المشهد معلق في ذهني ولم أنسه قط، كان يومها عيد الأضحى، وكنت أبلغ من العمر 10 سنوات، ألعب وأهرول في الشوارع مع أصدقاء طفولتي، ورأيت صديقي المقرب في أخر الشارع الممتلئ بالبشر يحمل في يده كيساً صغيراً شفافاً فيه قطعة من اللحم، وأخبرني بأعلى صوته أنه يتجه صوب منزل فلان ليعطيه هذه اللحوم، وسيعود سريعاً ليلعب معنا.
ليست المسألة أن كل من في الشارع عرفوا لمن ستكون اللحوم، ولكن الأسوأ أنه كان متوجها إلى منزل صديقنا الثالث الذي كان يقف بجواري متخفياً، وسمع ما قاله الأول فتغيرت ملامح وجهه وتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه بسبب حالة الإحراج التي عاشها أمام الجميع.
العيد هنا في قريتي بدلتا مصر له طابع خاص، كل شيء يتسم بالبساطة، بداية من الصلاة في مسجد صغير ذي مكبرات صوت متهالكة، مررواً بالبالونات القليلة المعلقة على الأبواب، حتى ملابس الناس أنفسهم ليس بها ما يدعو للتفاخر والاحتفال، ليس هناك ملاهي للأطفال بل يكتفون بأرجوحة صغيرة في أخر الشارع وترى الجميع بين مهلل ومبتهج.
حاول علاء وعدد من أبناء القرية تأسيس جمعية تتولى القيام بالأبحاث الاجتماعية، ورصد وتحديث بيانات الأسر والأفراد الأكثر احتياجاً في القرية، وتحديد حاجاتهم من نفقات وعلاج وغذاء وغيرها، إلا أن قيود قانون الجمعيات الأهلية عطلت تلك الجهود مرات متعددة
مشاهد كثيرة اعتدنا عليها لسنوات طويلة، كلها تشير إلى البساطة، إلا أن مشهد واحد ظل معلقا في ذهني وعاش معي منذ طفولتي، وهو توزيع اللحوم في عيد الأضحى بطريقة عشوائية، تتشابه مع توزيع الزكاة على الفقراء في بلدتي، لطالما رأيت فيه شيئاً من التفاخر للأغنياء والمذلة للفقراء، فلك أن تتخيل المشهد، لمجموعة من النساء يتفقن على موعد محدد يخرجن فيه سوياً، كل واحدة منهن تحمل على رأسها "حلة" بها أرز أو دقيق، وجميعهن يتجهن صوب منزل واحد ليعطونه الزكاة، وربما تجيب إحداهن بأعلى صوتها على أخرى تسألها من شرفة المنزل إلى أين يذهبون: "رايحين لبيت فلان نودي الزكاة".
فقراء غير مرئيين
ربما تعود تلك المشاهد إلى عشرات السنوات السابقة وظلت متوارثة، يقول علاء عبد الرحمن، الذي يعمل باحثاً اجتماعياً متطوعاً في إحدى الجمعيات الخيرية: "العشوائية تفرض سيطرتها على عمليات توزيع لحوم الأضاحي، وكذلك في توزيع الزكاة والصدقات، كل قرية وشارع في مصر بات سكانه يحفظون قائمة شبه ثابتة من العائلات والأفراد الذين يتوجه إليهم الجميع للخلاص من مهمة قضاء الفرائض والسنن المتصلة بالزكاة وتوزيع المساعدات ولحوم الأضاحي وشنط رمضان".
يلفت الباحث إلى أن التعامل مع المساعدات الاجتماعية من خلال نافذة أداء الفرائض الدينية وكسب الثواب، كثيراً ما ينحو بالمتصدقين والمحسنين إلى حالة من "الاستسهال" وياب التحري والبحث عن الأسر والأفراد الأكثر احتياجاً، "كما تتدخل في التحكم في شكل المساعدات التي يحتاجها هؤلاء الأفراد التي قد لا تكون طعاماص أو مال، وإنما أدوية مثلاً".
مشهد واحد ظل معلقا في ذهني وعاش معي منذ طفولتي، وهو توزيع اللحوم في عيد الأضحى بطريقة عشوائية، تتشابه مع توزيع الزكاة على الفقراء في بلدتي، لطالما رأيت فيه شيئاً من التفاخر للأغنياء والمذلة للفقراء
يضرب الباحث مثلاً: "على سبيل المثال في بلدتي يوجد قرابة 7 منازل، معروفين لدى أهل القرية بأنهم الأكثر احتياج وذلك لعدم امتلاكهم أراضٍ زراعية أو أية أملاك أخرى، لذا هم وجهة الكثير من أصحاب الأضاحي، والكل يقصدهم دون التمعن في أحوالهم جيداً، وذلك لأن البعض يسعى لأداء السنة فقط ويزيل عن عاتقه مسؤولية توزيع ثلث الأضحية، من دون التدقيق في توجيه هذه المستحقات في نصابها الصحيح، وبالتالي اتضح بعد فترة أن هذه الأسر تجمع لحوم أكثر من أصحاب الأضاحي أنفسهم، ويجمعون كميات كبيرة من زكاة المحاصيل، لذا فإن حياتهم في الغالب مرفهة عن الكثير من أصحاب الأملاك، في يوجد كثير من الفقراء والمحتاجين المتعففين الذين لا يطلبون أو يعلنون عن حاجتهم، ولهذا كنا نسعى دائما إلى إنشاء جمعية خيرية تتولى هذه المسؤولية".
عراقيل قانونية وشكوك أهلية
يوضح علاء لرصيف22، أنه حاول وعدد من أبناء القرية تأسيس جمعية خيرية تتولى القيام بالأبحاث الاجتماعية ورصد وتحديث بيانات الأسر والأفراد الأكثر احتياجاً في القرية وتحديد حاجاتهم من نفقات وعلاج وغذاء وغيرها، إلا أن القيود التي يفرضها قانون الجمعيات الأهلية عطلت تلك الجهود مرات متعددة.
"هناك من يتعاملون مع تلك المساعدات الاجتماعية باعتبارها مصدر للدخل والرغد، وليس بداعي الحاجة"
نجح علاء ورفاقه أخيراً في إشهار الجمعية رسمياً وبدأوا في ممارسة عملهم من خلال إجراء بحث اجتماعي لكل سكان القرية من المانحين والمحتاجين: "اكتشفنا أنه يوجد عشرات الأسر أحوالهم المادية متدهورة للغاية، أكثر من هذه الأسر التي اشتهرت بالفقر في البلد، وهؤلاء الذين تم العثور عليهم مجددا ليسوا واضحين لأنهم يعيشون حالة من التعفف ولا يظهرون احتياجهم أبداً، لذا طالبنا المانحين والمتصدقين بإحضار زكاتهم وصدقاتهم ولحومهم إلى الجمعية وهي من تتولى مسؤولية التوزيع، بالطبع وافق الكثيرين إلا أن هناك العديد من رفض ذلك بحجة: ‘أنا أوزع زكاتي بنفسي علشان اعرف هي رايحة فين’".
ويتابع علاء: "ثمة شيء غريب ظهر بعد إنشاء الجمعية الخيرية، رأيت الكثير من الأسر التي كان الجميع يقصدها في إخراج اللحوم والزكاة يتشاجرون معنا، ويتهموننا بالنظر في أرزاقهم، الأمر الذي أحدث خلافات كثيرة في البلد آنذاك، وذلك لأن الأهالي بدأوا يولون وجهتهم عن هؤلاء ويتجهون إلى الجمعية. وعلى الجانب الآخر رأيت أسر في أشد الاحتياج ولكنها تتعفف وترفض أخذ هذه الزكاة أو النفقات بحجة أن هناك من أحوج منهم"، الأمر الذي يفسره علاء بأن هناك من يتعاملون مع تلك المساعدات الاجتماعية باعتبارها مصدر للدخل والرغد، وليس بداعي الحاجة.
فلسفة ريفية
الوضع في الريف يختلف عن المدينة، فالأسر والعائلات يعرفون بعضهم بخلاف المدن، لذا فإن الوضع سيكون حساساً بعض الشيء، وبالتالي فمن الجيد أن تسير أمور توزيع اللحوم في العيد بسرية تامة واتقان شديد، إلا أن العشوائية تلعب دوراً في عمليات التوزيع.
آليات توزيع اللحوم في عيد الأضحى بالريف تختلف من قرية إلى أخرى، فهناك من يتعامل بسرية تامة حتى لا يتسبب في حدوث إحراج لهذه الأسر وهناك من يجدها فرصة للتباهي. يقول محمد عيد الشاب العشريني، وهو أحد أعضاء الجمعية الخيرية بإحدى قرى محافظة البحيرة، إن "عمليات توزيع اللحوم على الأهلي يحدث فيها بعض المخالفات التي قد تسبب جروحاً لتلك الأسر المحتاجة".
ويضيف محمد في حديثه لرصيف22 أن البعض "يمارسون عمليات توزيع اللحوم في عيد الأضحى بنوع من الفجاجة، مثلاً يجمع البعض اللحوم في أكياس ويضعها على عربة حصان، ثم يتجول في شوارع القرية ويقف عند المنزل وينادي بأعلى صوته أن اقدموا لأخذ حصتكم من لحم الأضحية". وتابع: "هناك من يحمل على كتفه (قفة) بها اللحم، ويمشي في القرية يقصد البيوت المعروفة بذلك، هذه المشاهد كلها ليست سوية ومرفوضة وفيها شيء من عدم الاحترام في التعامل مع الأسر المحتاجة، نحن نحاول الارتقاء وأن يأخذ أحدهم الشيء لا يشعر به جاره حتى لا تكون هناك نظرات جارحة تجاه أحدهم".
ويستطرد: "نسعى في الجمعيات الخيرية بالقرى تحديداً إلى تطبيق مبدأ السرية التامة، حتى لا يشعر أحدا بنقص عن جاره، لذا في الغالب يكون توزيع بعض الصدقات أو الزكاة في الليل، وتقدم بشيء من اللطف".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون