شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
لا نَحِنُّ للعيد... بل نحنُّ إلى ذاك العيد الذي تصنعه أمهاتنا

لا نَحِنُّ للعيد... بل نحنُّ إلى ذاك العيد الذي تصنعه أمهاتنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمشرّدون

الخميس 7 يوليو 202206:10 م

العيد فرحة كبيرة لدى الغالبية.

يحمل في أيامه الكثير من الفرح والسعادة وروائح الكعك والبخور، وزيارات العائلة، والألعاب والمراجيح، والعيديات والحلويات.

أربعة أيام من المثاليات والحب.

البيت نظيف ورائحة المنظفات تفوح من الشبابيك.

لطالما كان العيد بالنسبة لي تماماً مثل حبة شوكولا سيئة مغلفة بورقة لامعة مغرية آخذها وأتركها في جيب المعطف وأنساها.

لكن خلف الأبواب والشبابيك ماذا يحدث؟ ماذا ترى خلف ملابس الأطفال المتشابهة، الذين يحملون مسدساتهم البلاستيكية ويلبسون نفس البناطيل والقمصان والتنانير، ماذا ترى خلف صحن المعمول المحشي بالجوز والفستق والعجوة؟ كيف ترى العيد في العشوائيات؟

كانت أمي تخبئ على مدار العام نقوداً معدنية من فئة الـ25 ليرة سورية، في كيس بلاستيكي شفاف، ترصّه جيداً وتضعه بين ملابسها، منطقة محظورة حتى وقفة العيد.

لطالما كان العيد بالنسبة لي تماماً مثل حبة شوكولا سيئة مغلفة بورقة لامعة مغرية آخذها وأتركها في جيب المعطف وأنساها

تعرف الأمهات أمنيات أبنائهن أكثر من الآباء غالباً ويمكن أن هذا سببه الوقت الذي تمضيه معهم.

تعرف الأمهات كيف تراعي وتنظم وتخبئ قرشها الأبيض ليومهن الأسود. 

تمشي الأمهات في الأسواق قبل العيد، يتجولن ممسكات أيدي أطفالهن بين المحلات، يشتهين كل ما في واجهات العرض المضيئة والمرتبة، يسرحن أمام الزجاج كثيراً ويحسبن على أصابعهن القطع وكم جمعن على مر العام.

تبدع الأمهات بالحساب الذهني ثم يتراجعن، يسحبن خلفهن الأمنيات.

أمنيات تتلخص بملابس جديدة من محل نظيف وأنيق وباهظ الثمن، يمشين وهن يضحكن ثم يقفن عند بائع متجول يشترين بوظة أو عرانيس ذرة، ينظرن إليك ويقلن مبتسمات: "ما في شي حلو بالسوق"

يسايرن أنفسهن وبسايرننا وبمضين نحو المحلات التي تشبههن.

أمنيات الأمهات تتلخص بملابس جديدة من محل أنيق وباهظ الثمن، يمشين وهن يضحكن ثم يقفن عند بائع متجول يشترين بوظة أو عرانيس ذرة، ويقلن مبتسمات: "ما في شي حلو بالسوق"

تعج الأسواق قبل العيد بالناس، بالأمهات وأبنائهن وبمن يشتهي أكثر وبمن يشتري.

لكل مدينة عدة أسواق، منها الفاخرة ومنها المتوسطة ومنها الشعبية أو الأقرب للشعبية، لكنها جميعاً تعتبر باهظة، 

بعد أن تكون قد ذابت أقدام الأمهات في الأسواق الشعبية وغير الشعبية في دمشق كالحميدية والصالحية والحمرا وشارع لوبية وشارع صفد تقفن على الواجهات، ممسكات بأيدي أطفالهن، يعدن فارغات الأيدي. وحدهن يتسللن عند أبو غسان ويخرجن محملات بأكياس ممتلئة بالملابس الجديدة.

لكن البديل دائماً موجود. لكل حارة بديل، محل صغير على أطرافها يعرف صاحبه كل نساء الحارة، يعرف أوضاعهن المادية من أزواجهن الكرماء والبخلاء، ومن التي تفتح حساب دين وتدفع بالتقسيط دون علم زوجها.

وكان لحارتنا أيضاً أبو غسان.

يقع محل أبو غسان بنهاية شارعنا، محل بواجهة زجاجية مهملة غالباً، رفوف كثيرة، وبضاعة موضوعة بطرق عشوائية.

المحل طويل ويتسع لمئة امرأة وأبنائهن.

يضع أبو غسان دفاتر جلدية ضخمة على طاولته مرتبة بحروف أبجدية، تدخل النساء فيجدن حتماً ما يبحثن عنه: جهاز عروس، تجهيزات المدارس، ملابس عيد.. نسواني ولادي رجالي، أزياء العمر المحير. داخلي وخارجي وعرايسي، طقوم صلاة وطقوم سفرة، بيجامات، جرابات. كل شيء يخطر ببالك موجود في هذا المحل.

يعرف أبو غسان من تجهز ابنتها ومن تغير بياضات المنزل ومن تحمل الهم مع أكياس الخضار التي تضعها على طاولة فرد البضاعة.

لدى أمهاتنا قدرة على اكتشاف المحلات النائية التي تبيع بسعر أقل والتي تقبل بالدفع بالتقسيط.

يعرف جزادين النساء الصغيرة السرية، الجزادين التي يخفينها في حمالات صدورهن. يعرف رائحة كل امرأة من نقودها المخبئة في ثنايا جسدها.

لدى أمهاتنا قدرة هائلة على اكتشاف المحلات النائية التي تبيع بسعر أقل والتي تقبل بالدفع بالتقسيط. يفتحن أحاديث بقمة الغرابة مع أصحاب المحلات، يعرفن لحاماً غير الذي نعرفه، وخضرجي غير الذي نعرفه وبقالة غير التي نعرفها.

يحملن هم تنظيم كل الأشياء ومن ثم يجدنها جاهزة مجهزة مبتسمة.

يدخلن محملات بأكياس الملابس وحوائج الكعك، يعرفن كيف يدخلن العيد إلى منازلنا البائسة عنوة.

كلا لا تكتفي أمهاتنا بالتعزيل وحملات النظافة اللامنطقية قبل أسبوع العيد، لا يكفيهن أن ندمر “الفاترينا” التي لا نستخدمها ونعيد ترتيبها وجليها، لا يرضيهن مسح الشبابيك وغسل السجاد وقلب الكنبايات رأساً على عقب. يجب أن يشعرن بنشوة الأشياء الجديدة، 

فيجد الأب الذي ترك لها مصروف أسبوع أن هذا المصروف بات لا يكفي ليومين، فيقف مبهوراً بقدرتها على خلق الأشياء.

لا تكتفي أمهاتنا بالتعزيل وحملات النظافة قبل أسبوع العيد، لا يرضيهن مسح الشبابيك وغسل السجاد. يجب أن يشعرن بنشوة الأشياء الجديدة

لا يعرف ربما كيف توفر أمك ثمن بسكوتة اشتهتها أو تنورة أعجبتها كي تجعلك سعيداً لهذا الحد، الحد الذي يبكينا الآن لأننا نشتاقه.

حسناً إننا نشتاق، نشتاق لرائحة البيت ليلة الوقفة، نشتاق لذلك القدر الذي يجعل شخصاً ما قادراً على أن يحرم نفسه من أي شيء مهما كان بسيطاً ليصنع لك عيداً.

لم يكن العيد مكوناً فقط من الشعائر الإسلامية، بل كان هماً واضحاً جلياً يجعل أمهاتنا يبكين حسرة على وسائدهن قبل النوم. أخذ طابعاً تسويقياً تجارياً بعيداً عن مفهومة الأساسي، فصار عبئاً لمن لا يستطيع أن يخبز في فرنه كعكة.

 لم تأخذ أمي عيديتي يوماً لتعطيها لابنة خالتي، بل كانت قد جمعت عيديات أبناء العيلة على مدار عام كامل.

فكانت تخرجني من المنزل وتقول: “روحي اشتري سندويشة شاورما وكلي".

ماذا عن الشاورما بالعيد؟ لماذا نرى هذا الكم الهائل من أولاد الحارات عند بائع الشاورما بعد صلاة العيد؟ لأنهم ببساطة لم يحصلوا على رفاهية شرائها قبل العيد. نشتري الشاورما والألعاب ونعود بملابس متسخة، كل بقعة على ملابسنا تشبه بقعة دموع أمهاتنا.

 نترك ملابسنا على الأرض وننام بأقدامنا المتسخة على الشراشف التي ركبتها أمهاتنا قبل يوم ثم نستيقظ فنجد ملابسنا نظيفة، مكوية، معلقة بجانب فراشنا.

نجد أحذيتنا ممسوحة من الطين والغبار، والأم واقفة تقلي البيض مع اللحمة، تقلي كبدة الخاروف مبتسمة، وتردد: “يا ليلة العيد آنستينا”. وتقول: “شقفة اللحمة من بيت أبو محمد ماشا لله هبرة الله يتقبل” 

لا نحن للعيد

 نحن نشعر بالحنين لأمهاتنا، لعصاهن السحرية التي ما إن أرادت حتى قالت لأمانينا كوني فكانت.

للأمهات شيء من الصفة الإلهية التي تجعل كل ما هو عادي مثيراً وكل ما هو حزين مبهجاً وكل ما هو مستحيل ممكناً.

ما زالت أمي تخبئ النقود، لكنها تخبئ فئة الخمسين سنت واليورو في كيس يشبه تماماً الكيس القديم، وعندما أشتهي شيئاً تخرجه، تعدّ وتمد يدها وقلبها وتعطيني.

في العيد هنا تطرق أمي الباب وتحمل صحن كعكها الذي ما زال يحمل نفس الرائحة وكأنها حملته من مطبخ بيتنا القديم، وبرمشة عين صارت عند بابي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image