تحتاج إلى عبور غابة متشابكة من إطارات وقطع غيار السيارات، وأدغال خطرة من الباعة الجائلين، وطلبة مدارس ثانوية، وورش لصيانة وطلاء السيارات وأطلال مصانع مهجورة لتصل إلى "بيت المدينة" أو جاليري التاون هاوس Town House، الذي ينتصب طوال خمسة عشر عام وسط الفوضى المعمارية والبشرية في المنطقة مقدماً رؤية عنيدة للتنمية الثقافية والرعاية الفنية، غيرت بالتأكيد شكل الفن المصري المعاصر.
احتفل جاليري "التاون هاوس" مؤخراً بمرور خمسة عشر عام على تأسيس المكان الذي وضع أسسه ويديره حتى الآن ياسر جراب ووليم بجانب فريق ضخم يتغير باستمرار من الفنانين ومنسقي المعارض. حينما بدأ "التاون هاوس" نشاطه في مصر لم تكن هناك مؤسسات ثقافية مستقلة، والعمل الثقافي والفني تحتكره الدولة إلى جانب عدد قليل من الجاليرهات التي تعمل بشكل أساسي في بيع التحف واللوحات.
اعتمد جاليري "التاون هاوس" في بدايته على التمويل والدعم من المؤسسات المانحة الأوروبية، ووضع منذ البداية خطين يحكمان عمل الجاليري الأول هو التنمية الثقافية والثاني هو رعاية الفن المعاصر. ساهم "التاون هاوس" في إطلاق عشرات الأسماء التي أصبحت علامات هامة في المشهد الفني المعاصر، كما غير من شكل الفن المعاصر وتعامل المؤسسات المحلية والأجنبية معه.
حينما بدأ التاون هاوس عمله لم تكن أعمال كالفيديو آرت، أو التجهيز الفني تلقى أي اهتمام من المؤسسات الفنية الحكومية، لكن التاون هاوس وفر الرعاية والتدريب لهذه الأعمال ولفنانين لا يمكن تقييم أو بيع أعمالهم الفنية.
ربما لهذا السبب استضاف "التاون هاوس" معرض "الأمان الاجتماعى" وهو أشبه بتجربة نوعية يشرف عليها شهاب عوض وآنيا شرمسكي والهدف منها البحث عن سبل جديدة وقابلة للتطبيق لتوفير شبكة من الدعم والضمان الاجتماعي للفنانين بعيداً عن طرق جمع التبرعات من خلال التمويل الجماعي مثل موقع كيك ستارترKickstarter . منحت إدارة التاون هاوس طابقاً كاملاً من مبناها لمنظمي المعرض الذين حولوه إلى منزل يحتويعلى صالة ومطبخ وحمام وغرف متنوعة تحولت إلى استديوهات إقامة لفنانين مدة شهر.
معظم المشاركين لا يزالون في بداية تطوير مشاريعهم الفنية. عبادة أشرف الذي يعمل على إنجاز فيلم له حوّل الغرفة لتحاكي برنامج المونتاج، يعرض عليها صوراً ومقاطع أنتجها تباعاً، ناصباً في زاوية من الغرفة جهاز المونتاج الذي يعمل عليه. الزائرون للمعرض شاهدوا على مدار شهر ما يتم إنجازه يوماً بعد يوم. أما بقية الغرف فيعمل في إحداها يزن الزعبي الذي يوظف الممارسات الرقمية لمعالجة الصور، بينما يطلق أحمد عياد ودينا شعبان في غرفة أخرى مشروع "مشترك" وهي تعاونية ما زالت في مرحلة التكوين تسعى لخلق مساحة للإنتاج والنقاش حول اللغة البصرية والتصميم في الحياة المعاصرة. كل هذه الأعمال في طور العرض والتكوين، بينما يقوم شهاب وآنيا ببيع الطعام والمشروبات للزائرين، ما يوفر العائد المادي الذي يساهم في تمويل مشاريع الفنانين.
يبدو معرض "الضمان الاجتماعي" وكأنه مجاز لسنوات عمل الجاليري التاون هاوس الخمس عشرة. فالجاليري الذي بدأ عام 1998 بغرفة واحدة في ذلك المبنى أصبح الآن يشغل مبنى من ثلاث طوابق، واستطاع تحويل مصنع ورق مهجور إلى أكبر مساحة ثقافية في وسط البلد، وبناء استوديوهات "الروف توب" التي توفر مساحة عمل لعشرات الفنانين المقيمين في القاهرة، بالإضافة إلى برامج ثقافية وفنية مستمرة للتوعية تخدم آلاف الأفراد.
برامج التاون هاوس لا تقتصر على رعاية الفنانين المستقلين. سعى طوال الوقت إلى أن يكون جزءاً فعالاً في المجتمع المحيط به، المليء بالحرفيين والعمال. منذ سنوات، يقيم الجاليري ورش فنية متعددة لأطفال الحرفيين، وكما يوضح ياسر جراب: "خلال كل هذه الفترة بعض الذين بدأوا معنا أطفالاً في الورش أصبحوا الآن منشطين ثقافيين يقومون بالإشراف على الورش ذاتها وإدارتها" .
إلى جانب معرض "الضمان الاجتماعي"، نظم التاون هاوس معرضين لإثنين من الفنانين اللذين بدأوا مسيرتهم مع التاون هاوس. المعرض الأول هو قص ولزق لهدى لطفي، وفيه تعيد لطفي تشكيل الضوضاء البصرية التي أنتجها الإعلام والحراك الشعبي في مصر في السنوات الأخيرة داخل موتيفات، كأنها تصنع متحفاً مصغراً للحظات الفقد. أما لارا بلدي، فيبدو أن البهرجة التي ميزت أعمالها عندما بدأت في العرض في التاون هاوس قبل 15 عام قد انتهت، لتحل محلها رمزية البروبجندا، حيث قدمت في عرضها "الحرية جاية ولا بد" مجسماً ضخماً لحزام العفة، وتركت مفتاحه معلقاً في غرفة صغيرة أخرى ملحقة بالعرض.
بدأ التاون هاوس معتمداً على تمويل ودعم المؤسسات الأجنبية، لكنه الآن يشارك في العديد من المشاريع ويعقد اتفاقيات شراكة مع مؤسسات تجارية محلية بدأت تهتم لأسباب مختلفة بالفن المعاصر وبرعايته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...