند هو الذي لطالما يشكل لدينا غيرة إيجابيةً وحسداً تغلفه الرغبة في منافسته دون تحطيمه، أو تدمير جوهر نجاحه.  يدفعك وتدفعه إلى الأمام. يكون عكازك، وتكون عكازه إذا ما سقطت أو سقط. لا تمحو مكانته في الوجدان مسافة أو أو اختلاف آراء وتطلعات. الصديق الذي إذا ما حدثته ولو بعد سنوات، تشعر وكأنك تركته في سهرة الأمس، فلم يتغير، ولم تصبه/ك آفة النسيان، ويغطي شعوره/ك نحوه/ك صدأ الارتياب.

يا خلّي

في أسطورة ملك تاريخي لدولة الوركاء السومرية جلجامش، يقترن الصديق بالبشارة. فنجد الآلهة "ننسون" والدة جلجامش تفسر له أحد مناماته بصديق سيكون عوناً له. يملك عليه نفسه، قائلة: " إنّه صاحبٌ لكَ قويّ يعين الصديق عند الضيق، سيُلازِمك ولن يتخلّى عنك". فالبطل الأسطوري الباحث عن الخلود، المتمتع بملوكيّة مقدَّسة على البشر، صاحب الحُسن والبطولة الفائقة. وعلى الرغم من كل النعم التي نَعِم بها، إلا أنّ النبوءة بصديق حلّت في بداية المَلحمة، بوصفها بشرى سعيدة، مَنحت الصداقة مَوقِعًا رمزيًّا في النص الخالد. فالخلود الذي كان ينشده جلجامش يحتاج رفيقاً. 
شغلت صداقة جلجامش وأنكيدو قسماً كبيراً من الملحمة، فلازم كلٌّ منهما الآخر، ومضيا معاً إلى مغامراتهما الكثيرة. وأَخلَصَ كلّ منهما للآخر إخلاصاً يعكس بعضاً من معاني الصداقة ودلالاتها، كالوفاء، والإخلاص، وتقديم العون، والحماية.
ولطالما عبَّر كلّ واحد منهما عن شكواه وأحاسيسه ومخاوفه للآخر، مُخاطباً إيّاه "يا خِلّي". هذا النداء الآسر للقلوب لصدقيّته كونه صادراً عن أعماق الروح. أمّا رثاء جلجامش لأنكيدو، المحمول على عاطفةٍ جيّاشة فائقة الشعريّة، فكان بمثابة التتويج الدرامي لقضيّة الصداقة، إذ بات جلجامش كسيراً أمام مَرَض صديقه، وهو الذي لم يكُن يقوَى عليه أحد.

المحظوظ فقط في هذا العالم، من يجد قريناً لروحه، وصديقاً بمثابة "الأخ الذي لم تلده أمه". فالواحد منّا، لا يستطيع أن يحمل عبء وجوده وحده، لا بد له من صديق يؤنس وحشته، ويحمل عن كاهله ما تراكم من هموم وأوجاع جراء ما يقاسيه في حياته ويقاسمه لحظات سعادته وفرحه

ولذلك، فالمحظوظ فقط في هذا العالم، من يجد قريناً لروحه، وصديقاً بمثابة "الأخ الذي لم تلده أمه". فالواحد منّا، لا يستطيع أن يحمل عبء وجوده وحده، لا بد له من صديق يؤنس وحشته، ويحمل عن كاهله ما تراكم من هموم وأوجاع جراء ما يقاسيه في حياته ويقاسمه لحظات سعادته وفرحه.
شخص لا نحتاج معه إلى ارتداء أقنعة البراءة والمثالية، شخص ننظر إليه كما ننظر إلى وجوهنا في المرآة، ونتحدث معه كما نتحدث إلى أنفسنا. شخص نقف أمامه عراة تماماً من الداخل، بلا تجميل لأفكارنا أو تعقيم لمشاعرنا. شخص يقبلنا كما نحن، ويحبنا لذواتنا الخاصة دون منفعة أو مصلحة. لذلك، يبدو البحث عن الصداقة المبنية على الحب والود المنزه عن الأغراض، والقائمة على التبادل والتشاركية أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش. الصديق- القرين الذي قد لا يتأتى لأحدنا لقاؤه طوال حياته التي يعيشها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard