شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
الجبر والإكراه... كيف أثّرت السياسة في ميادين الفقه والعقيدة؟

الجبر والإكراه... كيف أثّرت السياسة في ميادين الفقه والعقيدة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الخميس 5 مايو 202211:32 ص

بعد ما يقرب من ثلاثين عاماً من وفاة النبي، أُسدل الستار على دولة الخلافة الراشدة، لتبدأ مرحلة جديدة اشتهرت باسم "الملك العضوض" بحسب ما ورد في بعض الأحاديث والروايات المنسوبة إلى الرسول. اتصفت تلك المرحلة بإجبار المسلمين على البيعة، وبإكراههم على الاعتراف بشرعية انتقال الخلافة من الأب إلى الابن، ما أشاع روح الجبر في المجال السياسي العام.

ويمكن القول إن هذه الروح الجبرية لم تبقَ كامنة في المجال السياسي فحسب، إذ سرعان ما تمددت لتصل إلى المجال الفقهي، كما أنها تمكنت من التأثير على مجموع العقائد والأصول المعروفة عند المسلمين، ولا سيما أولئك الذين أعلنوا عن موالاتهم للسلطة الحاكمة.

الإجبار على البيعة في المجال السياسي

بحسب السردية السنّية التقليدية، عرف الإسلام المبكر نوعاً من أنواع الشورى وحرية اختيار صاحب السلطة. يظهر ذلك الأمر في الكثير من الروايات التي تحدثت عن النقاش المحتدم بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة، كما يظهر في ما تواتر من أخبار رفض بعض الصحابة مبايعة أبي بكر الصديق، ومن أبرزهم سعد بن عبادة الذي لما أرسل له الخليفة الأول ليأتي ويبايعه رفض وقال: "أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل وأخضب سنان رمحي وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي وأقاتلكم بأهل بيتي ومَن أطاعني من قومي فلا أفعل وأيم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي وأعلم ما حسابي"، فلما وصل جوابه إلى أبي بكر تركه ولم يتعرض له بسوء، بحسب ما يذكر ابن جرير الطبري (ت. 310هـ) في كتابه "تاريخ الرسل والملوك".

رفضُ البعض مبايعة الخليفة استمر قائماً في عهد عمر بن الخطاب، كما أن مصادر كثيرة تذكر أن العديد من الصحابة رفضوا مبايعة علي بن أبي طالب، وأن الخليفة الرابع تركهم ولم يلزمهم أبداً ببيعته.

هذه الطريقة المتسامحة مع المعارضة سرعان ما تغيّرت بعدما وصل معاوية بن أبي سفيان إلى السلطة عقب عقد الصلح مع الحسن بن علي عام 41هـ. يذكر ابن كثير (ت. 774هـ)، في كتابه "البداية والنهاية"، أن معاوية حرص على أخذ البيعة من الجميع، وخطب بعدها بين معارضيه من أهل الكوفة فوضّح سبب قتاله لهم بأنه لا يتعلق بالدين والشريعة، وكان مما قاله: "ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلوا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، قد عرفت أنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، فقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون".

هذا التهديد الصريح سرعان ما سيطل برأسه مرة أخرى في أواخر زمن معاوية، وذلك عندما سيعزم الخليفة الأموي على نقل الخلافة إلى ابنه يزيد، بعد وفاته، وفي ذلك يذكر ابن عبد ربه (ت. 328هـ)، في كتابه "العقد الفريد"، الجملة المشهورة التي قالها أحد الخطباء في حضور معاوية وابنه يزيد: "أمير المؤمنين هذا (وأشار إلى معاوية) فإنْ هلك، فهذا (وأشار إلى يزيد)، فمَن أبى فهذا (وأشار إلى السيف)، فقال له معاوية: اجلس، فإنك سيد الخطباء".

هذا التهديد القولي سيأخذ الشكل العملي بعد شهور معدودة. يذكر ابن الأثير الجزري (ت. 630هـ)، في كتابه "الكامل في التاريخ"، أن معاوية لما عزم على أخذ البيعة لابنه، سافر إلى المدينة عام 56هـ، وتحدث في الأمر مع أربعة من كبار المسلمين في ذلك الوقت، وهم الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، فلما رفضوا ولاية يزيد، أظهر لهم التهديد والوعيد، وكان مما قاله لهم: "إني قد أحببت أن أتقدم إليكم، إنه قد أعذر مَن أنذر، إني كنت أخطب فيكم فيقوم إليّ القائم منكم فيكذبني على رؤوس الناس فأحمل ذلك وأصفح، وإني قائم بمقالة، فأقسم بالله لئن ردّ عليّ أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه، فلا يبقين رجل إلا على نفسه". هذا التهديد نُفّذ بالفعل في المسجد النبوي بعدها بأيام قلائل، عندما بويع ليزيد بولاية العهد، بينما لم يتمكن أي من الرجال الأربعة من أن يعلن عن معارضته مخافةً أن تُقطع رأسه.

إذا انتقلنا إلى السردية الشيعية، سنجد أن مسألة الجبر والإكراه على البيعة قد عُرفت منذ فترة مبكرة، وذلك أثناء تنصيب الخليفة الأول، إذ تؤكد تلك السردية على أن علي بن أبي طالب قد بايع مُجبراً، الأمر الذي ظهر في ما ذكره الشيخ الصدوق (ت. 381هـ)، في كتابه "الخصال"، إذ قال: "إن بعض أنصار علي لما سألوه عن سبب مبايعته لأبي بكر، فإنه قد رد عليهم بأنه لم يجد نصيراً، وأنهم -أي أتباع أبي بكر- قد ‘...قهروني وغلبوني على نفسي ولببوني (قيدوني) وقالوا لي: بايع وإلا قتلناك فلم أجد حيلة إلا أن أدفع القوم عن نفسي".

تفاصيل هذا الإجبار تظهر بشكل أكثر وضوحاً في كتاب سليم بن قيس الهلالي، والذي جاء فيه إن القريشيين وضعوا الحبل في عنق ابن عم النبي، واقتادوه إلى أبي بكر، مع بعض أنصاره، فلما وصلوا إلى الخليفة، أُجبروا على البيعة، ثم تُركوا بعدها لينصرفوا إلى حال سبيلهم.

شرعنة البيعة القهرية في الفقه

في أواسط القرن الثاني الهجري تقريباً، شهدت الساحة الفقهية جدالاً محتدماً حول قضية الإكراه على البيعة، وذلك بالتزامن مع اندلاع ثورة محمد بن عبد الله بن الحسن ذي الأصل العلوي (محمد النفس الزكية) ضد الخلافة العباسية. في تلك الفترة، ظهر النفس الزكية في المدينة المنورة بعد فترة من الاختفاء، وأعلن نفسه خليفةً للمسلمين، وطالب أهل المدينة ببيعته.

رغم شعبيته الكبيرة أُسقط في أيدي الكثير من أهل المدينة، لأنهم كانوا قد بايعوا الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور منذ فترة قصيرة، وهنا تواتر السؤال حول شرعية مبايعة النفس الزكية، وهل يجوز إسقاط بيعة المنصور أم أنها أمر شرعي لا يمكن النكوص عنه؟

تقول رواية إن النبي إبراهيم لما دخل مصر أخفى خبر زواجه بسارة، وادّعى أنها أخته، فأخذها حاكم مصر وحاول أن يغتصبها. كثيرون من الفقهاء تبنّوا صحة هذه الرواية وذهبوا إلى أنه يجوز للزوج أن يترك زوجته لمَن أراد اغتصابها، وذلك في حالة تأكد من أن دفاعه عنها سيؤدي إلى هلاكه

في ظل تلك الحالة الجدلية، أفتى الإمام مالك بن أنس (ت. 179هـ) بجواز بيعة النفس الزكية، وبرر إسقاط بيعة المنصور بقوله: "إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته"، بحسب ما يذكر الطبري.

رغم أن ثورة النفس الزكية باءت بالفشل الذريع بعد مقتله عام 145هـ، إلا أن رأي مالك بقي ثابتاً لم يتغير، وسرعان ما امتدّ الأثر السياسي للثورة المُحبطة إلى آرائه الفقهية بشكل عام، فنراه، أي مالك، يأخذ بالأثر المروي عن عبد الله بن العباس نقلاً عن النبي "إنَّ اللهَ وضَعَ عن أمَّتي الخَطأَ، والنِّسيانَ، وما استُكرِهوا عليه"، فيؤكد على عدم وقوع طلاق المُكره، الأمر الذي استشعر منه العباسيون الخطر على ما أدّاه الناس لهم من بيعة، فقاموا بعقاب مالك وضربه، ونهوه مراراً عن التحدث بتلك الفتوى، ومن جهة أخرى، عملت السلطة على إشاعة ونشر فتوى الإمام أبي حنيفة النعمان ومَن تبعه من العراقيين، وهي الفتوى التي أكدت على وقوع طلاق المُكره.

كان ذلك الخلاف بين الفقيهين أبو حنيفة ومالك إيذاناً بوضع تصور فقهي كامل لعلاقة الفرد العادي بالسلطة، وبموقفه من أحكام الإكراه والجبر التي قد تصدر عنها. على سبيل المثال، سنجد أن العقل الفقهي قد استدعى الآية رقم 106 من سورة النحل {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، والتي ذكرت التفاسير أنها نزلت في عمار بن ياسر لما عذّبه المشركون ولم يتركوه حتى أعلن خروجه من الإسلام، فلما ذهب إلى الرسول باكياً أنزل الله عز وجل تلك الآية، ليطمئن عماراً بأنه لا إثم عليه.

المنظومة الفقهية السنّية همشت كثيراً ما جرى لأبوي عمار، وكيف أنهما عُذّبا لفترة حتى يرجعا عن الإسلام، فرفضا ذلك حتى قُتلا، وأن النبي كان يمر عليهما أثناء التعذيب فيقول لهما: "أبشروا آل عمار وآل ياسر، فإن موعدكم الجنة"، وأكدت أن "أمر السلطان إكراه حتى لو لم يفعل شيء"، كما روجت للمقالة الشهيرة لعبد الله بن مسعود: "ما من كلمة تدفع عنّي ضرب سوطين إلا تكلمت بها، وليس الرجل على نفسه بأمين إذا ضرب أو عذب أو حبس أو قيد".

في السياق نفسه، تم تأويل بعض الأحاديث النبوية بشكل يتسق مع هذا التوجه الفقهي الجمعي، فإذا كان النبي قد أكد في بعض الأحاديث على أنه "مَنْ قُتِلَ دُونَ مالِهِ فهوَ شَهيدٌ. ومَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فهوَ شَهيدٌ. ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ أهلِهِ فهوَ شَهيدٌ"، بحسب ما ورد في سنن الترمذي، فإننا سنجد أن الفقهاء والمحدثين اهتموا على الجانب الآخر بالحديث الشهير المنقول عن أبي هريرة، والوارد في صحيح البخاري، والذي جاء فيه أن النبي إبراهيم لما دخل مصر أخفى خبر زواجه بسارة، وادّعى أنها أخته، فأخذها حاكم مصر وحاول أن يغتصبها، ولما عجز عن ذلك وعرف بزواجها من إبراهيم، ردها إليه ووهبها هاجر كجارية لها.

"الروح الجبرية التي شاعت دفعت الأغلبية الغالبة من علماء أهل السنّة والجماعة إلى القول بأن الله عز وجل هو خالق أفعال العباد سواء كانت تلك الأفعال خيراً أم شراً، وأن العبد ليس عنده قدرة على خلق أي فعل، كبر أم صغر"

وفي الوقت الذي رفض فيه الشيعة والخوارج وبعض العلماء من أهل السنّة -ومنهم على سبيل المثال فخر الدين الرازي (ت. 606هـ) تلك الرواية، فإن السواد الأعظم من أهل السنّة قبلوها، وفسروها بما ورد فيها من درء للمفسدة، ذلك "أن إبراهيم أراد دفع أعظم الضررين بارتكاب أخفّهما وذلك أن اغتصاب الملك إياها واقع لا محالة لكن إنْ علم أن لها زوجاً في الحياة حملته الغيرة على قتله وإعدامه أو حبسه وإضراره..."، بحسب ما يذكر ابن حجر العسقلاني (ت. 852هـ) في كتابه "فتح الباري بشرح صحيح البخاري".

من هنا لم يكن من الغريب أن نجد بعض الفتاوي التي أكدت أنه يجوز للزوج أن يترك زوجته لمَن أراد اغتصابها، وذلك في حالة تأكد من أن دفاعه عنها سيؤدي إلى هلاكه.

على صعيد آخر، اتفقت الأغلبية الغالبة من فقهاء أهل السنّة على إضفاء صفة الشرعية على البيعة القهرية، أو بيعة المتغلب، وهي البيعة التي يأخذها السلطان بسيفه رغماً عن الرعية، وفي ذلك قال أبو الحسن بن بطال القرطبي (ت. 449هـ)، في "شرح صحيح البخاري": "والفقهاء مجمعون على أن الإمام المتغلب طاعتُه لازمةٌ... وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء..."، وفسر ذلك بإنه "إذ قد جرى قدر الله وعلمه أن أئمة الجَور أكثر من أئمة العدل، وأنهم يتغلبون على الأمة".

على الجهة المقابلة، سنجد أن الفرق السياسية المعارضة، أي الخوارج والشيعة، رفضوا شرعنة بيعة الجبر والإكراه، وفي سبيل ذلك استحدثوا مجموعة من الآليات الفقهية التي تتسق مع ذلك الرفض.

فبالنسبة إلى الشيعة لجأوا إلى التقيّة، والتي أظهروا بموجبها موافقتهم وطاعتهم لأحكام السلطة، وإنْ أبطنوا رفضهم لتلك الأحكام. أما في ما يخص الخوارج، فقد قالوا بضرورة الخروج والثورة على الحاكم الجائر، ورفضوا الانقياد له أو الاعتراف بإمامته.

في العقيدة... القدر، والإرادة، وخلق أفعال العباد

أثّرت مسألة الجبر والإكراه كثيراً في المجال العقائدي، وظهر تأثيرها في مجموعة من المناقشات الجدلية التي دارت بين علماء الأصول وعلم الكلام عبر القرون، ومنها على سبيل المثال السؤال المتكرر عن الحرية الإنسانية وعلاقتها بالجبر والتخيير، ومسألة خلق أفعال العباد، والاختلاف بين الإرادة والمشيئة، فضلاً عن قضية العدل الإلهي.

الباحث في تاريخ الأمويين سيجد أن الكثير من الخلفاء قالوا بأن الإنسان مجبر على أفعاله، وأن كل ما يحدث في الحياة إنما هو محض قضاء تم تقديره منذ الأزل. ظهر ذلك في الكثير من المواقف التي احتجّ فيها كل من معاوية ويزيد على أن توليهما الخلافة أمر إلهي لا يمكن تغييره أو الاعتراض عليه. كما تظهر النزعة الجبرية الأموية في الرسالة الشهيرة التي أرسلها الخليفة عبد الملك بن مروان إلى الفقيه الحسن البصري، والتي ورد فيها لوم الحسن لمخالفته مذهب الجبرية وقوله بالقدر، الأمر الذي سرعان ما تراجع عنه الحسن، ليعود مرة أخرى للقول بالجبر.

في هذا السياق التاريخي-السياسي، انتشرت الكثير من الأحاديث النبوية التي تؤكد على معاني الجبر، وأن الإنسان مسيّر لا مخير. من أهم تلك الأحاديث ما ورد في الصحيحين (البخاري ومسلم) عن أبي هريرة من قول النبي: "احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى؛ فَقالَ له مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذي أَخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنَ الجَنَّةِ؟! فَقالَ له آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذي اصْطَفَاكَ اللَّهُ برِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ، ثُمَّ تَلُومُنِي علَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟! فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، مَرَّتَيْنِ".

هذه الروح الجبرية التي شاعت في الوسط السنّي دفعت الأغلبية الغالبة من علماء أهل السنّة والجماعة -سواء كانوا من أهل الحديث أو الأشاعرة أو الماتريدية- إلى القول بأن الله عز وجل هو خالق أفعال العباد سواء كانت تلك الأفعال خيراً أم شراً، وأن العبد ليس عنده قدرة على خلق أي فعل، كبر أم صغر، وأنه إنما يحاسَب على الكسب، بمعنى "أن أفعال العباد، الله -تعالى- خلقها، والعباد باشروها مختارين، فصاروا بها عصاة ومطيعين، فإذن أفعال العباد من الله خلقاً وتقديراً، ومن العبد فعلاً، وتسبباً وكسباً ومباشرةً"، وذلك بحسب ما ورد في كتاب شرح العقيدة الطحاوية لعبد العزيز بن عبد الله الراجحي. وبناءً على تلك الرؤية أثبت أهل السنّة صفة الإرادة لله، سواء في أمور الخير أو الشر، فبإرادته آمن المؤمن ليتنعم بالجنة، وبإرادته أيضاً كفر الكافر ليُعذب في جهنم.

وإذا كان أهل السنّة، الموالين للسلطة الأموية ثم العباسية، قد ذهبوا إلى ذلك الاعتقاد المتسق مع روح الجبر والإكراه، فإننا نجد أن المذاهب المخالفة، والتي شكلت التيار الرئيسي للمعارضة السياسية -وعلى رأسها كل من المعتزلة والشيعة والخوارج- أعلنت عن مخالفتها الصريحة، فنراها أعلت من قيمة العدل الإلهي، حتى أُطلق على أتباع تلك المذاهب اسم العدلية، وصار التأكيد على العدل الإلهي أحد الثوابت المركزية في معتقداتهم، فقالوا: إن الإنسان هو الذي يخلق أفعاله، وإن الله عز وجل لا يخلق الشر أبداً.

وفي السياق نفسه، رفضت تلك المذاهب الفهم السنّي للقدر. فعلى سبيل المثال، نجد أن القاضي عبد الجبار الهمذاني (ت. 415هـ) يشرح مفهوم القدر عند المعتزلة في كتابه "الأصول الخمسة" بقوله: "فأما المعاصي والكفر، فمعاذ الله أن يكون عز وجل خلقها وقضاها وقدّرها إلا بمعنى أنه أعلمنا وأخبرنا عنها كما قال عز وجل: {وقضينا على بني إسرائيل} بمعنى أعلمناهم وكيف يصح أن يكون قد قضى الكفر ثم يعاقب عليه؟". من هنا، فإن المعتزلة قصروا إرادة الله على الأفعال الحسنة فقط، فالله عندهم لم يرد كفر الكافر، ولم يرد فسق الفاسق.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image