بظهر منحنٍ، ويدين مرتجفتين، اعتاد الحاج محمد الأحمد، شرب قهوته على شرفة دار المسنين التي يقيم فيها، في طقوس يومية صارت روتينه ورفاقه في الدار، بعد هجرة ولديه إلى أوروبا وبقائه وحيداً في مدينة دمشق، حسب ما يقول لرصيف22.
يروي: "في بادئ الأمر، لم أكن من مؤيدي سفر أبنائي إلى خارج سوريا، ولكن الخوف على حياتهم والظروف التي تعيشها البلاد، بالإضافة إلى الخوف من قيام النظام السوري باعتقالهم وإرسالهم إلى الجبهات، دفعتني إلى تشجيعهم على السفر ليعيشوا في أمان بعيداً عن الحرب وويلاتها".
ومنذ اندلاع الثورة السورية في آذار/ مارس من عام 2011، قُتل آلاف الشباب السوريين، بينما هاجر ملايين آخرون هرباً من الحرب، وبحثاً عن مستقبل أفضل، كما التحق آخرون بالخدمة الإلزامية في قوّات النظام وغيرها، لتتحول مناطق سيطرة النظام إلى مناطق شبه خالية من عنصر الشباب.
ويصل عدد اللاجئين السوريين الذين اضطروا إلى مغادرة سوريا منذ عام 2011، إلى أكثر من خمسة ملايين و584 ألفاً، حسب أرقام مفوضية اللاجئين، وتصل نسبة الشباب الذكور بين عمر 18 و59 سنةً، إلى 32.9%، بينما تصل نسبة الشابات من اللاجئات اللواتي في الأعمار نفسها، إلى 19.9%.
وتشير التقديرات إلى أن نسبة المسنين في سوريا وصلت إلى نحو 8.5%، من تعداد السكان الكلّي، كما أنه من المتوقع أن يصبح عدد الأشخاص الذين تفوق أعمارهم الـ60 عاماً، أكبر من عدد الأفراد الذين تقلّ أعمارهم عن 12 عاماً، في عام 2050.
من المتوقع أن يصبح عدد الأشخاص الذين تفوق أعمارهم الـ60 عاماً، أكبر من عدد الأفراد الذين تقلّ أعمارهم عن 12 عاماً، في عام 2050
معاناة كبار السن
يواجه المسنّون في سوريا صعوبات عدة على جميع الأصعدة؛ الاقتصادية، والاجتماعية، والصحية، إذ لم تقتصر معاناتهم التي سببتها الحرب السورية على تغييب أبنائهم الذين كان يجب أن يكونوا عوناً لهم عند كبرهم، بل وصلت إلى حد العيش تحت ظروف معيشية استثنائية، تصعب حتى على الشباب مواجهتها، سواء في الخيام أو في البيوت.
ومن أبرز ما يعاني منه المسنّون في سوريا، المشكلات التي تتعلق بالاحتياجات الصحية، خاصةً في ظل الظروف التي يمر بها القطاع الصحي في البلد، إذ يواجه كبار السن صعوبات في المراجعات الطبية في المراكز الطبية والمستشفيات، وأخرى مرتبطة بالقدرة على تأمين الوصفات الطبية والحصول عليها.
وطوال السنوات الست الماضية، تدهورت بشكلٍ خطيرٍ فرص الحصول على الخدمات الصحية، فأكثر من نصف المستشفيات العامة والمراكز الصحية الأولية في سوريا قد أُغلِقت أو لا تعمل إلا بصورة جزئية. وفرَّ من البلاد ما يقرُب من ثلثي العاملين في مجال الرعاية الصحية.
ولا تزال الكثير من مرافق الرعاية الصحية، تفتقر هي الأخرى إلى المياه النظيفة والكهرباء والإمدادات والمستلزمات الطبية والجراحية الكافية، بينما يعاني الناس ويموتون بسبب نقص الأدوية اللازمة لحالات مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري والفشل الكلوي، بحسب منظمة الصحة العالمية.
وكانت الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان قد أجرت دراسةً حول تقييم احتياجات الحماية للمسنين، توصلت إلى غياب المتخصصين في رعاية المسنين، لا سيما المختصين بالجانبين النفسي والاجتماعي، بالإضافة إلى أن مستوى الخدمات والمرافق في دور رعاية المسنين يتناقص كلما ازداد عدد المسنين.
بعد تخلّي أبنائي عني، قمت بالتوجه إلى دار الكرامة في دمشق، حيث أقيم منذ سنوات. الأوضاع ليست جيدةً، ولا يتم تأمين كامل احتياجاتنا، لكن بالرغم من ذلك يبقى هذا أفضل من البقاء وحيداً في الخارج
وتأثّرت البنى التحتية بدور الرعاية الاجتماعية، ومنها دور رعاية المسنين، بسبب ما تمر به سوريا من ظروف، كما أن فئة المسنين لم تحظَ بالاهتمام الكافي، في ما يخص المساعدات الإغاثية، إلى جانب دعمهم لمواجهة الإهمال والعزلة، بسبب عدم وجود معيل أو مساعد من الأسرة للمسنّ.
شروط القبول
ولا تقبل دور رعاية المسنين السورية جميع كبار السن المتقدمين للبقاء فيها، بالرغم من أنهم لا يملكون بديلاً عن ذلك، فهم غير قادرين على البقاء وحيداً وتأمين احتياجاتهم المتزايدة، خاصةً مع غياب أبنائهم وتقدّمهم في العمر، إذ تشترط تلك الدور ألا يكون عمر المتقدم قد تجاوز الـ70 عاماً، وألا تكون صحته في حالة سيئة جداً ويحتاج إلى عناية خاصة، بالإضافة إلى توافر شروط أخرى.
وتوجد في سوريا 20 داراً خاصةً برعاية كبار السن، وتتم إدارة هذه الدور بشكل خاص وبالتعاون مع المدنيين الموجودين في المنطقة، كما توجد أيضاً دارا رعاية تابعتان لحكومة النظام السوري، الأولى هي دار الكرامة لرعاية المسنين والعجزة في دمشق، والثانية مبرة الأوقاف لرعاية المسنين في حلب. وتصل تكلفة الإقامة في إحدى دور رعاية المسنين الخاصة إلى 250 ألف ليرة سورية في الشهر، ما عدا ثمن الأدوية، ويكبر المبلغ في حال الحاجة إلى مرافِق.
تقول مسنّة مقيمة في دار السعادة في مدينة دمشق، فضلت عدم ذكر اسمها: "انتقلت إلى السكن في الدار قبل ثلاث سنوات، وتأقلمت مع حياتي الجديدة بعيداً عن أبنائي، واستطعت أن أتغلب على كل شيء، باستثناء شعوري بالوحدة وتعاملي مع الهاتف المحمول عند محاولة التواصل مع أبنائي".
وتتابع في حديثها إلى رصيف22: "لم يكن المجيء إلى الدار والبقاء هنا خياراً سهلاً، لكن في المقابل لم أرغب في أن أكون عبئاً على أبنائي. بعت منزلي في حي جوبر، وقررت تمضية ما تبقى من عمري في الدار بسلام بعيداً عن الجميع".
شهدت دار الكرامة لرعاية المسنّين والعجزة في دمشق، ازدياداً في أعداد المسنين في الدار، إذ ارتفع عدد الطلبات إلى 500 طلب، أي إلى أكثر من 10 أضعاف ما كان عليه قبل العام 2011
من جهته، عبد الله الزين، وهو مسنّ مقيم في دار للرعاية في مدينة حلب، يقول لرصيف22: "بعد تخلّي أبنائي عني، ولكوني لست من أبناء الطبقة الغنية ولست قادراً على رعاية نفسي، قمت بالتوجه إلى دار الكرامة في دمشق، حيث أقيم منذ سنوات. الأوضاع ليست جيدةً، ولا يتم تأمين كامل احتياجاتنا، لكن بالرغم من ذلك يبقى هذا أفضل من البقاء وحيداً في الخارج. اعتدت على الجميع هنا، وأصبحت لدي أسرة جديدة بعد خسارة أسرتي القديمة".
ارتفاع أعداد المسنّين
وشهدت دار الكرامة لرعاية المسنّين والعجزة في دمشق، ازدياداً في أعداد المسنين في الدار، إذ ارتفع عدد الطلبات إلى 500 طلب، أي إلى أكثر من 10 أضعاف ما كان عليه قبل العام 2011، حين كان عدد الطلبات لا يتجاوز الـ40 طلباً.
يُرجِع مدير الدار، جورج سعدة، ذلك إلى سوء الأوضاع الاقتصادية في المنطقة، وقال في تصريح صحافي، إنه بات من الضروري إحداث دور لرعاية المسنين في المحافظات كلها، لتخفيف الضغط عن دار الكرامة.
وتحدث سعدة، عن تفاصيل مؤلمة للغاية يواجهها المسنّون، مثل حدوث حالات انقطاع تواصل بينهم وبين أبنائهم لمدة تصل إلى أشهر عدة، بينما يرفض بعض ذوي المسنّين طلب الدار حضورهم لمرافقة المريض إلى المستشفى.
وبحسب سعدة، فإن بعض المسنّين توفوا في الدار، وقامت الدار بالترتيبات المتعلقة بالدفن كلها، من دون أي مشاركة من ذوي المتوفى، وبعد سنتين أو ثلاثة من الوفاة يتصل أبناء النزلاء ليجدوا أن ذويهم قد توفوا. ويوجد في الدار نزلاء مقيمون فيها منذ أكثر من 30 سنةً، أما النسبة الأكبر منهم فقدمت إلى الدار قبل 5 أو 6 سنوات.
وشهدت مناطق سيطرة النظام السوري، خلال السنوات الأخيرة، قصصاً حزينةً عن تخلي الأبناء عن آبائهم وأمهاتهم، حتى أصبحت دور المسنين لا تتسع لهم، بسبب التفكك الأسري والاجتماعي نتيجة التدهور المعيشي والاقتصادي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...