شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"قبل النكسة بيوم"... كيف تستعيد أسباب الهزيمة وأنت في نشوة الانتصار؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 20 يوليو 202205:01 م

 استمرت الذاكرة الجمعية المحتشدة بالحكايات تنفّس عن زخمها عبر فنون عديدة على مدار قرون خلت، منتجة تراثاً يبدو السياسي والإجتماعي والتاريخي فيه عجينة واحدة. حملت السِير الشعبية وعروض الأرجوز وغيرها من الفنون تلك الذاكرة ونشرتها من مكان لآخر، ومن زمن لآخر. إنها عوالم لا يمكن أن تفصل فيها ما هو ماض عما نعيشه، قصص الحب تروي عن الخيانات السياسية، والهزائم تحكي عن الانتصارات. تيارات روائية عديدة حملت هذا الهم التاريخي والسياسي أيضاً عبر أجيال مختلفة، سواء عاد عالم الرواية إلى الماضي البعيد أو التاريخ المعاصر.

يتفق هذا مع طموح إيمان يحيى عبر مشروعه الروائي: نقل ذاكرة النضال الإنساني، وإعادة صياغتها في قالب ممتع لأجيال قادمة، علنا نرتق الذاكرة المثقوبة، وهو ما عبر عنه يحيى: "أنا أقرب للتيار الذي يرى أن الكتابة ليست رد فعل بل هي بالضرورة فعل واع. هناك من يكتب الرواية من أجل المتعة فقط؛ بالطبع، الرواية من دون متعة لا تكون رواية، لكن من وجهة نظري لا بد أن يكون هناك مضمون له هدف سياسي واجتماعي، وهَمّ يوقظ وعي الإنسان. مصيبة هذه الأوطان أنها لا تتعلم من تجاربها عبر التاريخ، نحن ندور في حلقة مفرغة، نسير في حركة دائرية باستمرار، فنعود من جديد إلى نقطة الهزيمة، ولا نستطيع تجاوزها، فلا يحدث أي تراكم حقيقي في خبراتنا الإنسانية". 

دوائر الهزيمة ولحظات الانتصار

في روايته الأحدث "قبل النكسة بيوم"، الصادرة عن دار الشروق، يعود الروائي إيمان يحيى إلى ما قبل هزيمة 5 يونيو/ حزيران 1967 بسنوات، تحديداً قبل عامين ونصف العام من الحدث المزلزل، ليرصد كل ما كان سبباً للحظة الانهيار، وفي الوقت نفسه، يرتكن إلى خط زمني آخر، يستعيد فيه ذاكرة الانتصار، وهو أيام ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 لتكون محور ارتكازه في حكاية ترويها ثلاث شخصيات: كريمة التي نراها فتاة نوبية حالمة بحياة أفضل في الستينيات ثم جدة مناضلة مع حفيدها في ميدان التحرير، وحمزة المناضل الذي تحطمت أحلامه في المعتقل في الستينيات أيضاً، وأتت الثورة وقد أصبح اقتصادياً رأسمالياً في نيويورك. وعبد المعطي، الصحافي ذو الوجوه المتعددة في الستينيات وأيام ثورة يناير. إنهم أبناء الجيل الذي شهد الحلم الجماعي والهزيمة الجماعية، يبدأون مع انتصار جماعي لحظي، ليسردوا تفاصيل الماضي.

في روايته الأحدث "قبل النكسة بيوم"، يعود إيمان يحيى إلى ما قبل هزيمة 5 يونيو/ حزيران 1967 بسنوات، ليرصد كل ما كان سبباً للحظة الانهيار، وفي الوقت نفسه، يرتكن إلى خط زمني آخر، يستعيد فيه ذاكرة الانتصار، وهو أيام ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011

يرى يحيى أن هذا متسق مع ما عاينه بنفسه قائلًا:  "كان عمري 13 سنة عند حدوث النكسة، فكنت واعياً باللحظة. بالنسبة للأجيال التي عاصرت الأحداث، فالنكسة لم يمحها حتى انتصار أكتوبر. ثورة يناير أيضاً لم تمح إحساسي بالهزيمة، ما أحدثته النكسة من تداعيات في المجتمع أكبر بكثير. المصريون قبل النكسة كانوا يضحكون ويتبادلون النكات، بعد النكسة صارت النكات مريرة وسوداء".

الذاكرة الشخصية

إن كانت هزيمة يونيو/ حزيران 1967 لحظة فارقة بالنسبة للمجتمع المصري وكذلك  بالنسبة للطفل إيمان يحيى ذي الثلاثة عشر عاماً، فإن تجربته المهنية كطبيب ممتلئة باللحظات الفارقة التي باح بها في روايته الأولى "الكتابة بالمشرط"، التي بدأ بها مشروعه في الربط بين الرصد السياسي والاجتماعي والمشاهدة الذاتية، من خلال التعبير عما يحدث في المستشفيات من فساد.

 كان إيمان يحيى منخرطاً في العمل السياسي والنضالي خلال السبعينيات والثمانينيات، إلى جانب تجربته مع النشر عبر كتابة المقالات والترجمة، ولم يبدأ في الكتابة الروائية سوى في أواخر عقده السادس، حين قرر البعد عن الكتابة السياسية والارتباط بالقراء عبر وسيط آخر.

 كانت روايته الأولى أقرب للبوح الذاتي بتفاصيل عاشها أو راقبها عن كثب خلال عمله، وهو ما يعلق عليه قائلاً: "أنا أكتب أجزاء من تاريخ مصر. حكايات طواها النسيان. أحد أهم اهتماماتي الأدبية والفكرية هو إعادة كتابة تاريخ مصر الاجتماعي والسياسي واكتشاف جوانب جديدة به، لكني أخشى أن تستغرقني تلك الروايات، فلا أكتب عن تجاربي الذاتية، ويمر العمر دون كتابة التجارب المتفردة التي مررت بها. لذلك ربما أضفر الاجتماعي بالسياسي والثقافي مع التاريخ الشخصي".

التماس مع إدريس ومحفوظ

ارتبط مشروع د. يحيى بكبار كتاب مصر، إذ تتبع قصة زواج يوسف إدريس بابنة فنان الجداريات المكسيكي دييجو ريفييرا في روايته الثانية "الزوجة المكسيكية"، ووازى بينها وبين أحداث رواية "البيضاء" لإدريس، إلا أنه في روايته الأخيرة استعان باقتباسات من رواية نجيب محفوظ "ميرامار" في الاستهلال، وليس غريباً على كاتب يحمل الهم التاريخي العام، أن يشتبك مع كتابات أجيال حملت هذا الهم بأشكال مختلفة، وهو ما يشير إليه قائلاً: "هناك ثلاثة نصوص استرعت انتباهي عام 1966، أحدها لتوفيق الحكيم، وهي المسرحية الروائية (بنك القلق)، ونصان لنجيب محفوظ هما (ثرثرة فوق النيل) الرواية المحفوفة بالتجريب ولغتها الجديدة، وشخصياتها التي تمثل نماذج اجتماعية مشوهة ورواية (ميرامار) التي كانت أكثر قوة في نقدها الاتحاد الاشتراكي والنظام السياسي. أعتقد أن نجيب محفوظ كان أكثر جرأة في كشف الواقع كفنان روائي منه ككاتب مقالات صحافية".

إيمان يحيى: هناك مشكلة كبيرة يواجهها أي باحث في إعادة الرؤية لتاريخ مصر المعاصر مع غياب جزء كبير من الأرشيف الوطني، والاعتماد على مصادر تاريخية  محدودة، تكاد تكون كلها أجنبية

الحُب وأشياء أخرى

تشابه آخر بين بنية روايته الثانية، التي فازت بجائزة ساويرس فرع كبار الأدباء في العام 2021، كما وصلت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، وبين بنية روايته الأخيرة، حيث تتجاور خطوط سردية من أزمنة مختلفة، تشكل فيها الأحداث السياسية بؤرة أساسية، وحيث الخط الذي يدور خلال أحداث الثورة أو ما بعدها ملحوظ، إلا أن بؤرة أخرى لا تقل أهمية تجتذب إيمان في الروايتين، هي قصص الحب والعلاقات التي تثقلها أشياء أخرى.

في رواية "الزوجة المكسيكية" هناك علاقة الأستاذ الجامعي وطالبة الماجستير في خط الحاضر، ما بعد 2011، وعلاقة يوسف إدريس وزوجته المكسيكية في خط الماضي، في بداية الخمسينيات، وعلاقة يحيى والفتاة اليونانية في رواية "البيضاء" ليوسف إدريس، علاقات حب يحكمها واقع سياسي واجتماعي له خصوصيته، إلا أنه في رواية "قبل النكسة بيوم" كان لعلاقة الحب بين كريمة وحمزة بعد اجتماعي، فإن كانا قد استطاعا تجاوز الاختلاف الطبقي بين ابنة البواب التي تسكن سطح عمارة في شارع قصر النيل، وبين ابن الطبقة البرجوازية الذي يسكن حي شبرا، مع زخم الأفكار الاشتراكية في الستينيات، إلا أن واقع ما قبل هزيمة يونيو من اعتقالات وتناقضات، إلى جانب صخرة العادات والتقاليد التي تمنع النوبية من الزواج بغير النوبي لم يكن هيناً. فبدت نهاية قصة الحب في الرواية واقعية جداً، وأكثر اتساقاً مع لحظة هزيمة هذا الجيل، وهو ما يعلق عليه الروائي: "في الستينيات، وبعد صدور قوانين يوليو الاشتراكية، بدأت أحلام كبيرة للطبقات الشعبية. وأعتقد أنه كان هناك نوع من الحراك الاجتماعي خاصة في الريف وكذلك بين ذوي الأصول الريفية في المدن، وبدأت في نهاية الخمسينيات ومطلع الستينيات أشكال جديدة من الارتباطات الأسرية التي تحاول القفز على الواقع الاجتماعي، رغم وجود مقاومة عنيفة، طبقية وثقافية. لو حاولنا النظر بشكل أكبر من قصة الحب بين حمزة وكريمة، سنجد أنه في تلك المرحلة التاريخية بدأت المهور تقل، ومع عمل المرأة أصبحت المشاركة المادية والاجتماعية هي أساس الزواج. قطاع كبير من المجتمع في الستينيات رفض فكرة قائمة الأثاث المنزلي التي أصبحت الآن سبباً في إنهاء علاقات قبل الزواج، وأصبحت شكلاً عقابياً في الحاضر". 

بين التوثيق والإبداع

تحتوي كثير من الروايات المهتمة بالتاريخ السياسي على فواصل أو فصول قاطعة للسرد، معتمدة على التوثيق المرتبط بالعصر المروي عنه، ولعل أشهر من قدم تلك التجربة صنع الله إبراهيم معتمداً على أرشيف الصحف، إلا أن إيمان يحيى في روايته الأحدث، لا يلتزم بأرشيف الصحف أو النقل المباشر عن كتب أو مراجع، إلا في ثلاث فواصل فقط، أما باقي الأبواب الفاصلة بين روايات الأبطال، فهي معتمدة على معارف الكاتب، وما تم تداوله أو نشره، معظمه مسرود بشكل أدبي، ليعبر عما حدث في مصر قبل نكسة يونيو، وكان سبباً مباشراً لحدوثها، من فساد سياسي واستغلال سلطات، وكأنه جزء من التاريخ الشعبي المتداول والمنشور، ولسنا بحاجة لذكر مصادرها، وهو ما يعلق عليه يحيى: "الفواصل ترصد وقائع، بعضها إعادة صياغة لما كتب في مراجع هامة، أو طرح أدبي لما كان متداولاً ويمثل حقائق معروفة، لكن وضعها في السياق المقدم يطرح رؤيتي من خلال وسائط مختلفة. لم أحب أن تكون الفواصل كلها بشكل وثائقي صرف، فقمت بإعادة صياغتها بشكل سردي، واستخدمت شهادات ومراجع وظللت أبحث وأكتب لعامين. وأعتقد أن هناك مشكلة كبيرة يواجهها أي باحث في إعادة الرؤية لتاريخ مصر المعاصر مع غياب جزء كبير من الأرشيف الوطني، والاعتماد على مصادر تاريخية  محدودة مثل الأرشيفات البريطانية، رغم وجود مرجعيات هامة أخرى مثل الأرشيف الألماني من عام 1908 حتى ستينيات القرن الماضي". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image