بالفعل، حدث أن خضت تجربةً قصيرةً في بيع كتب الصغار واليافعين، ضمن إحدى "أسواق المزارعين والحرفيين" المتنقلة في مساحات بيروت المفتوحة على شمسها وهوائها المحمّل بالرطوبة العالية. حصل ذلك بعد حراك النفايات في لبنان (2015)، وقبل ثورة تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وانقلاب الموازين الاقتصادية فيه بشكل حاد، وطبعاً قبل الانتخابات النيابية في أيّار/ مايو 2022، وما نتج عنها من تقلّبات في المزاج السياسي-الشعبي، بل حتى من خيبات لدى من رفع سقف أحلامه عبر الكثير من التّفاؤل. مراراً، ولمرّة كلّ أسبوع، حملت إلى الساحة شبه الخاصة عشرات المنشورات داخل صندوق. هناك، كنت أرتّبه على الطاولة بشكل يشتهيه النظر، وأُجيب بما لدي من معرفة ممزوجة بلطف عن أسئلة الروّاد كما العابرين حول المحتوى والرسومات والأسعار... لأحسب"الغلّة" بعد منتصف النهار، وأكرر خطوات الاستفتاح من أجل الإغلاق والعودة أخيراً إلى البيت.
أرجع إلى بيتي إذاً، وتبقى هناك، خلف "الستاندات" المفرودة، وحتى ساعة متأخرة، مزارعات وحرفيات بينهن من تجاوزن منتصف العمر، ومَن مِن المفترض أنهنّ بلغن سنّ الراحة. وهنّ، بالإضافة إلى ذلك، كنّ يباشرن أعمالهن نفسها من جديد في يوم آخر قريب، إذ كان ذاك السوق يُقام مرّتين في الأسبوع، وفي موقعين متباعدين في المدينة. هكذا، سنحت لي في تلك الأيّام الغابرة فرصة تبادل أطراف الأحاديث مع بعضهن، فأخبرنني كيف يتكبدّن في الحقول البعيدة والمطابخ المخفيّة مهام غير سهلة على الإطلاق، تحددها لهنّ رزنامة الفصول الأربعة. حدثنني عن الزرع والحصاد، وعن التنقيع والتجفيف، وعن التنقية والغسيل والتقطيع، وعن الطهي والتبريد والتوضيب والتعليب بما يحفظ المذاق اللذيذ والأصيل للزبائن، ويحافظ على صحتهم من دون شكّ، كذلك عن محاولتهن خلق نوع من ماركة مسجلّة إلى حدّ ما. أعلمنني أنّ هذا كلّه يليه دائماً وأبداً عبور طرقات طويلة، ذهاباً وإياباً، إلى العاصمة ومنها، مهما كانت أحوال الطقس، وأحوال الأمن أيضاً في بلادنا التي قلّما تشهد مراحل سلام.
لقد بدّلت الظروف مفهوم "أسواق المزارعين والحرفيين"، فلم تعُد باهظةً عموماً كما في السابق، ولا تنحصر في المنادين إلى طريقة غذاء سليمة وصديقة للبيئة، بل صارت أقرب إلى أشكال عمل واستهلاك استجداها عمّال ومستهلكون تبددت مدّخراتهم في المصارف لأنفسهم، أو خسروا وظائفهم أو ما عادت تكفيهم رواتبهم لسداد كلفة الطعام وحده
ومنذ تلك الفترة، تتوالى المصائب على السكّان اللبنانيين واللاجئين والعمال الأجانب، مثلما تتساقط أحجار الدومينو في صفّ بلا نهاية. ولقد بدّلت الظروف مفهوم "أسواق المزارعين والحرفيين"، فلم تعُد باهظةً عموماً كما في السابق، ولا تنحصر في المنادين إلى طريقة غذاء سليمة وصديقة للبيئة، ولا بالباحثين عنها، بل صارت أقرب إلى أشكال عمل واستهلاك استجداها عمّال ومستهلكون تبددت مدّخراتهم في المصارف لأنفسهم، أو خسروا وظائفهم أو ما عادت تكفيهم رواتبهم لسداد كلفة الطعام وحده، وقد تضاعفت إلى ملايين الليرات أسعار الماء والكهرباء المقننة أو المقطوعة من الدولة. أمّا ما لم يتبدل في هذه الفضاءات الرحبة، فهو دور "الستات" الأساسي فيها، من جدات وأمهات لهنّ أولاد شبان وصبايا.
وتشكل تجربة السيدة "مارال تشاكريان" (60 عاماً وتعاني من أمراض عدة وبحاجة إلى عملية جراحية لا تقوى على دفع ثمنها)، نموذجاً عن السردية أعلاه. هي تسهب في قصتها، فتقول إنها كانت تدير سابقاً نحو 200 موظف/ ة في معمل للخياطة. لكن المصنع ما لبث أن أغلق أبوابه، فبرحت بيتها طوال 12 سنةً، إلى أن بات زوجها بلا عمل بدوره ونفد رويداً رويداً كل ما لديهما من مال. ولمّا كانت ذات مرّة تشاهد فيديوهات عبر اليوتيوب، توقفت عند واحد يعلّم صناعة المجسمات من ورق الجرائد، فراقت لها الفكرة، وشرعت في تنفيذها لنفسها أولاً، لتفكر لاحقاً في استثمارها في مشروع للإنتاج المستدام بكرامة ولدرء العوز عن بيتها.
هكذا، سألت عن المعارض المتاحة أمامها، فاستدلّت على "كاراج سوق" في مار مخايل، حيث احتضنتها المُنظمة، وأبت أن تتقاضى منها بدل اشتراك في البداية، بل ابتاعت من منتجاتها بهدف تشجيعها ونصحتها بالتحلي بالصبر كي "تربّي زبائن"، ممن يستهويهم النوع. وما لبثت أن تحققت أهداف المشروع المتواضع، بعد نحو ثلاثة أسابيع، ثم مع مرور الوقت، وسّعت السيدة "مارال" من أعمالها لتشمل حياكة العشرات من جزادين "الماكرامي" ذات الألوان الزاهية والبهية والتي تطلبها نساء يرغبن في القطع الفريدة. أكثر من ذلك، جعلت شريكها في الحياة شريكاً لها في المصلحة أيضاً، يمد لها يد العون كلما اقتضى الأمر.
ثم مع مرور الوقت، وسّعت السيدة "مارال" من أعمالها لتشمل حياكة العشرات من جزادين "الماكرامي" ذات الألوان الزاهية والبهية والتي تطلبها نساء يرغبن في القطع الفريدة. أكثر من ذلك، جعلت شريكها في الحياة شريكاً لها في المصلحة أيضاً، يمد لها يد العون كلما اقتضى الأمر
قد تخرج ربّة أسرة مستورة من إحدى تلك الأمكنة، وفي يديها ما تيسّر من برغل وأرز لتفلفل في آخر الشهر، أو من لبنة وكشك مكبوسين، إذ يتعذّر تشغيل البراد طوال ساعات اليوم، فتستوقفها متسوّلة على صدرها رضيع وحولها بنات وصبيان من أعمار متقاربة. وللفرار من حرج الموقف بذوق ومحبة، يبدو لها أن الجواب الأمثل هو: "الله يعطينا ويعطيكِ ويحمي هالزغار من شرور الكبار ومن هم أكبر بعد ويدركون تماماً ماذا يصنعون".
شاء القدر (ساعي بريد رسائل الكون)، أن أخلص من كتابة هذه السطور في "اليوم العالمي للاجئين"، وخلاله وقعت عيناي على مقطع من بودكاست لـ"سردة"، عنوانه "نحن مش عايشين، نحن على قيد الحياة"، وفحواه أننا غارقون في المأساة الجماعية إلى درجة أننا لا نملك ترف الانهيار الفردي، ثم كلنا سائرون نحو الارتطام. فقط هناك أوّلون ولاحقون وما من ناجٍ بالفعل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي