قليلاً ما يكون الحديث في الرواية عن المسكوت عنه في المجتمعات المحافظة، وقليلاً ما نجد الحديث عن المثلية والحالات الخارجة عن الإطار، والجرأة في الأدب، وغيرها، إلا أن هناك كتابات قليلةً عالجت موضوع المثلية الجنسية وفاطمة الزهراء أمزكار نموذج لكاتبة عالجت "تيمة" المثلية في رواية عنونتها بـ"مذكرات مثلية".
الرواية التي منعت وزارة الثقافة المغربية عرضها خلال المعرض الدولي للكتاب الذي أقيم في شهر حزيران/ يونيو الماضي في مدينة الرباط المغربية، أسالت الكثير من المداد بخصوص هذا المنع. فعمّ تتحدث "المذكرات"؟ ومن هي الكاتبة التي دخلت عالم الأدب المغربي، من باب كتابة "الاختلاف"؟
جرأة و"ريادة"
صدرت رواية "مذكرات مثلية"، للكاتبة المغربية الشابة عن دار أكورا للنشر والتوزيع في مدينة طنجة المغربية، مطلع سنة 2022، وقد لقيت تفاعلاً واسعاً بين القراء بحكم أنها من كتب نادرة عربياً تحدثت عن المثلية باللغة العربية، فيما وصفتها دار النشر بأنها رواية تُكتب عربياً للمرة الأولى وبأنها رواية رائدة وجريئة، وتخييل روائي، لا هي بسيرة مخلصة ولا خيال محلق.
هكذا تحدثت أمزكار في روايتها عمّا اكتنف شخصيتها الروائية التي استوحتها من شخصيات عرفتها في الواقع وعاشرتها: "دخان كثيف، شعورهن تتراقص، أمامي رجل أسود اللحية، يشرب الماء الساخن وينفثه، عن يمينه رجل آخر يأكل الزجاج، سمعت الكثير عن سيدي رحال البودالي، وها أنا أرى حفيد بويا عمر، أطعتُ جدتي في نهاية المطاف وقدمت معها، أردتها أن تفهم أن لا بلسم شافياً لقروحي، ولا علاج من دون أنوثة تسكر، صارحت جدتي:
- أنا مثلية.
- ما معنى مثلية يا ابنتي؟
- أميل إلى النساء وليس إلى الذكور في المضاجعة.
- يدك منك ولو أصابها الجذام، سنبحث عن علاج.
يبدأ مسلسل العلاج في الأضرحة وتعيش المرأة المتزوجة، اللذة المسروقة إلى جانب عشيقة، وآلام وأحكام المجتمع المحافظ التي تتعلق بمجتمع الميم-عين.
تقول فاطمة الزهراء التي وُلدت في الأول من آب/ أغسطس سنة 1996، إنها قضت طفولةً شبه عادية شابتها بعض اللقطات المؤلمة التي تخللتها محاولات للخروج من الألم بالقراءة، فتعلمت القراءة وهي في الخامسة من عمرها وبعدها دخلت غمار قراءة النصوص القصصية القصيرة.
"الآن أحاول أن أكون أنا، وأن أخلق لنفسي مدرسةً خاصةً في الكتابة النسائية في المغرب، ولم لا؟ أن تكون كتاباتي مُؤَسِّسَةً لأدب المثلية الجنسية في المغرب"
تحكي الكاتبة التي تعمل في وزارة التعليم لرصيف22، أنها كانت متفوقةً في معظم مراحل دراستها، مع تفوق في المواد الأدبية وتحديداً اللغة العربية، "كنت قارئةً نهمةً، ألتقط الأوراق المتناثرة في الشارع وأقرؤها، وأقرأ ما يصلح وما لا يصلح للقراءة".
وقد عاشت في وسط "محافظ نسبياً، أو متوازن إن صح القول، فالتدين لم يكن متشدداً إلا من قبل بعض أفراد العائلة، أما البقية فتميزوا بالتدين الوسطي، أو ما يصطلح عليه الإسلام المغربي"، تؤكد.
في هذه الوسط المجتمعي، لا تذكر الشابة أن الحديث حول المثلية طفا فوق السطح في المطلق، مما خلف نوعاً من الجهل بالموضوع بالنسبة إليها، فعلاقتها في البداية بالمثلية كانت علاقة جهل وانعدام معرفة بالدرجة الأولى، لكن دخولها إلى الجامعة قادها نحو اكتشاف المثلية عن طريق قصائد أبي الفتح البستي، وأبي نواس المتمرد، ومن هنا كانت الانطلاقة.
أكتب لكيلا أموت نكرةً
لا تتذكر الكاتبة اليوم الذي كتبت فيه للمرة الأولى، لكنها تذكر أن البداية كانت بالشعر إلا أن قيوده أرهقتها لتمر بذلك إلى السرد حيث وجدت حريةً وسلاسةً في التعبير عما يخالجها. كتبت للمرة الأولى بحثاً عن التميز، ورغبةً في نيل رضا أبيها الذي شجعها كثيراً على القراءة والكتابة، لكن مع مرور السنين ومع نوع من النضج الفكري وجدت نفسها تكتب لكي تترك بصمتها في هذا الكون الواسع ولكيلا تموت نكرةً، كما تقول لنا.
تأثرت في بدايتها كثيراً بالكاتب المغربي محمد شكري، وكانت تسعد حينما يقولون إنها محمد شكري بصيغة المؤنث، لكنها اليوم تريد الاستقلال بذاتها، وأن يصبح اسمها علماً. تقول: "الآن أحاول أن أكون أنا، وأن أخلق لنفسي مدرسةً خاصةً في الكتابة النسائية في المغرب، ولم لا؟ أن تكون كتاباتي مُؤَسِّسَةً لأدب المثلية الجنسية في المغرب".
ما دفع فاطمة الزهراء إلى كتابة رواية عن المثلية الجنسية النسائية، هو مجموع الأفكار المغلوطة التي يحملها المجتمع عن هذه الفئة، فهم يرون أن الزواج شفاء من المثلية الجنسية النسائية، ويكرسون لمركزية القضيب التي يهدمها الأدب النسوي. بالإضافة إلى أنها لاحظت شح الدراسات والكتابات التي كانت في هذا الصدد خاصةً في الأدب المغاربي.
تباينت ردود أفعال محيطها وأسرتها بين مرحب ورافض، وهناك من برر رفضه بأنه لا يريد أن يرى اسمهم العائلي "أمزكار"، لا يخصها وحدها، ويجب ألا يُربط بموضوع "منحط" -حسب تعبيرهم- كالمثلية الجنسية.
تقول فاطمة الزهراء إنها لم ترتقِ بعد إلى مستوى التقييم، لكن من وجهة نظرها، الأعمال الأدبية التي تناولت موضوع الجنس كثيرة، والمتأمل في هذه المؤلفات سيجد أن هناك حريةً جنسيةً كبيرةً بين شخصياتها إلا أن هذا لم ينعكس على المجتمع فما زال موضوع الجنس يدخل في خانة المسكوت عنه، ولعل هذا مرتبط بكوننا مجتمعاً لا يقرأ. كما أن هناك بعض الكتّاب ممن يعملون على الجانب الإيروتيكي والجنساني أكثر من جانب الموضوع، فنجد روايات تحمل قصصاً ومواضيع فارغةً وبلقطات جنسية بالجملة.
"المثلية شأن شخصي"
تساءل كثيرون بفضول مريب عن الهوية الجنسية للكاتبة المغربية، وكثيراً ما تردّد السؤال: "هل الكاتبة مثلية كما هو عنوان الرواية؟". بالرغم من أن فاطمة الزهراء أكدت في بعض تصريحاتها أن الرواية متخيلة، إلا أن هذا السؤال يثير استغرابها، إذ إن الموضوع لم يكن ليثار بخصوص مواضيع أخرى، وبالفعل يبدو السؤال عن مثلية الكاتبة مغالطةً ورغبةً في تحويل الكتابة الأدبية لديها، مهما كانت هويتها الجنسية، إلى مجرد "نقل جاف للواقع"، للانتقاص من عملها الجريء.
تتساءل فاطمة الزهراء: "ماذا لو كانوا على حق وكنت فعلاً مثليةً؟ فيمَ سيضرّ هذا؟ ماذا لو كانت بطلة الرواية يساريةً، هل كان القراء سيتساءلون إن كنت فعلاً يساريةً؟ قطعاً لا، ولكن إذا تعلق الأمر بما هو جنسي الكل يتساءلون والكل يعملون على الربط والبحث، هذا لأننا نعشق البحث في السراويل الداخلية للآخرين، ونودّ معرفة ما يستمنون عليه".
الرواية الأولى للكاتبة لم تكن فقط تذكرتها إلى "نجومية" في المشهد الأدبي، بل كانت لها ضريبة أيضاً، هي البعد والخصام مع من لا يدركون الحرية المطلقة للأدب، ومنهم طبعاً معادون للمثلية
تردف الكاتبة: "بصدق هناك بعض من فاطمة الزهراء في الرواية، والكاتب في أول عمل لا يتخلص من ذاته، إلا أن نسب حضور الذات تظل متفاوتةً من كاتب إلى آخر، والمبدع الناجح يجيد إخفاء ذاته بين السطور".
لكن الرواية الأولى للكاتبة لم تكن فقط تذكرتها إلى "نجومية" في المشهد الأدبي، بل كانت لها ضريبة أيضاً، هي البعد والخصام مع من لا يدركون الحرية المطلقة للأدب، ومنهم طبعاً معادون للمثلية. لم تخضع الشابة لهذه الضغوط وقطعت علاقتها مع أغلب الناس الذين أرادوا أن يخرسوا قلمها. "أرادوا ألا أكتب لأن قلمي عورة"، تقول. أما في ما يخص محيطها المهني فإنها تحاول جاهدةً أن تدعه بعيداً عن الكتابة وعن أعمالها الأدبية.
أما في الشبكات الاجتماعية، وخاصةً فيسبوك حيث هي ناشطة، فتقول إنه أول فضاء شجعها على الكتابة والإبداع. وكانت الردود من أصدقائها متباينةً بين مشجع لقلم امرأة تكتب، وبين مصدوم من قلم جريء. وهي تتلقى يومياً عشرات الرسائل التي تحاول تذكّر الإيجابي منها، أما السلبي، خاصةً الكثير من الشتائم والانتقادات التي تلت المنع في معرض الكتاب، فتعمل على حذفها والتعامل معها على "أنني لم أقرأها أساساً، لأنني عندما قررت أن أكتب كأنني أدرت ظهري عارياً للكرباج، فلا يهمني الجلد، بقدر ما تهمني الكتابة"، تختم الكاتبة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...