شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
لم أر جندياً في حياتي...

لم أر جندياً في حياتي...

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الثلاثاء 19 يوليو 202202:11 م

أيام الصغر، كان الأمل يتجلى في ملامسة أمواج البحر لقدمي، وكنتُ كأي طفل غزي يحلمُ بالبحر طوال أيام الصيف، ولطالما انتظرتُ اللحظة التي يقول فيها أبي: سنذهب إلى البحر. وكنتُ دائماً أتجهز للذهاب كسباح مُحترف، أجمعُ زجاجات فارغة، أغلقها جيداً وأربطها من رأسها بحبل ممتد أضعه على خصري عند السباحة. لم أكن يوماً ماهراً في السباحة، ولكن عقلي استطاع السباحة منذ المرة الأولى التي رأيتُ فيها البحر. ولم يتوقف الأمر عندَ هذا الحد، فلطالما تمنيتُ أن يكون عمي هو أبي، لأنه امتلكَ شغفاً كبيراً في ركوبِ البحر والبحثِ عن الأمنيات القابلة للصيد. وعلى الرغم من أنه لم يجمع عشرين سمكة في حياته، كان دائماً حريصاً على قضاء وقت طويل على متن مركب في عرض البحر رفقة أصدقائه. لم يكن صياداً ولكن الأمر ربما يتجاوز الرغبة في الصيد، إذ هو رغبة في الخروج عن المألوف.

لاحقاً، عندما خرجتُ من غزة وبدأت تربطني علاقات متينة ببحور أخرى كبحر الخليج وبحر إيجة، صرت أحن إلى البحر الأبيض المتوسط كحبيب "يحن إلى حبه الأول". وعندما اصطدتُ أول سمكة في حياتي، امتلكتُ رغبة قوية في تحويل هذه السمكة إلى بحر بلا حدود. حدث ذلك في بحر الخليج في ليلة من ليالي تشرين الثاني/ نوفمبر 2018. يومها لم يكن ثمّة شيء يمنعُ المركب الذي استقللته وأصدقائي من التقدم. ولم ألمحَ كما العادة ضوءاً لسفن إسرائيلية بعيدة. كنتُ دائماً أشعرُ بالخوف عندما ألمحها. وعلى الرغم من أنني لم أرَ جندياً في حياتي، حوى عقلي كان كثيراً من الجنود الذين يقفون في نهاية كل بحر أزوره، وفي نهايةِ كل قصة قصيرة أكتبها. فجأةً وأنا أضعُ سمكةً اصطدتها في الوعاء الكبير، مرت سفينة كبيرة إلى جانبنا، فلم أجد نفسي إلا وأنا أعيد السمكة للماء وأصرخ في أصدقائي: طراد إسرائيلي، طراد إسرائيلي، اختبأوا.

الجندي الذي قتلني

وقفت السيارة ذلك اليوم قبالة البحر مباشرة، في منطقة أطلقَ عليها الصيادون اسم "الميناء" على الرغم من عدم وجود ما يدل على ذلك سوى مراكب الصيادين الصغيرة المرصوصة على الشاطئ. كأن الصيادين ينتصرونَ بهذا اللقب على الاحتلال الإسرائيلي الذي يمنع حتى وجود ميناء في قطاع غزة. نزلنا من السيارة واحداً تلو الآخر، ثم دخلنا إلى الميناء. هُناك كان علي تأمل ألوان المراكب المختلفة التي بدت كقوس قزح تصنعه الشمس على الرمل. صب صيادٌ من الصيادين قهوةً لنا، كنا مجموعة من الكُتّاب الذين قامت جمعية الثقافة والفكر الحر بخانيونس بإجراء مقاربة بينهم وبين الصيادين.

بدأ الصيادون بالحديث توالياً. أول من تحدث كان شخصاً كبيراً في العُمر ممتلئ الجسد. جسدهُ لم يكن يشي بأنه صياد. كان رجلاً مسؤولاً في نقابة الصيادين، وأول ما تحدث عَنه كان ندرة أدوات الصيد التي باتَ يتم تصنيعها بشكل شبه كامل في غزة، ثم اغرورقت عيناه وهو يتحدث عَن مساحة الصيد التي كانت تصل لعشرين ميلاً داخل البحر ما قبل العام 2006، ومساحتها التي لم تتجاوز 9 ميلاً بعدَ ذلك، ثم أخذَ يتحدث عن أعداد الصيادين التي انخفضت بشكل مُحزن خلال السنوات الأخيرة، فبعدَ أن كان عدد الصيادين قرابة 10 آلاف عام 2000 باتَ اليوم أقل من أربعة آلاف، معظمهم يعيش تحت مستوى خط الفقر مع صعوبة إدخال أي قطع غيار تخص المراكب إلى غزة منذ بدء سنوات الحصار.

ثم بدأ بالحديث عَن اعتداء قوات الاحتلال الإسرائيلي على الصيادين، في مشهد جعلني أرى جندياً للمرة الأولى في حياتي، فقَد حولت كلماته إلى مشهد في رأسي وقفَ فيه الجندي مصوباً بندقيته إلى صدري. ومع كل كلمة كان ينطقها الصياد عن جنود الاحتلال الذين يمنعون أحلامنا من تجاوز الحدود البحرية، كنتُ أرى الجندي يقترب، ثم رأيتُ رصاصة تخرجُ من بندقيته ولا تخطئ الهدف. كانت رصاصته بمثابة حديث طويل مختوم بجملة: عليكَ أن تخافني حتى وأنا أقفُ بعيداً في عرض البحر.

الشِباك التي اصطادت أحلامي

"في كل مرة يحمل تيار البحر شباكنا إلى الحدود البحرية مع الاحتلال الإسرائيلي، نذهبُ لنجلبها. في تلكَ اللحظة، يطلقُ الطراد الإسرائيلي النار علينا، فلا نستطيع رفع الشباك من البحر ووضعها في القارب، ويكونُ علينا في كل مرة أن نقص الشباك بالسكاكين، لنخسرها إلى الأبد". عندما قال الصياد محمد صالح اللحام لي ذلك، شعرتُ أن لي في البحرِ شِباكاً أجبرني الاحتلال على قصها يوماً، ربما لم تكن شِباكاً لصيد الأسماك، ولكنها على كل حال كانت شِباكاً أريد اصطياد أحلامي بها ولكنني لم أستطع، فكل الأحلام التي رغبتُ بتحقيقها يوماً اقتصرت على الحدود.

بعدَ أن كان عدد الصيادين قرابة 10 آلاف عام 2000 باتَ اليوم أقل من أربعة آلاف، معظمهم يعيش تحت مستوى خط الفقر مع صعوبة إدخال أي قطع غيار تخص المراكب إلى غزة منذ بدء سنوات الحصار

أكملَ محمد: "عندما تعطل القارب، وصارَ الموجُ يشدنا إلى الحد الفاصل بيننا وبين جنود الاحتلال في عرض البحر، بدأوا بإطلاق الرصاص علينا، كنتُ رفقة صياد آخر على المركب، ولم يتوقف الجنود حينها عن ضخ المياه على مركبنا الذي كادَ ينقلب في عرض البحر. لم أتوقف لحظة عن محاولة تشغيل المحرّك، ولولا تدخل الله لما عاد إلى العمل في اللحظة الحاسمة، ولكان تم اعتقالنا. كان قلبي بين ركبي من الخوف الكبير". عندما سمعتُ كلام محمد، تخيلتُ مشهداً سينمائياً في فيلم يتوقع البطل فيه كل الأحداث التي سوف يواجهها. ولكنه رغم ذلك يمضي إلى حتفه لعدمِ وجود خيار آخر.

قال محمد كلاماً كثيراً عن الصيد وعدم وجود قطع غيار لمحركات المراكب لمنع الاحتلال إدخالها إلى قطاع غزة وغلاء القطع التي يسمح بإدخالها، وعندما سألته عن سبب قيام قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الاعتداءات رغم معرفتهم الكاملة بأنكم مجرد صيادين يسعون إلى رزقهم، قال: "حتى نشعر بالمعاناة".

الخوف مقابل الطعام

"إن اصطدنا أكلنا، وإن لم نصطد لا نأكل. تتراكم علي ديون البنزين الذي أشتريه للمركب، وما زلت إلى الآن أسدد دين الفيبر". هذا ما قاله الصياد أحمد أبو موسى، واصفاً صعوبة مهنة الصيد، والثمن الباهظ الذي يدفعه من أجل القليل من المال. عندما تأملت كلماته، عرفت أن مشهد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة في آب/ أغسطس عام 2005، كان مشهداً عبثياً تماماً، وخروجاً شكلياً تماماً، يشبه الأمر أن يفك الاحتلال قيدَ أسير بعد عشرين عاماً من الاعتقال، ثم يقتله مصوباً الرصاص عليه بعد مرور ساعات معدودة على خروجه من السجن.

بدأوا بإطلاق الرصاص علينا، كنتُ رفقة صياد آخر على المركب، ولم يتوقف الجنود حينها عن ضخ المياه على مركبنا الذي كادَ ينقلب في عرض البحر

عندما قال أحمد: "توفى والدي في العام 2007، ولدي أخت من ذوات الاحتياجات الخاصة. نحن خمسة شباب في البيت، وخمس بنات، ووضعنا صفر. وأنتَ تعرف أن البحر غير مناسب للصيد كل يوم". شعرتُ أن الاحتلال الإسرائيلي حوّل البحرَ إلى كائن ضخم بأطراف قاتلة، في أيام الهدوء يصدرُ أصواتاً غريبة، وفي أيام الحرب يمد يده بالقنابل والمدافع إلى بيوتَ قطاع غزة الحزينة.

احتلالات مستمرة

صحيحٌ أنني لم ارَ جندياً في حياتي، والمرة الأولى التي جلستُ فيها على شاطئ بحر خانيونس وأنا طفل، شعرتُ بأنني سأكون يوماً صياداً أو صاحبَ مركب ضخم يجعلني قادر على التنقل بين المدن والأحلام، ولكن بعدما صعدتُ سلم العمرِ ووجدتُ نفسي شاباً في العشرين، كان علي دائماً أن أعيد حساباتي. وصرتُ كلما رأيت مركباً في عرض البحر أو سمعت قصةً جديدة من صياد لأدونها في قصة أو مقالة شعرت بالسجن. يشبه الأمر أن تُسجن وأنت تشعر تماماً أنك حر. هذا ما فعله الاحتلال بقطاع غزة، لقد حول البحر إلى سجن كبير يكون فيه الصيادون أحراراً إذا لم يتجاوزوا الحد الفاصل ليجمعوا مزيداً من السمك الذي يسدون بثمنه جوعَ عوائلهم.

أذكرُ تماماً ما كتبته يومَ غادرنا ميناء خانيونس متجهين إلى بيوتنا. كانت قصة قصيرة تتحدث عَن صياد يرمي صنارته في البحر، وما يصطاده ليس سمكاً، ولكن بضع ذكريات كان فيها البحر أوسع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image